مركز الدراسات القرآنيةشذور

الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ

  من مظاهر تكريم الله سبحانه للإنسان تعليم هذا الانسان مالم يعلم (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:5] ومن كرمه سبحانه أن أودع في هذا الإنسان قابلية للتعلم والتعليم، بأن جعل له فؤاد وسمعا وبصرا (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [الملك: 23] ومنحه القدرة على الإبصار والاستبصار (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [الصافات: 175] (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [سورة الصافات: 179] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) [القلم: 5].. وهي آيات علامات مقتضاها أن هذا القرآن الكريم هو البرنامج الذي وجب على المسلم أن يعتمده في تبين طريق السير إلى الله وفي تلقي حقائق الايمان الدالة على سبيل الرشاد باتباع واقتداء وتأس بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].

  ومدخل هذا المقام العلي هو التمسك بحبل الله المتين (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170]؛ ولفظ «يمسكون» بالتشديد كما في قراءة الجمهور أو بالتخفيف هو من التفعيل والتكثير؛ أي المستمسكون بعروة الكتاب الوثقى والمعتصمون بحبله في جميع أحوالهم وأوقاتهم وسياقاتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأصعدة، والمقيمون للصلاة آناء الله وأطراف النهار؛ بما هي لفظ كلي جامع لكل الفضائل وأعمال الخير والصلاح، من تأسيس لمشاريع إنسانية علمية أو ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية..

   وفعل التمسك بمستوياته وضوابطه نجد تجلياته ومعالمه التنزيلية في سنة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام قولية وفعلية وتقريرية؛ الذي تلا آيات القرآن حق التلاوة مصداقا لقوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [الجمعة: 2] وقوله سبحانه: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [النمل: 94].. وهو ما بشر به عليه الصلاة والسلام في حديث «أَبْشِرُوا..أَبْشِرُوا.. أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ”؟ قَالُوا: بلى، قَالَ: “فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا» رواه ابن حبان في صحيحه، كتاب العلم (رقم: 122).

   ومن صفات المتمسكين بالكتاب حسن التدبر والتفكر في آياته (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء: 81]، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [ص: 28].. ومن صفاتهم التحصن عن كل ما يصرف عن إتقان القراءة أداءاً ومنهجا وذلك بالاستعاذة بالله سبحانه (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98].. ومن صفاتهم إيلاء القراءة حقها ومستحقها من الحضور والاستيقاظ والتوفز (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].. ومن صفاتهم تلاوة الكتاب، لفظا وسلوكا حق تلاوته (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة: 120].. ومن صفاتهم ترسلهم بالقرآن ترسلا، وترتيلهم له ترتيلا (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 3].

   ومن أهم المحفزات المساعدة على حسن وعمق هذا الاستمداد المنهجي من الوحي، الإيمان بأن النظر فيه تدبرا، وتفكرا، وقراءة، وتلاوة، وترتيلا إنما هو محض تكليف شرعي، له متعلقاته الجزائية في العاجل والآجل، ثم الحرص على حيازة الأهلية لاستثارة آياته، وتثويرها وما يستطيع ذلك من آلات ووسائل مساعدة، وهو ما تنبه إليه الإمام الشاطبي (ت790هـ] بقوله: «إِنَّ الْكِتَابَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ ضَرُورَةً لِمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي؛ نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، وَأَنْ يَظْفَرَ بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، ولا يقدر عليه إلا من زاول مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ، وَإِلَّا؛ فَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ، وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ آخِذٌ بِيَدِهِ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الشَّرِيفِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ» الموافقات (144/4).

  إن تحقيق فعل التمسك واجب تكليفي ومقصد كلي يقتضي الانخراط الفعلي؛ الفهمي والتنزيلي، في موكب أهل الأمانة والطهارة من العلماء الذين حققوا بعضا من أوجه هذا التمسك، واسترشدوا بهدي النبي الخاتم في الاطراح بين يدي كلام الله تعالى، استنطاقا له واستكمالا للصعود إلى عليائه .. فاستفتحوا بذلك صفة الهداية والرضوان إلى سبل السلام (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) [المائدة: 16-15].

د.محمد المنتار

• مدير البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء.
• رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق