g
وحدة الإحياءدراسات محكمة

الوجهة والمرجعية.. إلى أين يتجه المسلمون؟

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.. (البقرة : 147).

عندما كان سياسيو الإسلام وفقهاؤه ومثقفوه في الدولة العثمانية ومصر، يراجعون فقه العيش الإسلامي القديم، ويحاولون النهوض إلى عيشٍ جديد، ما كان لديهم الوقت ولا الاهتمام لقراءة ومراجعة محاولاتهم الجديدة ونقدها. فقد قال عبد الله العروي في “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”: إنّ ثلاث فئاتٍ كانت منخرطةً في صنع هذا الجديد أو فقه العيش أو المدنية: الشيخ الإصلاحي، والسياسي ورجل الدولة، والتقني الإداري.

 ولذا فإننا عندما نحاول تأمُّل ما حدث قبل قرنٍ ونصفٍ أو أكثر، يكونُ علينا الاستعانة برؤى الأجانب الذين كانوا يراقبونهم بأعينٍ ودودةٍ أو مستاءة[1]؛ لقد كان هناك من راقب التجربة السياسية، كما كان هناك مَنْ راقب التجربة التقنية والإدارية. لكنني معنيٌّ هنا بالتجربة الفقهية والثقافية، ليس لأنها كانت تجربةً زاخرةً وفعّالةً آنذاك وحسْب؛ بل ولأنها الأمسُّ بفقه العيش، ولها دلالاتٌ قويةٌ على الاتجاهات العامة للمسلمين والفكر الإسلامي.

 وبالفعل فإنّ كاتباً أميركياً غريباً بعض الشيء اسمه “لوثرب ستودارد”، كتب عام 1910 كتاباً صغيراً سمّاه: “حاضر العالم الإسلامي”. وقد اكتسب هذا الكتاب أهميةً فائقةً لأنّ الأمير شكيب أرسلان عهد إلى عجاج نويهض بترجمته في العشرينات، ثم علّق عليه قبل طبعه تعليقات صافية، لا تهتم بالتفاصيل الجغرافية والسياسية والسكانية فقط؛ بل تهتمُّ أيضاً بالتجديد الفقهي والثقافي. ثم نجد أُستاذاً بريطانياً اسمه “تشارلز آدمز”، يكتب كتاباً مهماً في الثلاثينات من القرن الماضي، اسمه: الإسلام والتجديد في مصر. وفي الوقتِ نفسه يُشرف المستشرق البريطاني (الذي اشتهر فيما بعد) هاملتون غب على إصدار كتابٍ عنوانه: “وجهة الإسلام” (1934). وبهذا العنوان أُغرمَ الرجل، فعاد إلى الموضوع عام 1946 بكُتيِّبٍ عنوانه: “الاتجاهات الحديثة في الإسلام”، أو “إلى أين يتجه الإسلام؟”

وهاملتـون غـب بخلاف آدامز وحتى ستودارد ما كان مغرماً بالتجديد أو التحديث السريع الديني والثقافي للانخراط في العالم الحديث؛ فقد خشي أن يؤثّر التسرُّع في مغادرة القديم على “جوهر المدنية الإسلامية” كما قال. وكانت آخِر التأمُّلات أو المراجعات المعتبرة للحداثة الفقهية والثقافية في عالم العرب والمسلمين دراسة ألبرت حوراني في الستينات من القرن الماضي بعنوان: “الفكر العربي في عصر النهضة”.

 والنهضة التي يقصدها أَلبرت حوراني، تنتهي في الثلاثينات من القرن الماضي. فالتاريخ العربي الحديث عند حوراني بعدها، ليس تاريخ التجديد الإسلامي؛ بل هو تاريخ وتطورات الكيانات الوطنية العربية. فقد ضربت راديكاليةُ مصطفى كمال، وإلغاؤه للخلافة عام 1924، ثقة جمهور المسلمين بأفكار التجديد ومحاولاته، وداخَلَهُمْ هَلَعٌ على الهوية والخصوصية.

وكان من آثار ذلك القَلَق، ظهور موجات مُضادّة للتحديث والتغريب في الدولة والمجتمع تجلّت في سيلٍ من المقالات والكتب ضدّ التبشير والغزو الثقافي الغربي، كما تجلّت في قيام حركاتٍ للهوية هدف بعضُها لبناء ثقافةٍ إسلاميةٍ ذاتيةٍ وخاصة لا تتنكر لقيم الحداثة الأوروبية، لكنها تريد أن تكونَ نِدّاً لها، وهدف البعضُ الآخرُ إلى إعادة تنظيم الداخل الاجتماعي بحيث يستطيع مقاومة الغرب الزاحف ليس من خلال الاستعمارين العسكري والثقافي فقط؛ بل ومن خلال إقامة الدول والكيانات الوطنية في عالم الإسلام على النمط الأوروبي.

ولنعُد إلى نقطة البدء أو ما نحسبُهُ كذلك. فقد لاحظ الشيخ الإصلاحي أنّ نظام العيش في عالم الإسلام أوشك أن يتعطَّل، وصارت المذاهب الفقهية، كما صار التصوف، عبئاً على المجتمعات، وما عاد هناك تلاؤمٌ بين الموجود والمتطلبات والاحتياجات الجديدة. ولذا فقد تعاون الإصلاحي الجديد مع السلفي الجديد في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، والحملة على التقليد، تقليد المذاهب الفقهية، والرؤية المنكمشة للعالم.

وفي حين هجم السلفي على الطرقية الصوفية، وعلى التقليد المذهبي، أضاف الإصلاحي لذلك التنظير المأخوذَ عن المستشرقين والسياسيين الأوروبيين (الذين تعلّم لُغاتهم) بأنّ الحضارة الإسلامية دخلت في ظلُمُات الانحطاط لأكثر من ألف عام! وبالفعل فإنّ السياسيَّ ورجل الدولة، والذي كان قد دخل في عمليات تحديث المؤسستين العسكرية والتربوية على الخصوص، وجد في دعوات الإصلاحيين مخرجاً له وانصرف لإيجاد مؤسسات جديدة، ملتمساً مساعدة الشيخ الإصلاحي في الاستحثاث على مغادرة القديم الديني والفقهي والثقافي والسياسي.

 وهكذا سُرعان ما وجد الإصلاحي والسلفي (وفي المشارق والمغارب) نفسيهما يغادران إلى الإسلام الأول: غادر الإصلاحي إلى القيم الإسلامية الأصيلة في القرآن وزمن النبوة والراشدين، والسلَفي إلى نصوص الكتاب والسنة وسلوك السلف الصالح. فالتجربة الإسلامية الوسيطة (بعد زمن النبوة والراشدين) صارت في وعي الطرفين، بحكم جمود التاريخ والمذاهب كما اعتقدوا، أمراً ينبغي الخلاصُ منه، وحتّى عندما كان الأفغاني وعبده يجادلان الاستراتيجيين الثقافيين الفرنسيين، في مسائل المرأة والمذهبية والجهاد، ما كانا يرفضان إدانة التجربة التاريخية؛ بل كانا يحتجّان لنهضوية الإسلام بالنبي، صلى الله عليه وسلم، والراشدين، وليس بالأُمويين والعباسيين والعثمانيين.

 فالمثال الحاضر كان النهوض الأوروبي، والنموذج المرفوض الماضي هو التجربة التاريخية الإسلامية، والمثالُ المُراد هو الإسلام الأول، إنما من أجل تسويغ الاستمداد من النهوض الأوروبي. وكلا الطرفين الإصلاحي/الإسلامي، والنهضوي الأوروبي، كانا يريدان الخلاص من نظام العيش والتفكير القائم أو المستمر: الإصلاحي لأنه يريد النهوض بعوالم الإسلام كما نهضت أوروبا في مواجهة التقاليد المسيحية الكاثوليكية، والأوروبي المستعمر والمستشرق، لأنه كان يريد إتمام سيطرته على العالم، وهذا التقليد الإسلامي (Islamic Tradition) هو الحائل دون الوصول إلى ذلك لدى الطرفين.ومع أنّ السلفيَّ الجديد ما كان هذا هدفه؛ فإنه كان مهتماً بجرف التقاليد الفقهية والصوفية، لأنها حوائل دون عودة إسلام السلف الأول.

وما كان الجمهور المسلم ونُخَبه القريبة منه راضياً عن واقعه، ولذا سَهُلَ عليه أيضاً مغادرة التقليد بالتدريج. لكنه ما كان واثقاً بالطبع بنوايا وأعمال الأوروبيين، ولا واثقاً بما يعملُ له الإصلاحيون. ولذلك فعندما صُدم بإلغاء الخلافة انصرف لبناء نظام عيشه الثاني بما يكفل استعادتها، إنما على نهج الراشدين. وخلال عقدٍ أو عقدين لا أكثر؛ (أي العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين) كانت توجهات جديدةٌ قد ظهرت، في وعي المسلمين، وفي واقعهم. وما يزال هذا الافتراقُ بين الوعي والواقع قائماً حتى اليوم.

كيف حاول الطرفان: الإصلاحي والإحيائي، بناءَ النظام الإسلامي الجديد؟

أما الإصلاحي فقد صار عملياً براغماتياً أو راديكالياً براغماتياً؛ وذلك بتبنّي المنظومة الغربية، ومحاولة تطعيمها بعناصر إسلامية ليس من أجل تسويقها فقط؛ بل وإثباتاً لنديته واحترامه لذاته. ولذا سارع عبد الرزاق السنهوري لاقتراح عصبة أُمَمٍ إسلامية بديلاً للخلافة، كما سارع إلى إدخال مواريث الفقه الإسلامي في قوانينه المدنية. وفي الوقت نفسه حاول التنظير لتحويل “الشريعة” إلى نظام قانوني تتأسس عليه الشرعية الجديدة.

وصار العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل إلى استعادة شخصياتٍ وبُنى إسلامية مثالية يواجهون أو يقارنون بينها وبين الشخصيات الأوروبية الكبرى: أما الإسلامي المفكر أو الحركي فقد انصرف إلى بناء النظام الإسلامي الشامل من منطلقاتٍ عقائدية. فهذا النظام ما قام في الماضي، بل هو مقتضى القرآن وخلافة الراشدين. ولأنه كاملٌ وله أصل عقائدي؛ فإنه لا يمكن أن يتخالَلَ أو يتجاور أو يتداخَلَ مع هذا القائم، وسواء أكان من النتاجات الغربية أو الصِرفة أو المعدَّلة بمساعي الإصلاحيين التوفيقيين.

وهكذا نالت القطيعةُ مع التقليد من الطرفين؛ الإصلاحي لأنه اعتبر أنّ وراءه فواتاً تاريخياً وانحطاطاً عمره ألف عام، والإحيائي وسواء أكان مثقفاً أو حركياً، لأنه أراد الهرب من مكر التاريخ ومكر الحاضر مرةً واحدة، أراد الهرب إلى اليقين، إلى نظامٍ يصنعُهُ هو بنفسه اعتقاداً منه أنه بذلك يتوافقُ مع التجربة الأُولى.

 هل انتهى التقليدُ بحملات الإصلاحيين والإحيائيين عليه؟

 لقد انتهى بالفعل في المثال والتجربة، لكنه لم يفقد الأمل في القدرة على التجدد؛ إذ استمرّ واقعاً في المؤسسات الدينية أو ما تبقى منها في الدولة الوطنية القائمة. لقد اعتبر رجالاتُ المؤسسات، ورجالاتُ المذاهب الفقهية والتصوف، أنهم دخلوا في زمن الاجتهاد، وأنهم يمثّلون التواصُل والاستمرار في زمن القطيعة أو القطائع الإصلاحية والإحيائية. لكنهم صاروا ينكرون التقليد الذي كان مبرِّرَ وجود، ويستدعون الاجتهاد والتأصيل. ثم إنهم محتاجون للعيش في ظلّ الأنظمة التي تحتضنهم ولذا فهم لا يستطيعون تلبية الرغبات الشعبية في التمرد شأن الحركيين، كما لا يستطيعون الدخولَ بقوةٍ في راديكاليات الإصلاحيين خشيةَ أن تُفضي بهم إلى غُربةٍ عن المألوف والمعروف بالنسبة لهم وللجمهور!

إلى أين يتجه الإسلام؟

في المرة الأولى عندما سأل ستودارد هذا السؤال عام 1910، كان الأمل قوياً في أن يتحرر المسلمون من الاستعمار، وأن يستطيعوا إنشاء دولهم الجديدة، وأن يتمكنوا من العيش في العالم ومعه بنديةٍ واحترام. وفي المرة الثانية عندما سأل هاملتون غب عام 1933 هذا السؤال، كان النضال السياسي ضد الاستعمار، قد بدأ يتوازى مع نضالٍ ثقافيٍّ من أجل إقامة ثقافة وطنية تستمد ذاتيتها من الماضي الإسلامي المشرق. وفي المرة الثالثة عام 1946 كان المسلمون قد افترقوا إلى ثلاث فِرَقٍ حزبيةٍ باسم الدين أو الدولة الشرعية أو المجتمع المهدوي. وفي المرة الرابعة في الستينات من القرن الماضي، عندما سأل ألبرت حوراني هذا السؤال، كان الصَدام قد وقع بين الإسلام العقائدي المتحول إسلاماً سياسياً، والدولة الوطنية المتحولة إلى نظامٍ يقوده الضباط في كل مكان، وصارت المؤسسات الدينية الإسلامية واقعةً بين الأنظمة من جهة والحزبيات من جهةٍ أُخرى، ولا يريد أحدهما بها خيراً: الأنظمة بسبب التقليدية المعارضة للتحديث، والحركات الإسلامية بسبب التقليد أيضاً، والمهادنة للأنظمة!

 أين اختلّت الوجهة؟

حدث الخلل بتلاقي الإصلاحيين والسلفيين والدولة الوطنية المتحولة إلى أنظمةٍ عسكرية، على القطع مع التقليد الإسلامي بما يشمل فقه التعدد والتماسُك الديني في الوقت نفسه، وفقه العيش المتعدد والواحد في الوقت نفسه. إنّ المؤسسات الدينية ثلاثةُ أنواع:

 نوع يعتمد في بقائه على اشتقاق سلطته من المقدَّس تمثيلاً أو تحدثاً باسمه. ومن هذا النوع في إدارة الخلاص الديني المؤسسة الكاثوليكية والمؤسسة الشيعية إلى حدٍ ما. ونوع يعتمد في قوته على البنية الصلبة والعريقة التي ترتبط بها مصالح وتعلُّقات فئات اجتماعية واسعة، مثلما هو عليه الأمر في البوذية والهندوسية. ونوع يعتمد في قوته وفعاليته على اصطلاح الجماعة عليه في القيام بوظائف معينةٍ تخدمُ التماسُكَ والبقاءَ والانتظام. ومن هذا النوع المؤسسات الدينية لدى السنة والزيدية والإباضية والبروتستانت.

والذي حدث حتى الآن؛ أنّ المؤسسة لدى الكاثوليك والشيعة تبدو قويةً وإن تعرضت لضغوطٍ شديدة؛ لدى الكاثوليك بسبب انفكاكها عن ترجرُجات الدولة من جهة، ويتوقف مصيرُها على قدرتها في إقناع جمهورها الشاسع باستمرارها في تمثيل المقدَّس، وإدارة الخلاص بقدسية، وكفاءة. وهي قوية لدى الشيعة لاستمرار ارتباطها بالمقدَّس من جهة، وإصغائها لتجاذُبات الدولة والمنازع الوطنية والقومية من جهةٍ ثانية.

 وقد ضعُفت المؤسسةُ العلمية/الدينيةُ لدى أهل السنة على وجه الخصوص؛ لأنها مؤسسةٌ وظيفيةٌ يعتمد بقاؤها على مدى قدرتها على القيام بالوظائف الموكولة إليها من جانب المجتمعات، التي اضطربت فيها وعليها الوظائف والأهداف. ولذا فإن تحطيم التقليد من جانب الاتجاهات الجديدة الإصلاحية والأُصولية والحداثية في الجماعة؛ أسقط المصالحة والاصطلاح، بسبب ظهور جماعاتٍ وفِرَقٍ متضاربة الأهداف، تَسعى إلى صنعِ مرجعياتٍ خاصّةٍ بها من جهة، وبسبب الانشداد من جانب بعض تلك الجماعات الجديدة إلى هدف الاستيلاء على السلطة، وهو الأمر الذي لا تنفع فيه المؤسّسة الدينية التقليدية وظائفَ وفهماً للأولويات.

هناك اليومَ، بل ومنذ عقودٍ، لدى أهل السنة أربعة اتّجاهات توشك بسبب التوتُّر الشديد الذي أحدثته الصراعاتُ على المرجعية الدينية، وعلى صَون الدين، وعلى السلطة، أن تتحول إلى فِرقٍ بالمعنى القديم للفرقة، وهذه الاتجاهات هي؛ الإخوان والسلفيون والصوفية والجهاديون. وما حدث ذلك مصادفةً ولا تلقائياً، ولا انفرد بذلك السنيون.

 فهناك هذا الخوف الشديد أو القلق الشديد على مصائر الإسلام. وهو شعورٌ غلاّبٌ تُجاه الغرب وحداثته واستيلائه على ثقافة العالم والعصر ومصائرها. وهذا الشعور أو الوعي لا يختلف فيه وعليه كلُّ المسلمين. لكنّهم يختلفون على الأمر اللازم أو التالي لهذا الوعي؛ أي يختلفون على طريقة أو طرائق صَون الدين، وصَون وحدة الجماعة في الوقت نفسه.

وهم يتأثرون في عملهم على هذا الصَون بتجاربهم التقليدية مع مؤسّساتهم، كما يتأثرون برؤيتهم لموقعهم ودورهم في العالم، والإرغامات التي يتعرضون لها. ولنلاحظ أن تجربة الشيعة الإمامَّية مع المؤسسة الفقهيّة ليست تجربةً سُلطوية، لكنّهم من أجل الحفاظ على الدين أعطوا السلطة للمؤسسة، والتوتّر عندهم اليوم ناجمٌ عن أنّ تلك المؤسسة مطلوبٌ منها أن تُؤدّي وظائف ما اعتادت عليها، ولا يمكن أن تَنجح على مديّاتٍ متطاولةٍ في القيام بها.

أمّا الإباضيةُ فقد حدث لديهم العكس، بمعنى أنّ المؤسسة الفقهية انكفأت عن المهمة السياسية التي كانت لها، إضافةً للوظائف الأُخرى. وقد حفظها ذلك من الهزّات العنيفة؛ وإن وَجد بعض فقهائها أنفسَهم منجذبين إلى المثال التاريخي، وبعضهم الآخر يجد نفسَه منجذباً إلى الظواهر الحادثة لدى السنة والإمامية.

 والمؤسسة الدينية التاريخية لدى الزيدية وظيفية الطابع، بعكس الفِرَق الشيعية الأُخرى. لكن لدى الشبّان منهم انجذابٌ شديدٌ اليوم إلى النموذج الإمامي الجديد، المسحور بإمكان وضع السلطة في خدمة الدين، بما يَصون أيضاً الجماعة المهدَّدة، بل ويجعلها تغلب أقرانها وتسيطر عليهم!

 ولنَعد إلى الافتراق أو انقسام المشاعر والأخلاد لدى أهل السنة، وكيف غيَّر ذلك من مواقفهم تُجاه المرجعية الدينية. ينفرد المتصوفة، رغم وجود إحياءٍ قويٍّ في صفوفهم، بالمثال التقليدي للعلائق المسالمة مع الجميع. لكنْ بداخلهم تجاذُبات ناجمة عن الانشداد إلى طرفٍ أو أكثر من الأطراف المتنافسة. وقد كانت مرجعيتهم الدينية دائماً بداخل صفوفهم، إنّما ليست لديهم مشكلة مع المؤسسة التقليدية التي لا تعاديهم.

أمّا الإخوانيُّ؛ فإنه بسبب التاريخ الطويل لمصارعة التغريب في الثقافة والمجتمع، ثم بسبب اصطداماته بالسلطة المتغربة في الدولة الوطنية العسكرية؛ فقد استقر لديه الاعتقاد بأنّ الدين لا يمكن أن يُصان إلاّ في دولةٍ ذاتِ مرجعيةٍ وتطبيق ديني. ولذا فقد تطوّرت لديه مقولةُ الشريعة إلى ما يشبه المذهب القانوني-السياسي، والذي ينبغي أن يوضع بيد السلطة التي يتولّونها هم، فتصون الدين والدولة معاً. وبسبب هذا الاعتقاد الثابت، والعزم المتماسك، فهو لا يرى حاجةً للمؤسّسة الدينية التقليدية في مسائل المرجعية والعلاقة بالدولة. لكنّه مستعدٌّ لإبقائها باعتبارها مؤسّسة تعليمية.

وأمّا السلفيُّ فقد غلبت عليه في المائة عام الأخيرة الصبغة الدعوية ضدّ التقليد، والعيش على نهج السلف الصالح. وقد اطمأنّ إلى قيام الدولة السعودية، فانصرف عن الصدامات مع السلطات، إلى أنّ فجّرت طمأنينته الحداثة الغلابة، والتنافُس مع الشيعة، والتناظُر مع الإخوان. فظهر لديه الجهاديون، كما ظهر المتأخونون. وهو لا يرى حاجةً للمؤسسة الدينية؛ لأنَّها تقليديةٌ من جهة، وتعدّدية أو جامعة من جهةٍ أُخرى، وهو لديه شيوخه ومرجعيته الخاصّة.

وأمّا الجهاديُّ فقد أفاد في ثورانه من هذه التيارات كلّها؛ حتّى من الصوفية النقشبندية. لكنّه أفاد على وجه الخصوص من عقائديات السلفيات الجديدة. وهو يرى أنّه لا طريقة لصَون الدين، ودفع شرور الغرب والسلطات الجديدة في عالم الإسلام، إلاّ بالقتال بالخارج والداخل. ولديه شيوخه ومُفتوه، ولا حاجة عنده للمؤسسة الدينية المراوغة والمسالِمة وغير العنيفة.

  إنّ الإجابة على سؤال الوجهة والمرجعية، وإلى أين يتجه التفكير في الإسلام، قادنا إلى قراءة المواقف من المؤسسة الدينية أو الفقهية، باعتبار أنّها هي التي تُسهمُ في صنع وإنتاج فقه العيش لدى المسلم؛ وإن لم تنفرد بالطبع بذلك.

  وقد تبيَّنَ لنا أنّه في كلّ دينٍ فهناك مؤسسةٌ أو مؤسَّساتٌ لإدارة الخلاص بطريقةٍ ما. وتقوى المؤسّسةُ وتخلُد إذا كانت علاقتُها بالمقدَّس الديني ضروريةً، لأنها في نظر نفسها تُصبح ضروريةً لبقاء الدين. والمؤسّسة الفقهيّة في الإسلام ليستْ مقدّسةً لدى أكثر المذاهب، بل لها وظائف دينيةٌ عباديةٌ واجتماعيّةٌ وأخلاقيةٌ اصطلحت عليها الجماعة معها. وهذه الوظائف هي في الأزمنة الحديثة؛ قيادة العبادات، والفتوى، والتعليم الديني، والإرشاد العامّ. وقد ظهرت تقاليدُ وأعراف لهذه الوظائف والمهامّ عبر العصور.

 بيد أنّ الأزمنة الحديثة ذاتها فرضت تحدّيات خرجت عليها؛ أي على المؤسّسة، من أجل مواجهة هذه التحديات عدّة تيّارات، هدفت لضرب التقليد، واصطناع مرجعيات جديدة، بدلاً من المذاهب الفقهية التقليدية. وبتحطم التقليد ضعُفت المؤسسة، وظهرت لدى تلك التيارات مرجعياتها الخاصّة. بيد أنّ ضعفها ما جاء بسبب الضعف عن أداء الوظائف فقط. بل هو تعبيرٌ عن انقسام الجماعة الكبرى، وجماعات كل مذهب؛ بحيث لم تعد هناك قواسم مشتركة كبرى في فهم الدين والعالم، والعيش فيهما ومعهما.

استناداً إلى هذا كلّه، إلى أين يتجه الدين، أو إلى أين يتجه الإسلام، وما هي ثوابت المرجعية، وخياراتُ الوجهة؟

لنلخِّصْ ما سبق قوله، ولنراجعه لنصل، بعد ذلك مباشرةً، للإجابة على الأسئلة الثلاثة. لقد لاحظ المراقبون الأجانب وجود ركنين للتقليد الإسلامي؛ الأول هو المعني بفقه العيش وترتيباته، والثاني هو المعنيُّ بفقه الدين. وقد أدى الاستعمار، وأدّت الحداثة إلى اختلالاتٍ في العيش وترتيباته وأفهامه وإدراكاته. فنشطت تياراتٌ دينيةٌ وثقافيةٌ إسلامية للتجديد في فقه الدين بقصد إعادة الانضباط إلى العيش وترتيباته وأفهامه وإدراكاته.

وبسبب ظهور عدم التلاؤم بين الفقهين فقد نشطت تياراتٌ دينيةٌ وثقافيةٌ إسلامية للتجديد في فقه الدين بقصد إعادة الانضباط إلى العيش وترتيباته، أو إنتاج تلاؤمية جديدة. بيد أنّ صراعات الوجهة على مدى قرنٍ وأكثر، أفْضت إلى اختلالاتٍ في الفقه الجديد للدين أيضاً. وقد اختلفت الرؤى والمشروعات لمعالجة هذا الاختلال في الفقهين: فقه الدين وفقه العيش. ولذلك لابد من العودة إلى الأصول، أو إلى المرجعية كما أوضحها القرآن الكريم:     ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ (الروم: 29) أو ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ (الروم: 43).

إنّ إقامة الوجه لله، عز وجلّ، هي الأصل في فقه الدين، والمفروض أن يترتّب عليها فقهٌ جديدٌ لتحديد الوجهة في العيش: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ (البقرة: 111). فإسلام الوجه لله يقترن بالإحسان في القصد والعمل، وهو الذي توضّحه الآية الأُخرى في سورة البقرة أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.. (الآية: 148). فالإحسان، إذن، وجهٌ من وجوه الاستباق إلى الخيرات.

وتعبير الخيرات تعبيرٌ شاملٌ يتناول القصد والتوجه والعمل إحساناً واحتساباً. وهكذا فإنّ عمل سائر الساعين لتحديد الوجهة الصحيحة يحدوهم إسلامُ الوجه لله، وهو يتمثل في الاتجاه إلى المتجر الرابح في العمل الصالح، الذي يصفه القرآن الكريم تارةً بأنه الإحسان، وطوراً بأنه الخيرات. وقد يتناول الإحسانُ العمل الفرديَّ على أرض الواقع، بينما تنكشف الآفاقُ للخيرات الحسان في القيم والمقاصد ورؤية العالم والهمِّ الشامل.

  وهكذا فإنّ الإصلاح في فقه الدين من خلال إسلام الوجه لله (وهو المرجعية)، يشكّل المنطلقَ للسير في الوجهة التي تتراوحُ بين الإحسان والخيرات: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 142).

الهوامش


[1]. عالجت مسألتي المرجعية والوجهة من منظورٍ داخلي في مبحثٍ عنوانه: “الدين والمجتمع والدولة: في العلاقات والمرجعيات والمصائر” ونشرته فصلاً في كتابي: أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي، أبو ظبي، 2013، ص39-52.

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق