مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

النّصُّ القُرآنيّ والسَّمتُ النّظميّ ح: 2

 

سنتحدّثُ في هذا العرضِ عن النّصّ القُرآنيّ بوَصفِه كَلامَ الله سُبْحانَه وتَعالى من أوّله إلى آخِرِه، ليسَ فيه حرفٌ مُقحمٌ ليسَ منه، ولا حرفٌ مُسقَطٌ هو منه، ولا حرفٌ مُغيّرٌ عن مَكانِه، ولا حرفٌ زائدٌ يُستغْنَى عَنه، ولا حرفٌ وُضعَ في غيْرِ مَوضعِه وغيْرُه أوْلى منه في ذلِكَ المَكانِ.

وإذا كانَ كلُّ ذلِكَ منفياً عن القُرآنِ الكريم، بدَليلٍ من نُصوصِ القُرآنِ الكَريمِ وتَراكيبِها ودلالتِها، انتَهَيْنا بالعَقلِ والنّقلِ إلى أنّ القُرآنَ الكريمَ من أوّله إلى آخرِه نصٌّ واحدٌ كاملٌ مُتكاملٌ، مُتماسكٌ مُؤتلِفٌ، ليسَ فيه فَراغٌ ولا زيادةٌ ولا نُقصانٌ ولا تَغْييرٌ ولا تَبْديلٌ ولا تَحْريفٌ. فمن أيْنَ جاءَ هذا الائتِلافُ وهذا الانْسجامُ وهذا التّماسُكُ، أو هذه النّصّيّةُ البليغةُ؟ ومن المَعْلومِ أنّ عُلَماءَ عُلومِ الآلَةِ (النّحو والبَلاغةِ والأدبِ) وعُلَماءَ عُلوم القُرآنِ الكريمِ (التّفْسير وعلم أسبابِ النّزولِ والنّاسخ والمَنسوخِ والوَقْف والابْتداء والقِراءات…) وعُلَماءَ الأصولِ والفقهِ، حاوَلوا، على تَفاوُتٍ بينَهُم، أن يُثبِتوا لَنا صِفاتِ الكَمالِ والإعْجازِ والتّماسُكِ والانتظامِ في النّصّ القُرآنيّ، وأن يُثبتوا لَنا أنّ هذه الوحدَةَ إنّما هي وحدَةُ البُنيانِ. فَما هي مَظاهِرُ هذا الجَمالِ في هذا البُنيانِ المَشيدِ؟

الحَقيقةُ أنّ نُصوصَ القُرآنِ الكَريمِ تُعالَجُ من جهةِ كوْنِ القُرآنِ كلِّه وَحدةً بنائيّةً بكلّ سُوَرِه وآياتِه وأجزائِه وأحزابِه وكَلِماتِه، كالجُملةِ الواحدَةِ أو البِناءِ المُحكَمِ الذي يمتنعُ اخْتراقُه لِمتانَتِه وقُوّتِه (1) ، ولا يَقبلُ بِناؤُه وإحكامُ آياتِه التّعدُّدَ فيه أو التّجزئةَ في آياتِه، ولَولا هذه الوَحْدَةُ البنائيّةُ لَما استوعَبَ القُرآنُ “خَبَرَ ما بَعْدَنا” حيثُ استوعَبَ مُستقبَلَ البشريّةِ. وبمَنهج التّعامُلِ بهذه الوحدةِ البنائيّةِ لَن نستطيعَ أن نهتمَّ بجانبٍ من جَوانبِ القُرآن الكَريمِ كالأحْكامِ الفِقْهيّةِ أو الفوائدِ البلاغيّةِ، ونُهمِل الجَوانبَ الأخرى؛ لأنّ مَعانيَ الآياتِ لَن تُسفرَ عن وَجهِها حتّى تُقرأَ في سِياقِها ومَوقعِها وبيئتِها، وتُدْرَكَ العَلاقةُ بينَ الآيَةِ والقُرآنِ الكريمِ كلِّه؛ لأنّ القرآنَ بناءٌ مُحكَمٌ واحدٌ، ونَظمٌ مُتفرّدٌ واحدٌ، تَسري فيه كلّه روحٌ واحِدةٌ تحوّلُه إلى كائنٍ حيٍّ يُخاطبُك كِفاحاً ويَشتبكُ مَعك في جَدَلٍ شاملٍ يُجيبُ بِه عن أسئلتِكَ (2).

لَقَد شُغِلَ جيلُ التّلقّي بالتّعلّمِ للعَمَلِ والتّطبيقِ، وشُغِلَ جيلُ الرّوايَةِ بِتتبُّعِ الرِّواياتِ وتَمْحيصِها، وشُغِلَ جيلُ الفقهِ بإنتاجِ الفِقْهِ للاستجابَةِ لمُسْتجدّاتِ الحَياةِ، وانْتَشَرَ مع مَناهجِ الفُقَهاءِ النّظَرُ الجُزئيُّ في الآياتِ والمُسارَعَةُ إلى الدّليلِ الجُزئيِّ.

ولكنّ المُفسّرينِ بالرّغمِ من اقْتناعِهِم بأنّ القُرآنَ يُفسّرُ بعضُه بَعضاً لم يُؤدِّ انشغالُهُم بالتّفسيرِ إلى الكَشْفِ عن الوَحدةِ البنائيّةِ للقُرآن الكَريم، وقَد ذمّ الله عزّ وجلّ المُقْتَسِمينَ الذينَ جَعَلوا القُرآنَ عِضينَ أي مُفرَّقاً، وآمَنوا ببعضِ الكتابِ وكَفَروا ببعضٍ، وقَد كانَ الذّمُّ كافياً للدّفعِ إلى اكتشافِ مَنْهَجٍ للقِراءَةِ الواحدَة غير المُجَزِّئَةِ لاكْتِشافِ الوَحْدةِ البِنائيّةِ.

/////

وعليه، جاءَ هذا العرضُ ليضعَ اليَدَ على أهمّيّةِ المُقاربَةِ النصّيّةِ اللّسانيّةِ في مُعالجَةِ دلالاتِ النّصوصِ وبنياتِها، حتّى يبلُغَ بهذا المنهجِ اللسانيّ النّصّي درَجَةً من الدّقّةِ في فهمِ النُّصوصِ، ويتجنّبَ المَزالِقَ في الفهمِ ومواطنَ الخَللِ فيه، وهي مَزالقُ ناتجةٌ عن إخراجِ النصِّ عَن مواضعِه ومَقاصدِه، والنّصّ القُرآنيّ الكَريمُ أوْلَى النّصوصِ بالعنايَةِ والاهتمامِ، وهذا بابٌ كبيرٌ من أبوابِ العلمِ ينبَغي أن تُصرَفَ إليه العنايةُ، ويبلُغَ في ذلِك العُلَماءُ الغايةَ، وفي ذلك قالَ الحافظُ أبو الفَرج ابنُ الجَوْزيّ: «لَمّا كانَ القُرآنُ العَزيزُ أشْرَفَ العُلومِ كانَ الفهمُ لمَعانيهِ أوْفى الفُهومِ؛ لأنّ شرَفَ العِلْمِ بشَرَفِ المَعْلوم» (3). وقَد بدأ يظهرُ في ساحةِ المَناهجِ مُقارَباتٌ نصيّةٌ حَديثةٌ تَقومُ على الْتماسِ مَواطنِ الانسجامِ والتّماسُكِ في بناءِ النّصِّ القُرآنيِ والبَحثِ عن كلّ عَناصِرِ التّسانُدِ في البنيةِ اللفظيّةِ والمَضمونِ الدّلاليّ والمَقاصدِ الشّرعيّةِ، التي تَقودُ إلى طريقٍ نَهْجةٍ في النّظرِ السّديدِ والتأويلِ المُفيدِ، بعدَ أن نالَ التّفْسيرَ ما نالَه من شَططٍ في الفَهمِ وابْتعادٍ عن روحِ النّصّ ومَقاصدِه العُلْيا.

ففي المُقاربَةِ النصّيّةِ ما يخدمُ الغرَضَ ويُفيدُ في الاستدلالِ على أسرارِ النّصّ القُرآنيّ وأعماقِه الجَماليةِ والنّصّيةِ، التي ترتكزُ على الاستمدادِ من بنيتِه النّصّيةِ نفسِها، التي تتوافقُ وسياقَه الخارجيّ ومَقاصدَه العُلْيا ولا تُعارضُها، وفي هذه المُقاربةِ النّصّيّةِ أيضاً ردّ حجاجيٌّ بُرهانيٌّ على الأقاويلِ التاريخانيّةِ والأباطيلِ التأويليّةِ والنّظريّاتِ الفلسفيّةِ المُستوْرَدَةِ التي تعْتسِفُ الطّريقَ إذْ تتّخذُ من النّصِّ القُرآنيِّ، قَسْراً، مطيّةً لشحذِ أسلحَتِها وتُحمِّلُه وُجوهاً من الفهمِ وأفكاراً بعيدةً لا يُؤيِّدُها السياقُ الخارجيُّ الذي أحاطَ بنزولِ النّصّ ولا يُؤيِّدُها الخِطابُ العلميُّ الذي رافَقَه وبيّنَ مَنهجَ فهمِه وتنزيلِه والاستنْباطِ منه، من سيرةٍ نبويّةٍ وسنّةٍ وسِيَرِ صَحابةٍ واجْتهادِ عُلَماء وتَفْسيرِ مُفسِّرينَ واستبْاطِ فُقَهاء، معَ التأكيدِ أنّ الاعتِمادَ على تلكَ العَتباتِ أو النّصوصِ المُوازِيَةِ والمُرافِقَةِ، لنْ يُسقِطَ عن النّاظرِ في النّصّ القرآنيّ، العارِفِ بشروطِ الفهمِ والتّفْسيرِ وقَواعدِ الاستنباطِ، الإقْرارَ بأنّ بَسطَ الدّين على واقع النّاس لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبارِ قَضايا العَصر ومُشكلاتِ النّاس الذين هم مَحلّ الحكم الشّرعيّ، وهي أمورٌ وقَضايا تستلزمُ البحثَ في عُلوم الآلة الجديدة، المُسمّاةِ اليومَ بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، فإنّ هذه العلومَ المُستحْدَثةَ تُعدُّ إلى جانبِ الأدواتِ القَديمةِ المألوفَةِ، أدواتٍ ضروريّةً لفهم الواقع وإدراك أبعاد الإنسان. وتُقدّم من المعارف والنّتائج ما تُصبح معه ضرورةً شرعيّة .

إنّ تنزيلَ أحكام الشّريعة المستنبَطة من النّصّ القرآنيّ على واقع النّاس إنّما يُراعَى فيه هذا الواقعُ بأعرافِه وتقاليدِه ونُظُمه وأسْلوبِه في الحياة وثَقافتِه وفكرِه، وهي خُصوصياتٌ جديرةٌ بأن تُراعَى في فَهمِ النصّ والاستنباطِ منه لتنزيل الأحكام، إذا كانَت تستحقُّ ذلِك ولا تُعارِضُ صريحَ الدّينِ والقَطِعيّ من الأحكامِ، فيكونُ هذا الاجتهادُ في فهم النّصّ واستيعابِ حقيقتِه مَبنيّاً على أدَب خاصّ وقواعدَ تتناسبُ وطبيعَتَه، وتُستخدَم فيه وسائطُ آليةٌ للتّحليل والتّصنيف والرّصد، قائمةٌ على أسُسٍ علمية غير مَتروكةٍ للتلقائيّة والعفويّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طه جابر العلواني: الوَحْدَة البِنائيّة للقُرآنِ المَجيد، سلسلة دراسات قرآنية (3)، مكتبة الشّروق الدّوليّة، القاهِرة، ط.1، 1427هـ/2006م.

(2) انظُر تفصيلَ الفكرَة في كتابِ الوَحْدةِ البِنائيّة، ص: 11-20.

(3) زادُ المَسير في علْم التّفْسيرِ، لابْن الجَوْزيّ، تحقيق أحمد شَمْس الدّين، دار الكُتُب العلميّة، بيروت، 2002م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق