مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةمفاهيم

النظر الإبستمولوجي ضرورته ومعناه

النظر الإبستمولوجي ضرورته ومعناه[1] 

الابستمولوجيا ـ باللفظ وبالمعنى التقني للكلمة ـ لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر. ففي فرنسا، قبل ظهور ملحق القاموس المصور عام 1906 بقليل، كان هذا المفهوم قد بدأ يتكون في موسوعة جان لورون دالمبير (1717-1773) Jean Le Rond D’Alembert، حيث ظهرت بعض المعاني الجديدة. وفي النصف الأول من القرن 19م سيظهر كتاب أوجست كونت A. Comte “دروس في الفلسفة الوضعية”، أعطى فيه نظرية للعلم قائمة على تصنيف جديد للعلوم. وفيه سيدخل علم الاجتماع بديلا لكل الدراسات الفلسفية، ويقول: علينا أن نخلق علما جديدا يبحث في العلاقات بين هذه العلوم، وكيف يمكن خلق التركيب الذي يربط بعضها ببعض، وهو العلم الذي سيحمل اسم فلسفة العلوم: وهو فرع علمي جديد مهمته وصف المعارف العلمية وتصنيفها، وبيان موقع العلم في صنافة العلوم، ووظيفته في علاقته بالعلوم الأخرى. فالتخصصات العلمية لا ينبغي أن تبقى مشتتة يتلاعب بها الفلاسفة المشتغلون بالميتافيزيقا، بل ينبغي أن يوجد فرع علمي أعلى يدرس التعميمات العلمية، فيحدد روح كل تخصص علمي ومبادئه، ويكشف عن العلاقات بينها، ويستخرج المبادئ العامة المشتركة بينها. إذن، فالإبستمولوجيا من حيث هي فلسفة للعلوم تقوم بخطوتين: الأولى: وصفية: وصف العلم وتصنيفه، والثانية تركيبية: وظيفة العلوم وعلاقتها فيما بينها.

تيار كونت الوضعي طوره بعد ذلك إرنست ماخ في ألمانيا في نهاية ق 19، وفي هذه المرحلة إلى حدود ق20 كانت العلوم الطبيعية تعيش أزمة: أزمة الأسس[2]، وهي أزمة تهم اليقين العلمي في ذاته حيث تمت زعزعة اليقينيات العلمية السائدة، وبدأنا نشهد تيارات ونظريات مختلفة داخل المجال العلمي مما وضع فكرة اليقين والثبات في الحقائق العلمية موضع شك.

هذه الأزمات أدت إلى تطوير الإبستمولوجيا مع بداية القرن 20 حيث سيكتمل المعنى التقني للإبستمولوجيا وسيظهر في ملحق القاموس المصور في 1906: “الدراسة الوصفية التحليلية والنقدية للمعرفة العلمية”[3].

ثم شهد هذا المصطلح انتشارا كبيرا من فرنسا إلى بريطانيا وألمانيا وظهر أعلام آخرون انشغلوا به أكثر، منهم: بيير دوهيم P. Duhem الذي اشتهر ببحوثه الأصيلة في الفيزياء النظرية وكتاباته المهمة في تاريخ العلوم وفلسفتها[4]. إلى جانب كونه مستشرقا كتب في (مصادر الفلسفة الإسلامية) قولا مهما، وبرتراند راسلB. Russel، الذي ألف مع وايت هيد A. N. Whitehead كتاب (مبادئ الرياضيات) Principia Mathematica بين 1900 و1911، وهو قول فلسفي في الرياضيات، وهنري بوانكاري H. Poincaré الذي يقف على عتبة إنشاء المصطلح بالمعنى الجديد[5]، وليون برانشفيك L. Brunschvicg الذي اشتغل بالأسس النفسية للمعرفة العلمية[6]، وهي زاوية مهمة من النظر الابستمولوجي: كيف يفكر العالم؟ لماذا اختار هذه الطريقة في الكتابة والتصنيف؟ هل هناك مؤثرات نفسية في كل ذلك؟ وهو نظر سيطوره غاستون باشلار G. Bachelard شيخ الإبستمولوجيا الفرنسية حتى مطلع الستينيات من القرن الماضي رابطا بين التحليل والنقد في عمل الابستمولوجي.

تحت خاصية التحليل يدخل: تحليل لغة العلم. وقد تصدرت له المدرسة التحليلية الأنجلوسكسونية، وهيمنت على فلسفة العلم فترة مهمة. ولكن مفهوم التحليل ـ بما في ذلك التحليل اللغوي نفسه ـ أوسع بكثير مما أخذت به تلك المدرسة[7]. وثمة بعد ذلك التحليل النفسي الباشلاري للمعرفة العلمية، الذي يجتهد في البحث عن العوائق الإبستمولوجية ودورها في عمل العالم خاصة وفي تاريخ العلوم عامة.

وأما النقد فيتفرع إلى عملين أساسين:

عمل تاريخي: وهنا سيصبح تاريخ العلوم أحد الميادين المهمة في الدراسة الإبستمولوجية، لأن بعض المراحل قد تلغي مسائل مهمة في المراحل السابقة. مما دفع إلى تجديد النظر في مشاكل العلوم وأخطائها، حيث أصبح الخطأ عنصرا أساسيا في العلم. وإنما المقصود بالخطأ: ذلك الخطأ البنيوي الداخل في بنية العلم[8]، أعني: موضوع العلم (أي: المادة العلمية والمفاهيم العلمية)، ومنهجيته أو مناهجه، ونتائجه ونظرياته.

ومن الأمور المثارة في هذا الجانب: المرحلية أو التحقيب في العلم، فالأخطاء قد تؤدي إلى انقلابات وثورات في العلم تفضي إلى تغييرات في مسار العلم: (في النظرة إلى الموضوع والمناهج والنظريات). وهذه فكرة لغاستون باشلار، الذي كان أول من أثار مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في العلم[9]. ثم سال مداد كثير في موضوع القطيعة والتراكم، أو الانفصال والاتصال في تاريخ العلوم خاصة، وفي النظر الابستمولوجي للمعرفة العلمية عامة. وخاصة بعد استعمال طوماس كون T. Kuhn مفهوم الثورات أو الانقلابات في الأنساق والتقاليد العلمية التي سماها بالبراديغمات. وصار حصاد النظر الابستمولوجي للمعرفة العلمية غنيا بالأسئلة التي ينبغي على كل علم أن يواجهها في ذاته: سواء على مستوى الموضوعات والمفاهيم، أو على مستوى المناهج والأساليب، أو على مستوى النظريات وطبيعة اليقين العلمي. وكذا الأسئلة التي ينبغي على كل علم أن يواجهها في علاقته بغيره: تصنيفا وترتيبا، أو تكاملا وتفاعلا.

عموما، فإن مصطلح فلسفة العلوم من حيث هو ضميمة اصطلاحية: يعني الاشتغال على نتائج المعرفة العلمية على عدة أنحاء متراتبة، فتكون:

1: تركيبا، فيقتصر عليه: وذلك بتصنيف العلوم وإنجاز دراسات أو اعتبارات تمثل درجة رفيعة من العمومية، وتنزع إلى رد كل نظام معرفي إلى عدد قليل من المبادئ الموجهة، كما رأى أوجست كونت A. Comte (1798-1857م)[10].

2: أو تحليلا منطقيا للغة العلم، وهو نوع آخر من القراءة الأمبريقية للعلم، قامت به المدرسة الوضعية المنطقية التي تزعمها أعلام كبار، أمثال رودولف كارناب R. Carnap وهانس ريشنباخ H. Reichenbach  وكارل هامبل Carl Hempel  وإرنست نيجل E. Nagel وآرثر باب Arthur Pap  وغيرهم[11].

3: أو بحثا وصفيا وتاريخيا ونقديا للمعرفة العلمية، من حيث الأسس العلمية العامة، أو من حيث الموضوعات والمناهج والنماذج النظرية الخاصة. كما يرى غاستون باشلار G. Bachelard (1884 – 1962) والإبستمولوجيون مثله. وهذه هي فلسفة العلوم من حيث هي إبستمولوجيا Epistémologie كما يعرفها لالاند A. Lalande بقوله: إنها: “الدرس النقدي لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها ونتائجها، الرامي إلى تحديد أصلها المنطقي، وقيمتها ومداها الموضوعي”[12].


[1] ـ من مقال: العلوم الإسلامية ومدخل الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم للدكتور إدريس نغش الجابري، مجلة الدليل العدد الأول.

[2] ـ أعني الأسس هي تقوم عليها مناهج العلوم ونظرياتها: كالبديهيات والمسلمات والتعريفات في النسق الرياضي الأقليدي. وهي أزمة عمت كل العلوم: الفزيائية والرياضية…

[3] ـ لالاند يستعمل لفظ مبادئ العلم وفرضياته، كما سننقل عنه في هامش لاحق.

[4] ـ وخاصة كتابه: النظرية الفيزيائية: موضوعها وتركيبها La Théorie Physique: son objet, sa structure وكتاب: نظام العالم Le système du monde. وكان إلى جانب ذلك مستشرقا له كتاب (مصادر الفلسفة الإسلامية) ترجمه أبو يعرب المرزوقي.

[5] ـ وقد ألف كتبا كثيرة من أهمها كتاب (الخواطر الأخيرة) Dernières Pensées كتبه في آخر سني عمره وضمنه نظرات مهمة في فلسفة العلم.

[6] ـ وهو ـ بخلاف تيار ماخ وكونت الوضعي ـ ذو نزعة مثالية نقدية، له كتبات مهمة في فلسفة العلوم، منها (مراحل الفلسفة الرياضية) Les étapes de la philosophie mathématique (1912) و(الخبرة الإنسانية عن العلية الفيزيائية) L’Expérience humaine de la Causalité Physique (1922).

[7] ـ فقد تكون الدراسة المصطلحية ـ مثلا ـ زاوية نظر إبستمولوجية مهمة، نظرا لعنايتها بالتعريفات والمفاهيم. فالمفهوم هو أعلى مستويات التجريد في العلم وتعريفه عملية صعبة مركبة من عدة خطوات استقرائية وتحليلية وتركيبية ومقارنة..

[8] ـ الخطأ قد يبدو في جزئية وأفراد، ولكن إذا كان مرتبطا ببنية العلم، وكانت له وظيفة في تطوير تاريخ هذا العلم، فهذا هو المهم من زاوية النظر الابستمولوجية.

[9] ـ فمفهوم القطيعة مرتبط بالمرحلة: فالقطيعة هي هوة سحيقة بين مرحلتين كبيرتين من تاريخ العلم، تختلفان في أسسهما ومناهجهما ونظرياتهما العلمية.

[10] ـ ينظر:

 Comte, A. cours de philosophie positive, Préface de E. Littré,Paris, 1864, Tome 1, 1ère leçon, p. 16-18

ولذلك سماها كونت بالفلسفة العامة (ينظر الدرس 57 من المجلد 6 من المرجع نفسه).

[11] ـ ينظر الكتاب الجامع لكثير من مواقف هؤلاء الأعلام: “قراءات في فلسفة العلوم“، تحرير باروخ برودي، ترجمة نجيب الحصادي، دار النهضة بيروت، 1997، وكما بين آرثر باب: فإن الفلسفة التحليلية صنفان: منطق عام للعلم أو مناهج البحث العلمي، وفلسفات العلوم المتخصصة، وهي تعنى بالصعوبات المفهومية التي تتعلق بعلوم لعينها. ينظر: مقدمة في فلسفة العلم: آرثر باب، ترجمة: نجيب الحصادي، نشر اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلان، ليبيا، ط1، 2006، ص 12-11.

[12] ـ لالاند، أندري: موسوعة لالانـد الفلسفيـة، تعريب خليل أحمد خليـل، منشورات عويدات، بيروت ـ باريس، ط 2، 2001، ج 1، ص 357. ويلاحظ بلانشي صعوبة الفصل بين اللفظين بسبب قابلية مصطلح فلسفة العلوم للتمدد والانكماش، ففي البداية كانت تعني ربط هذا العلم بالعالم وبالمجتمع، أو ربط العلم بمجموع القيم الإنسانية التي يوجد فيها، أو استثمار نتائج العلم في مجال فلسفة الطبيعة، أوالتحليل المنطقي للغة العلم. ينظر:

Blanché, R. L’épistémologie, PUF, Paris, 1972, p 16

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق