وحدة الإحياءدراسات عامة

النص الشرعي وبناء مفهوم التأويل

يندرج تحديد مفهوم النص الشرعي وتلقيه من لدن الإنسان ضمن رؤية تصورية كلية جامعة لقوانين إدراك علاقة الوحي الإلهي بالوجود الإنساني وفهم جدليته مع الواقع التاريخي، وتقوم هذه الرؤية على اتساق الروابط العلمية وتماسكها بين وحدانية الله تعالى والإنسان والعالم، فلا تستبان وحدة العالم وائتلاف مكوناته وكذلك وحدة الوجود الإنساني وانسجامه مع العالم إلا في سياق المعرفة التوحيدية التي تشكل الإطار المرجعي لسنن الاتصال والتخاطب التي ينتظم بها وجود الموجودات، بحيث تعتبر كل السنن التي يزخر بها الكون الفسيح منسجمة مع سنن التخاطب في بيان رسالة غائية دافعة للعبثية والسدية عن انسجام السنن الكونية وتوازنها بما يحقق مقتضيات أحوال التخاطب الناطقة والصامتة في إيجاد المصالح المترتبة عن ترابطية الركائز الثلاثة المكونة لأقوى رسالة تواصلية تخاطبية وهي:

ـ الأولى؛ كون الله تعالى ملقيا لقول ثقيل.

ـ الثانية؛ كون الإنسان متلقيا للقول الإلهي.

ـ الثالثة؛ كون العالم مجالا واسعا من المسخرات لتنزيل القول الإلهي وتكييفه.

ومحور هذا العمل التواصلي التخاطبي هو وحي الله تعالى، فخطاب الله تعالى لغة وحيه التعليمية والتذكيرية، وخطاب الإنسان لغة تلقي الوحي من الله تعالى، وخطاب الكون قائم على لغة التسخير ومجال الاستخلاف.

فالخطاب نص محكوم بنظام لغوي حامل لرسالة محددة الوظائف والغايات، وهذا النظام هو بمثابة قانون مميز للنص اللغوي الشرعي عن النص اللغوي البشري عن النص اللغوي (الدلالي) الصامت للمسخرات الطبيعية، وجدلية هذه النصوص هي أساس فهم متحرك ومستمر لعلم معاني الوحي والكون يبرز في أوجه علمية متعددة تكشف بوضوح عن إشكالات علاقة النص الشرعي بالمتلقي في التاريخ الإنساني.

ومن الوظائف التي يتميز بها النص القرآني وتنشئ حركية لدى المتلقي في فهم علاقته بالكون وبالواقع الإنساني ثم الاسترشاد بها في صياغة تاريخه وبناء حضارته، وظيفتان:

الأولى؛ الوظيفة العطائية لكلماته التي لا تنفذ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان: 26).

الثانية؛ الوظيفة التأثيرية: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر: 21).

وقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر: 22).

فالعطائية والتأثيرية مفهومان ينفيان عن النص القرآني كونه نصا لغويا منغلقا وكونه منتجا تاريخيا اجتماعيا انقضت قوانين تفاعله مع الواقع الإنساني في الصيرورة التاريخية. وبين العطائية والتأثيرية تتأسس نظرية التأويل الجامعة بين النص القرآني والمتلقي باعتبارين:

الأول؛ أن بناء مفهوم النص الشرعي للتأويل بناء معرفة وآلية لإنتاج المعرفة تكشف تاريخية التأويل وتفتح العقل لتأسيس الفاعلية النقدية للخطابات التأويلية في الماضي والحاضر، فاعلية نقد للمعرفة التاريخية التراثية ونقد للمعرفة الغربية المهيمنة في الزمن الحديث والمعاصر. وهما المعرفتان اللتان تؤسسان الاتجاهات التأويلية المتدافعة والمتصارعة في المجال الإسلامي المعاصر، مما يكشف أن الإشكالية الحضارية في هذا المجال إشكالية تأويلية للنص الشرعي والتاريخ وللذات والآخر.

الثاني؛ المتلقي وهو الجامع بين النص الشرعي والتاريخ، فهو قارئ للنص وفاعل في التاريخ، وعلى القراءة والفاعلية تتأسس إشكالية البحث التأويلي بأبعادها المتعلقة بالتوحيد والتزكية والاستخلاف والمتعلقة أيضا بالسياسة والفلسفة والتاريخ والجمال.

فالمتلقي يتأثر بالنص القرآني ليتدبر وينتج التأويل الذي يؤثر به في الواقع التاريخي وعلاقته بالنص القرآني. ومن هنا يختلف مفهوم المتلقي في هذا السياق عن مفهوم المتلقي في نظريات التلقي والاستقبال المتعلقة بالنصوص الإنسانية. فالفوارق كثيرة من حيث الرؤية المعرفية ومن حيث المنهج الاستدلالي.

فنظرية التأويل المؤسسة على العطائية والتأثيرية بالاعتبارين السابقين هي نظرية نسقية كاشفة لمبادئ وتصورات ومفاهيم وقواعد ومقاصد كلية جامعة بين البيان والبرهان والعرفان بين العبادة والشريعة والسلوك بين الظاهر والباطن بين الرواية والدراية بين الوسائل والمقاصد. ونسقيتها تفيد التفاعل بين كل المكونات التي يزخر بها النص القرآني باعتباره نصا متكاملا بنائيا وموضوعيا في مفرداته ودلالاتها وتراكيبها وسياقاتها ومقاصدها، فلا تجزيء بين المفردة داخل الآية ولا الآية داخل السورة ولا الموضوعات داخل السور ولا السور في هندسة المعاني القرآنية المؤسسة لعالم النص القرآني.

والمتتبع لتاريخ بناء مفهوم التأويل في التراث الإسلامي قد يرى أنه توزعته ثلاث أنواع من الحكم؛ حكمة أهل البيان وحكمة أهل العرفان وحكمة أهل البرهان فرضتها ضرورات تاريخية أنتجتها سنن التغيير الاجتماعي من مجتمع الخلافة إلى مجتمع الملك، ومن مجتمع الرواية للعلم إلى مجتمع تدوينه وتصنيفه وتقعيد مناهجه. وأثمر هذا بروز ثنائيات في تأويل النص الشرعي وفقه واقع التنزيل من نحو؛ الرأي والحديث، والعقل والنقل، والظاهر والباطن، والتفسير والتأويل… ثنائيات أحدثت آثارا بالغة في بناء العلم الإسلامي وترقيه من حيث المنهج العلمي والتحديد المضموني والتنوع المدرسي.

إن مبتغى هذه الدراسة مقاربة مفهوم النص الشرعي باعتباره من جهة أولى، مركبا معرفيا جامعا لقوانين اشتغال النظم القرآني في مستوياته اللغوية الصوتية والدلالية والتركيبية والتداولية والحضارية، ومن جهة ثانية، مستلزما تكاملا تدبريا بين منطق أصول الشرع ومنطق نظام اللغة ومنطق التدبر العقلي ومنطق سنن الكون.

ومن مقتضيات هذا المركب المعرفي ومستلزماته الفهمية توسيع دلالة مفهوم التأويل بإخراجها من الارتباط باحتمالية اللفظ في الوضوح والخفاء لمعنيين فأكثر، إلى الارتباط بمعرفة كلية الوحي واللغة والتاريخ والكون، إخراجا يصير به التأويل فلسفة عملية للعقل في فهم الوجود الإنساني والاستخلاف الإنساني من مرجعية الرؤية القرآنية من حيثيتين:

  1. من حيث فهم النص الشرعي وفهم واقع تنزيله الموضوعي في السياقات التاريخية والتطورات المعرفية.
  2. من حيث السؤال عن إشكالية التدبر القرآني في ذاته وما يقتضيه من بحث معرفي في مناهج فهم النص الشرعي وعلاقته بالفعل الحضاري في الواقع الإنساني.

وفي سياق بيان كون التأويل فلسفة عملية متحركة ومتجددة قادرة على فقه معاني الوحي ومقاصده، وعلى فقه سنن التنزيل في الواقع الإنساني المحكوم بصيرورة التغيرات والتحولات.سيتخذ مدخلا نموذجا لذلك بيان مفهومي النص والتأويل عند الأصوليين ومساعدتهما المعرفية على تحديد المراد من مفهوم النص الشرعي وبنائه لمفهوم التأويل الحضاري.

أولا: مفهوم النص عند الأصوليين ومفهوم النص الشرعي

يمكن بيان مفهوم النص في الفكر الأصولي من خلال مدرستي المتكلمين والفقهاء:

1. مفهوم النص عند المتكلمين

تناول الأصوليون المتكلمون مفهوم النص في سياق بيانهم لمفهوم المحكم باعتباره القدر المشترك بين النص والظاهر في الرجحان، فالمحكم لفظ واضح إما نص وإما ظاهر. قال القرافي: “والنص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء الأعداد. وقيل ما دل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ المجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق. وقيل ما دل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء([1])”.

ويزيد هذا إيضاحا بقوله: “النص أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته ومنه قوله في الحديث: “كَانَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ([2])”؛ أي رفع السير إلى غايته، ومنه منصة العروس لأنها ترفع إلى غايتها اللائقة بالعروس، ومنه نصت الظبية جيدها إذا رفعته. فمن لاحظ هذا المعنى سمى به القسم الأول فإن دلالته أقوى الدلالات، ومن لاحظ أصل الظهور والارتفاع سمى به المعنى الثالث، ومن توسط بينهما سمى به القسم المتوسط. والقسم الأول هو أولى بهذا الاشتقاق لوجود ارتفاع الدلالة إلى غايتها وهو الذي يجعل قبالة الظاهر. فإذا قلنا اللفظ إما نص أو ظاهر فمرادنا القسم الأول. وأما الثالث فهو غالب الألفاظ وهو غالب استعمال الفقهاء، يقولون: نص مالك على كذا أو لنا في المسألة النص والمعنى، ويقولون نصوص الشريعة متضافرة. وأما القسم الثاني فهو كقوله تعالى: ﴿اقتلوا المشركين﴾ فإنه يقتضي قتل اثنين جزما فهو نص في ذلك مع احتماله لقتل جميع المشركين ([3]).”

وعلى هذا فالنص يدور على عدم تطرق الاحتمال إليه أصلا أو مخصوصا كان؛ لأنه يفيد معنى مقطوعا به مع “انحسام جهات التأويلات، وانقطاع مسالك الاحتمالات، وهذا وإن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ ردا إلى اللغة، فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية والمقالية([4])”، والتي تبين أن ليس من شرطه أن يحتمل التأويل من جميع الوجوه، ولما كانت الدلالة الواضحة “أعم من الظنية والقطعية([5])”؛ لأنها لا تحتاج  إلى إضافة خارجية في البيان، اعتبر النص قسما من الظاهر باعتباره ما دلالته واضحة، ولذا صحت تسمية الشافعي “الظواهر نصوصا في مجاري كلامه، وكذلك القاضي أبو بكر([6])”؛ لأن هذه التسمية زيادة على ما تقدم منطبقة مع التعريف اللغوي، ويشتمل النص على ثلاثة شروط هي([7]):

  1. أن يكون كلاما لأن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصا.
  2. ألا يتناول إلا ما هو نص فيه أي ما يظهر منه.
  3. أن تكون إفادته لما يفيده ظاهرا غير مجمل.

ومما ساقه التلمساني المالكي في مفتاح الوصول مثالا للنص على الحكم قوله: “ما احتج به أصحابنا على أن الإمام مخير في الأسرى بين المن والفداء، بقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ (محمد: 4). وهذا نص في التخيير، فيقول أصحاب أبي حنيفة هذا وإن كان نصا في التخيير، إلا أنه مغي بغاية مجهولة وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ (محمد: 4)، ووضع الحرب أوزارها مجهول، فإنه يحتمل أن يكون المراد منه حتى لا يبقى شرك أي إلى يوم القيامة، ويحتمل إلى أن يريد حتى يفترق القتال، ويحتمل غير ذلك، وبالجملة فيحتمل أن الغاية قد وجدت فيرتفع التخيير، ويحتمل أنها لم توجد بعد، فيبقى حكمه مستمرا وإذا كان كذلك فالآية مجملة.

والجواب عند أصحابنا، أن أئمة التفسير قد رووا عن ابن عباس حتى ينزل عيسى بن مريم، وحتى لا يبقى على الأرض مشرك([8]).”

والفرق بين النص والظاهر أن الظاهر في الاصطلاح “ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي  ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا([9])”، فهو من جهة مستقل عن غيره في إفادة ما هو ظاهر فيه، ومن جهة له وجه في التأويل ولذا كان ظني الدلالة، وظنية دلالته لا تعني أنه متضح الدلالة، بل إنه ما دل دلالة واضحة باعتبار ما تقدم في أن الدلالة الواضحة أعم من الدلالة الظنية والقطعية.

وعلى هذا فمن الظواهر “مطلق صيغة الأمر، فالصيغة ظاهرة في الوجوب مؤولة في الندب والإباحة (…) ومنها صيغة النهي المطلقة، فهي ظاهرة في التحريم، مؤولة إذا حملت على التنزيه. ومنها النفي الشرعي المطلق في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا صِيَامَ لمن لم يُبَيِّتِ الصيامَ من الليل([10])”، فهي ظاهرة في نفي الجواز مؤولة في نفي الكمال. ومنها حمل الصيغ المطلقة الموضوعة في اللغة للعموم على وجه العموم ظاهر مؤول حمله على وجه الخصوص، ومنها تلقي المفهوم من التخصيص ([11]).

وقد حصر التلمساني المالكي في مفتاح الوصول اتضاح الدلالة من جهة الوضع والاستعمال، ومن حيث إن الظاهر متضح الدلالة في أسباب ثمانية:

  1. الحقيقة وهي مقابلة للمجاز.
  2. الانفراد في الوضع وفي مقابلته الاشتراك.
  3. التباين وفي مقابلته الترادف.
  4. الاستقلال وفي مقابلته الإضمار.
  5. التأسيس وفي مقابلته التأكيد.
  6. الترتيب وفي مقابلته التقديم والتأخير.
  7. العموم وفي  مقابلته الخصوص.
  8. الإطلاق وفي مقابلته التقييد(12).

ويجب العمل بمعنى الظاهر كيفما كانت صيغته حقيقة أو انفرادا أو تباينا أو استقلالا أو تأسيسا أو ترتيبا أو عموما أو مطلقا حتى يرد صارف للمعنى المفهوم من تلك الصيغة.

2. النص عند مدرسة الفقهاء

تناول أصوليو هذه المدرسة بيان النص ضمن ترتيبهم للدلالة الواضحة من حيث إن اللفظ “إذا ظهر منه المراد يسمى ظاهرا بالنسبة إليه، ثم إن زاد الوضوح بأن سيق الكلام له يسمى نصا، ثم إن زاد حتى سد باب التأويل والتخصيص يسمى مفسرا، ثم إن زاد حتى سد باب احتمال النسخ أيضا سمي محكما([13])”. وعلى أساس أن اللفظ يزداد وضوحا بسوق الكلام له عرفوا النص بكونه “ما يزداد وضوحا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرا بدون تلك القرينة([14])” لكن وضوحه قبل معرفة القرينة الحافة به كانت لفظية أو سياقية أو حالية يحصل باعتباره” ما سيق له مع احتمال التخصيص والتأويل([15])”، بمعنى أن وضوح معناه نابع من صيغته ذاتها أصالة من السياق ومحتمل للتأويل بوجه من الوجوه، ولذا فالنص يتميز بأمرين:

أ. دلالته على معنى واضح مقصود أصالة من السياق مع احتمال التأويل.

ب. زيادة وضوحه بما يحتف به من القرائن المقصودة من المتكلم قصدا ظاهرا بجعله الصيغة دائرة في اكتمال المراد منها وظهور مقاصدها الباطنة مع هذه القرائن المتصلة بها نطقا سباقا أو سياقا.

ومثاله: “في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 274) فإنه ظاهر في إطلاق البيع نص في الفرق بين البيع والربا بمعنى الحل والحرمة لأن السياق كان لأجله؛ لأنها نزلت ردا على الكفرة في دعواهم المساواة بين البيع والربا كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ (البقرة: 274). وقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ (النساء: 3) ظاهر في تجويز نكاح ما يستطيبه المرء من النساء، نص في بيان العدد لأن سياق الآية لذلك بدليل قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ (النساء: 3)، وقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1)، نص في الأمر بمراعاة وقت السنة عند إرادة الإيقاع؛ لأن السياق كان لأجل ذلك ظاهر في الأمر بأن لا يزيد على تطليقة واحدة فإن امتثال هذه الصيغة يكون بقوله طلقت وبهذا اللفظ لا يقع الطلاق إلا واحدة والأمر موجب الامتثال ظاهرا([16])”.

والظاهر عند مدرسة الفقهاء “ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل، وهو الذي يسبق إلى العقول والأوهام لظهوره موضوعا فيما هو المراد([17])”، فهو يتبادر فهم معناه بمجرد دلالته الوضعية دون إجهاد للفكر ومن غير حاجة إلى قرينة، ويقبل التأويل باحتماله غير معناه الظاهر احتمالا مرجوحا “إن لم يسق له([18])”، وذلك حين يدل السياق على أن معناه المفهوم بمجرد سماع اللفظ ليس هو المقصود الأصلي من استعماله في هذا السياق بل مقصوده تابع ومرتبط بالقصد الأصلي.

ومثاله قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، فكما تقدم ظاهر في إحلال البيع وتحريم الربا، لأنه متبادر فهمه من لفظي أحل وحرم من غير تأمل وإجهاد للفكر، لكنه مقصود تبعا وليس مقصودا أصالة من سياق الآية؛ لأنها أصالة لنفي المساواة بين البيع والربا.

وقوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7)، فوجوب عموم طاعة الرسول، عليه الصلاة والسلام، ظاهر لأنه هو المتبادر فهمه من السياق تبعا؛ لأن المقصود من الدلالة الأصلية هو أخذ الفيء كما قسمه بينهم رسول الله.

ويتناول المفهوم الذي يمكن استخلاصه للنص عند الأصوليين أمرين:

الأول؛ كونه لفظا قطعي الدلالة؛ أي ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه. وهو بعكس اللفظ ظني الدلالة الذي يدل على معنى محتمل للتأويل والصرف عن هذا المعنى إلى معنى غيره بدليل.

الثاني؛ كونه دليلا يطلق على كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة كيف ما كانت دلالته على المعنى وكيفية دلالته، وهو كل ما يجب المصير إليه في معرفة الأحكام الشرعية سواء أكان مفسرا أو محكما أو نصا أو ظاهرا أو حقيقة أو مجازا أو خاصا أو عاما…

وإذا كان هذا المفهوم للنص عند الأصوليين قائما على قواعد إدراكهم العلمي لمختلف أوجه البناء اللغوي للخطاب الشرعي والضوابط التي تتحكم في فهمه وتأويله بقصد الوصول إلى الأحكام الشرعية ومقاصدها، فإن مفهوم النص الشرعي المرتبط بالتلقي الإنساني الشامل لمراده بقصد التفاعل والتعامل معه لا يقبل ذلك الحصر الأصولي على اعتبار أن النص الشرعي ليس فقط قضية وضوح وخفاء في الصيغة اللغوية وإنما بكونه عالما من المعاني المعرفية الدالة على هداية ورحمة وذكر ونور وحكمة… والتي قد تتبين دلالاتها بلفظ مفرد في سياق محدد أو بتركيب جملة في نسيج آية أو مجموع آيات أو سورة أو سور أو حديث أو مجمع أحاديث نبوية صحيحة أو مجمع الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالنص الشرعي بهذه الشمولية يتميز بالخصائص الآتية:

ـ أنه محفوظ ومتسم بفاعلية مستمرة في الواقع الإنساني..

ـ أنه نظم متناسب لمجموعة من القواعد الشرعية واللغوية المشكلة لنظام دلالي يتم من خلاله إنتاج المعنى من لدن المتلقي بحسب ما طلب منه وما تقتضيه أفعاله في التاريخ..

ـ أنه مظهر دلالي للعمل العقلي الاجتهادي التدبري الإنساني.

فالنص الشرعي لغة شرعية تتجاوز اللغة العربية الطبيعية البشرية في توصيل رسالة ذات مقاصد إلهية مع اعتماد سنن تلك اللغة في البيان والبرهان. وهذا الاعتماد يفسره خطاب الله تعالى خلقه بما يفهمونه، فكان أن أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتبه على لغتهم لتكشف اتصال النص الشرعي بالواقع الإنساني. إن انفصال النص الشرعي عن اللغة الطبيعية من جهة منهجية تحليلية يثبت نصية النص الشرعي وهو كون القول الإلهي قولا ثقيلا ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل: 4) وهو بهذا الثقل الشرعي منفصل عن قول البشر باعتباره قولا خفيفا ومتصل به من حيث كونه الذريعة المبينة للناس ما نزل إليهم وما يتنزل من وقائع في تاريخهم.

فاتصال النص الشرعي باللغة الطبيعية للقول الخفيف البشري من جهة منهجية تحليلية أيضا جعل علم اللغة مدخلا أساسا في التلقي العالي والبيان الدقيق الصحيح لمعاني النص الشرعي واستنباط معارفه وأحكامه وحكمه، ومعلوم أن بيانه “يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعول في تفسيره عليه ويرجع في تفسيره إليه من معرفة مفردات ألفاظه ومركباتها وسياقه وظاهره وباطنه وفي ذلك مما لا يدخل تحت الوهم ويدق عن الفهم([19])”.

إن الاتصال والانفصال ميزة خاصة للغة النص الشرعي تتحدد من خلال كيفيات نزول الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام أو كيفيات الاتصال وهي([20]):

أ. الرؤيا الصادقة.

ب. صلصلة الجرس.

ج. النفث في الروع.

د. إرسال الملك، وهذا الإرسال من نوعين؛ الأول؛ حين يرسل على صورة رجل، والثاني؛ حين يرسل على الصورة التي خلقه الله عليها.

ﻫ. الخطاب من وراء حجاب.

وإذا كانت هذه الكيفيات تثير إشكالا تواصليا من حيث إن النبي، عليه الصلاة والسلام، والملك ليس من مرتبة وجودية واحدة مما يدفع للتساؤل عن الطريقة اللغوية التي تلقى بها النبى عليه الصلاة والسلام الوحي، فإن تلك الكيفيات، مهما يكن من أمر، تبين كون تلقي النبي، صلى الله عليه وسلم، أمرا معجزا مثبتا لنزول الوحي ومؤيدا لحقيقته، لا قبل للبشر به وخارجا عن قوانين الاتصال بينهم ومنطقها العقلي وأنهم مقصودون بذلك الأمر الإعجازي من حيث حاجتهم الضرورية إليه؛ إذ لا تستقيم حياتهم إلا به والاستجابة له وتدبره والعمل به.

وهذا الأمر الإعجازي لا يشكل سلطة قاهرة للعقل الإنساني في النظر والفهم للوحي، بل يوجهه نحو الغوص في محدودية المنطق العقلي في تعامله مع النص الشرعي. فالوحي ليس معطى أنتجته ثقافة اللغة العربية وواقعها الاجتماعي في لحظة تنزل الوحي، وإنما فعل شرعي في التاريخ اتخذ مسلك اللغة العربية للتغيير الشمولي والدائم للواقع الإنساني في أي زمن تاريخي، ولذلك لا يمكن إطلاقا نزع التعالي والقداسة عنه بناء على كونه لغة بشرية تحمل حروفا وكلمات ومدلولات بشرية. فنقطة التقاطع بين النص الشرعي والتاريخ الإنساني هي اللغة، فالبشر لا وجود له حضاري فكري ومادي دون اللغة، وإذا كانت اللغة كذلك، فلأنها قوانين وسنن لا يتحقق كل من النص الشرعي و الفعل التاريخي بدونها، ولا استمرار لهما إلا بها.

 والبرهنة على نصية النص الشرعي تقوم على كونه كلمة الله تعالى ورسالته وخطابه قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ﴾ (الشورى: 51-52)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 69)، وقال تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (إبراهيم: 52)، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا. إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ (الجن: 22-23). ومن هنا تظهر كيفية اتصال الرسول، عليه الصلاة والسلام، بالناس ضمن الاتصال اللساني الذي يتم عبر استعمال نفس القواعد اللغوية المتداولة وأركانه هي:

أ. الرسول، عليه الصلاة والسلام، وهو المبلغ للبلاغ والمبين لمقاصده.

ب. البلاغ وهو مضمون الرسالة ونفس الخطاب الشرعي.

ج. المتلقون وهم الناس المخاطبون والذين لا يتناوبون مع الرسول، عليه الصلاة والسلام، البلاغ؛ لأنه ليس مقصودا به الكلام الطبيعي بين الناس وإنما كلام الله تعالى الثقيل المعجز.

د. المرجع وهو السياق البنائي للبلاغ المبين من لدن الرسول، عليه الصلاة والسلام، والمدرك من لدن المتلقين.

ﻫ. الرابط وهو القانون اللغوي والشرعي الذي يصل الرسول بالمرسل إليهم ويتمثل هذا القانون في أساليب اللغة العربية وقاموسها المتحكم فيها وفي أحكام الشرع ومقاصده ومعارفه.

فالنص الشرعي متوجه للناس بلغتهم على أساس:

ـ  جدلية النص والمتلقي بناء على قراءته التدبرية باعتبارها فهما لاكتشاف معناه الذي هو نتيجة للالتقاء بين المعاني القائمة في نفوس الناس المتصورة في أذهانهم وبين المعاني الشرعية المتضمنة في الأساليب العربية.

ـ إن النص الشرعي يتلقاه الناس لا للتلذذ بسماعه بحكم إعجازه الجمالي في النظم، ولا للنظر فيه بذاته من حيث هو نص لغوي محض، بل إضافة لذلك هو هداية للتي هي أقوم حتى يصير متلقوه على قدر الاستطاعة قرآنا يمشي على الأرض، وذلك لأن الله تعالى علوا كبيرا عن أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب به أو أرسل إليه.

فالنص الشرعي هو القول الإلهي المنزل بيانا محكما على النبي الكريم المثبت بالرسم العثماني الموافق للغة العربية ولو بوجه والمنقول بالتواتر، فهو قول ثقيل وخطاب مبين وبلاغ عالمي بلغة شرعية تتقاطع مع اللغة العربية الطبيعية. وهذا المفهوم للنص الشرعي خاص به لا يصلح إلا له، بحيث لا يمكن مماثلته بمفاهيم أخرى للنص البشري سواء تم استيفاؤها من الدرس اللغوي وتطوراته النظرية وارتباطها بتطورات العلوم الإنسانية أم من مجالات معرفية أخرى فلسفية كانت أو سياسية أو غيرها.

فمفهوم النص البشري أو العمل الأدبي ينطلق من كونه لا يوجد بمعزل عن لغة الفن أو بمعزل عن الأنساق غير اللغوية، كما يؤكد ذلك “يوري لوتمان” بغض النظر عن الاتجاه الفلسفي والنقدي الذي ينتمي إليه، ووجود العمل الأدبي في إطار هذه السياقات المختلفة للغات الاتصال الاجتماعي المتنوعة يفرض منح معناه ضمن هذه الأطر والسياقات، وأي محاولة من القارئ لحل شفرته الخاصة وفق أي نظام ذاتي أو تعسفي تؤدي بالقطع إلى تشويه معناه، فليس للعمل الفني أي معنى على الإطلاق لمن يحاول أن يتعامل معه بمعزل كامل عن كل علاقاته غير النصية، ذلك لأن المجموع الكلي للشفرة الفنية المقررة تاريخيا والتي تهب النص معناه يتصل بمنطقة العلاقات غير النصية هذه، وهي علاقات حقيقية بالفعل([21]).

يستعمل “لوتمان” مصطلح غير النصية في مقابل مصطلح ضمن النصية ليشير بالأول إلى كل العلاقات الخارجة عن النص أو الواقعة فيما وراء عالم النص الداخلي الخاص الذي هو مجال المصطلح الثاني، كما يصف هذه العلاقات غير النصية بأنها العلاقات بين مجموعة العناصر التي ينطوي عليها النص ومجموعة العناصر التي اختير منها أي عنصر محدد فيه فكل عنصر في النص قد اختير من مجموعة من العناصر الخارجية الني ينتمي هذا العنصر إلى بعض تقسيماتها ولهذا العنصر دور ومكان محدد في خريطة العلاقات داخل النص نفسه. لكن له في الوقت نفسه دور ومكان على خريطة العلاقات بينه وبين غيره من العناصر على محوري العلاقات السياقية والترادفية المعروفين([22]). فالنص عند “لوتمان” تعبير يتخلق خلال استعمال الإشارات، ومن هذه الناحية فهو معارض للبنى غير النصية، وهذا يعني بالنسبة للأدب، أولا وأخيرا، أن النص يعبر عنه من خلال اللغة الطبيعية، والتعبير على عكس اللاتعبير يجبرنا على اعتبار النص تجسيدا لنظام أو نسق([23]).

ويحدد “ﭘول ريكور” النص بأنه كل خطاب تبثته الكتابة، ثم يشرحه بأنه “كل كتابة تنضاف إلى شيء ما من كلام سابق. وفي الواقع إذا كنا نعني بالكلام مع فردينان دو سوسير تحقق اللغة في حدث خطاب ما، إنتاج خطاب فريد من طرف متكلم مفرد، فإن كل نص إذن هو بالنسبة للغة في نفس موقع إنجاز الكلام، وتعتبر الكتابة علاوة على ذلك بصفتها مؤسسة تالية للكلام الذي يبدو أنها منذورة لتثبيت كل تلفظاته التي لاحت شفويا، بشكل خطي موجز، ويبدو أن الاهتمام الحصري تقريبا المعطى للكتابات الصوتية تأكيدا على أن الكتابة لا تضيف شيئا لظاهرة الكلام إن لم يكن التثبيت الذي يسمح بصيانته..

 من هنا اليقين التام بأن الكتابة كلام مثبت، بأن التسجيل سواء كان تخطيطا أو تدوينا هو تسجيل للكلام تسجيل يضمن للكلام ديمومته بواسطة خاصية النقش الدائمة([24])”، التثبيت بالكتابة يحل محل الكلام؛ أي حيثما كان بإمكان الكلام أن يولد، “لكن عندما يأخذ النص مكان الكلام يحدث شيء ما مهم في تبادل الكلام، يكون كل من المتكلمين حاضرا بالنسبة للآخر، وكذلك يكون الوضع المحيط والوسط الظرفي للخطاب كذلك. ولا يكون الخطاب دالا تماما إلا مقارنة بهذا الوسط الظرفي للخطاب والإحالة على الواقع([25])”.

فالنص البشري “عمل إنساني خالص منذ تدوينه الأول حتى قراءته الأخيرة، النص قول صامت نطق ساكت حروف مرئية، مدونة حرفية، ورق ومداد. والقراءة هي التي تحيله إلى معنى وتجعله قولا معلنا ونطقا مسموعا وتوجيهات عملية ومعارك سياسية واجتماعية. يخضع تدوين النص إذن لعدة عوامل كلها ذاتية مثل رؤية الواقع، وقراءتها على نحو معين وتوجيهها في اتجاه معين، النص عمل أيديولوجي صرف، وقد كان تدوين النصوص الدينية في العصر المسيحي الأول جزءا من الصراعات المذهبية حول أقوال المسيح وأفعاله، ثم ظهر التدوين لتقنين هذه الأقوال والأفعال ضد التعدد والتضارب، كل فرقة تدون عقائدها لتعطي لنفسها شرعية تاريخية وصيغة قانونية ضد المذاهب الأخرى…([26]).

والقصد من ذكر مفارقة مفهوم النص الشرعي لمفهوم النص البشري الإشارة الكافية للاختلاف المرجعي العقدي والعلمي والمنهجي في تصورات مناهج التلقي ومقاصدها في المفهومين، مع ضرورة مراعاة القواعد العلمية والمنهجية المشتركة التي يمكن أن تستمد من كليهما لتقوية فاعلية التدبر في تلقي النص الشرعي من جهة، ولتسديد الإبداع وتلقيه في النص البشري بما يخدم الإنسان في وجوده الاستخلافي وجمالية عالمه من جهة ثانية.

ثانيا: التأويل عند الأصوليين

ارتبط مفهوم التأويل عند الأصوليين بدراستهم للدلالات اللغوية الواضحة والخفية والمنطوقة والمفهومة في النص الشرعي، وباستثمارهم لمقاصده على أساس قواعد علمية مستمدة من منطق اللغة والتشريع والاجتهاد العقلي. وقد عرف هذا الاستمداد تطورا معرفيا من حيث تحديد المناهج الأصولية وقواعدها العلمية بعد الشافعي، رضي الله عنه، وذلك تجاوبا مع التفاعلات الحضارية والتحولات التاريخية السياسية والعلمية التي أنتجت اتجاهات تأويلية كثيرة شكلت آراء واتجاهات ومدارس من النظر العقلي في النص الشرعي.

وإذا كان الشافعي لم يعط تعريفا محددا للتأويل، فإنه قد أشار في عدة مواضع أنه مرتبط بلغة النص الشرعي، وذلك من خلال إدراكه أن أسباب الاختلاف في فهم النص وتأويله تنحصر في وجوه الفهم اللغوي أو الإبلاغي لأن “لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه([27])”، ومن تلك المواضع قوله في سياق كلامه عن العلم أنه “علمان: علم عامة لا يسع بالغا، غير مغلوب على عقله، جهله (…) مثل الصلوات الخمس، وأن الله على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أحوالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر (…) وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع([28])”، فهو يقرر أن المعلوم من الدين بالضرورة والواضح من الأحكام لا ينبغي التنازع والاختلاف فيه كما لا ينبغي صرفه عن معناه الظاهر منه.

وفي معرض بيان النوع الثاني من العلم أنه: “ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة وإن كانت في شيء منه سنة، فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا([29])”، فما لا نص فيه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا على ما فيه نص، وذلك على اعتبار أن التأويل سبيل للكشف عن المعاني، لا يلجأ إليه إلا حين تدعو الضرورة إلى ذلك.

وفي معرض كلامه أيضا عن حجية خبر الواحد قال: “فلا يجوز عندي على عالم أن يثبت خبرا واحد كثيرا ويحل به ويحرم، ويرد مثله إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه أو يكون ما سمع ومن سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه، أو يكون من حدثه ليس بحافظ، أو يكون متهما عنده أو يهتم من فوقه ممن حدثه أو يكون الحديث محتملا معنيين فيتأول فيذهب إلى أحدهما دون الآخر([30])”.

من خلال ما تقدم يقدم الشافعي منهجا للتعامل مع الألفاظ المحتملة للتأويل في استنباط الأحكام للشرعية، فيعمد المؤول إلى البحث في أن “يستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن و أقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع مما خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبيتا فيما اعتقد من الصواب([31])”.

فإزالة الاحتمال بالتأويل لا تتم إلا في إطار معرفة واسعة لا تتاح إلا لمن تمرس بمنطق النص الشرعي؛ أي التمكن من فقه معاني النص القرآني الكريم والسنة النبوية، والإحاطة بملابسات الحياة التشريعية وأسباب النزول، إضافة إلى التمكن من منطق اللغة ومعرفة قواعد نظامها وأسرارها. فالمتعامل مع المحتمل في النص الشرعي لا يواجه أمرا سهلا وإنما عملا شاقا يتطلب عدة علمية وشروطا مؤهلة للاجتهاد فيه.

وبهذا يتضح أن الشافعي، وإن لم يعرف التأويل تعريفا محددا، فإنه قد كشف عن إشكالية التأويل وارتباطها بمنطق النص الشرعي وبمنطق اللغة وبالمؤول الذي يتدبر النص الشرعي ويتفكر فيه. فكان هذا الكشف لبنة من اللبنات التي أسهمت في بناء قاعدة التأويل عند الأصوليين، وتمييزها عن اتجاه التأويل في مجال علم الكلام والعقائد والفلسفة والتصوف والأدب…

ومن التعاريف الاصطلاحية، التي يلحظ فيها تطور التعريف، قول الجويني إمام الحرمين، إن التأويل “رد الظاهر على ما إليه مآله في دعوى المؤول”([32]) وهو يظهر أنه مستمد من الدلالة اللغوية بمعنى الإرجاع والتصيير، كما أنه مستمد من الدلالة الاستعمالية في النص القرآني الكريم (حقيقة ما يؤول إليه الكلام). وإذا كان هذا التعريف رصد فقط عملية التأويل بكونها قيام المؤول برد الظاهر المحتمل على حقيقته التي يؤول إليها، فإن التعريف الذي يقدمه الغزالي مشيرا فيه إلى أهمية اشتراط الدليل واشتراط الرجحان في المعنى المؤول إليه على المعنى الظاهر، إذ يقول: “التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر([33]).”

وقد انتقد هذا التعريف من ثلاث جهات([34]):

أ. أنه جعل التأويل هو نفس الاحتمال، وليس كذلك بل هو نقل وصرف وحمل، و الاحتمال سببه، إذ الاحتمال ضرورة تستدعي التأويل.

 ب. أنه ربط التأويل بإفادته أغلبية الظن فقط، مما يخرج التأويل المفيد للقطع.

 ج. أن هذا تعريف للتأويل الصحيح باشتراطه الدليل، وكان عليه أن ينبه على هذا، أو بحذف اشتراط الدليل ليكون التعريف شاملا لكل تأويل ولو فاسد.

وقد ردت هذه الانتقادات بالآتي([35]):

أ. أن التأويل مراد به المؤول إليه إلى المعنى الذي صرف إليه النص.

ب. أن الاحتمال هو المحتمل “ومثل هذا شائع في عبارة القوم([36])”.

ج. أن إفادته أغلبية الظن يتماشى وتقرير الأصوليين أن “التأويل ظن بالمراد والتفسير قطع به([37])”.

وفي محاولة لتجاوز تلك الانتقادات، عرفه الآمدي في الأحكام بأنه “من حيث هو تأويل مع قطع النظر على الصحة والبطلان حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له. وأما التأويل المقبول الصحيح، فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده([38])” فتضمن إذا تعريف التأويل على الإطلاق ثم تمييز الصحيح منه باشتراط الدليل دون تقييد ليعم القطعي والظني.

وفي سياق إطلاق الدليل والتركيز عليه قيل في تعريفه إنه “صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله، ومعنى ذلك أن يكون الكلام يحتمل معنيين فزائدا إلا أن أحدهما أظهر في ذلك اللفظ إنما لوضع أو استعمال أو عرف، فإذا ورد وجب حمله على ظاهره إلا أن يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر إلى بعض يحتمله([39])”، وهكذا لا يجوز صرف الظاهر عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بورود الدليل المانح إجازة الصرف، وهذا ما يقرره ابن السبكي توفي سنة 771هـ في قوله “التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل فصحيح أو لما يظن دليلا ففاسدا، أولا لشيء فلعب لا تأويل([40])” فأبان أنه حمل على المعنى المرجوح. وينقسم حسب الدليل إلى ثلاثة أنواع، ما كان لدليل وما كان بما يظن دليلا وما كان لا لدليل أصلا، لكن لما كان النوع الثاني شاملا للنوع الثالث أمكن القول: إن ذلك “الحمل لدليل أو شبهه([41])”.

وإذا كانت التعاريف المتقدمة جارية على مذهب المتكلمين الأصوليين في تقسيمهم للدلالات اللغوية، فإن الأصوليين الحنفية كذلك عرفوا التأويل تعريفا ردد في كثير من مصنفاتهم، تعرضوا له عند تقسيمهم للفظ باعتبار وضعه إلى خاص وعام مشترك ومؤول ملحقينه بالمشترك، فعرفوه بأنه “تبيين بعض ما يحتمل عليه المشترك بغالب الرأي والاجتهاد([42])”، أو أنه “ما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي([43])”، وقد انتقد هذا التعريف بالآتي:

أ. التأويل لا يكون من المشترك فقط؛ إذ في هذا تضييق لمجال التأويل، فالمجمل والخفي والمشكل والمشترك إذا زال خفاؤها بدليل ظني كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا، ولهذا تم تبديل “من المشترك” بـ”ما فيه خفاء” ليصير تعريفه هو “ما ترجح مما فيه خفاء بعض وجوهه([44])”، وإن كان هذا شأنه أن يخرج النصوص الواضحة كالظاهر والنص مع أن التأويل يدخلها، فلذا اقترح القول بأنه “ما ترجح أحد محتملاته([45])”.

ب. ترجحه قد لا يكون بغالب الرأي، لأنه يخرج ما ترجح بنحو القياس وخبر الواحد وهما دليلان معتبران من أدلة التأويل، فالأولى أن يقال “ما ترجح بدليل ظني([46])”، فيدخل بذلك غالب الرأي والقياس وخبر الواحد، ورد هذا الانتقاد بأن المراد([47]):

ـ تعريف المؤول من المشترك، لأنه من أقسام النظم صيغة ولغة.

ـ المراد بغالب الرأي الظن الغالب، سواء حصل من خبر الواحد أو القياس أو التأمل في الصيغة.

واختلف في إضافة المؤول إلى تقسيم اللفظ باعتبار الوضع، حيث ذهب فخر الإسلام، إلى أنه قسم منفرد بدليل أن “الحكم بعد التأويل يضاف إلى الصيغة([48])”؛ أي أن دلالة المؤول بعد التأويل دلالة لفظية. فالمؤول “يكون دالا بعد التأويل على ما يحمل عليه بطريق المجاز. ودالا يخرجه عن الدلالة باللفظ إلى الدلالة من غير اللفظ. لأن دلالة المجاز لفظية بلا خلاف، والدلالة اللفظية دلالة بالصيغة([49]).”

 وذهب صدر الشريعة إلى أنه ليس قسما منفردا بدليل أنه “ليس باعتبار الوضع بل باعتبار رأي المجتهد([50])”، بمعنى أن المؤول “ولو من المشترك ليس باعتبار الوضع بل عن رفع إجمال بظني في الاستعمال([51])”؛ أي أنه بعد التأويل لم ينشأ عن الوضع، بل هو ناشئ عن إزالة حاصل ازدحام احتمالات ناشئة من الاشتراك بدليل ظني قياسي أو خبر، كما أن المؤول من غير المشترك، لا ينسب بعد التأويل لصيغة اللفظ، بل إلى دليل التأويل([52])”، وقد حاول التفتازاني التوفيق بين هذين المذهبين مبينا أن المشترك لغة “موضوع لمعان متعددة يحتمل كل منها على سبيل البدل، فإذا حمل على أحدها بالنظر في الصيغة أي اللفظ الموضوع لم يخرج من أقسام النظم صيغة ولغة أي وضعا، بخلاف ما إذا حمل عليه بقطعي، فإنه يكون تفسيرا لا تأويلا بقياس أو خبر واحد، فإنه لا يكون بهذا الاعتبار من أقسام النظم صيغة ولغة، وكذا لم يكن مشتركا بل خفيا أو مجملا أو مشكلا فأزيل خفاؤه بقطعي أو ظني([53])”، فعلى هذا الاشتراك هنا أعم من الاشتراك اللغوي؛ إذ هو اشتراك في كل معنيين. فالمؤول من المشترك إن حمل على أحد مدلوليه فهو باعتبار الوضع، وإن حمل على ما لا يدل عليه لغة لكن بدليل مرجح، فإنه لا يراعى فيه الوضع إذ أن ما يحصل بالتأمل والدليل لا وجه لجعله من الاعتبارات المتعلقة بالوضع.

وإذا كانت تعاريف المتكلمين والحنفية تبين أن التأويل ظاهرة لغوية متسعة باتساعها ومرتبطة بإبلاغها ومراعية لمنطقها ومتبعة لمنطق الشرع ومقاصده جملة وتفصيلا. فإن التأويل أعم من أن يقصر على المشترك كما تقدم، أو أن يقصر على “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أولا حقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي([54])”؛ لأن هذا القصر يجعل المجاز هو الأداة الرئيسة لعملية التأويل مع أنه يلاحظ:

أ. أن مفهوم المجاز لا يتساوي مع مفهوم التشابه الخاص، الذي هو أساس التأويل ويمثل المجاز سببا من أسبابه وداع من دواعي التأويل فيه.

ب. أن التأويل كما قال الغزالي يشبه أن يكون “صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز([55])”، وذلك من حيث الصرف والدليل الذي يسوغ به، لكن ليس من حيث مفهوما الحقيقة والمجاز اصطلاحا؛ إذ هما ظاهرتان مقررتان في النص، لكن التأويل عمل واجتهاد ينصب على النص، وقد يكون المؤول إليه نقل اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، ومن المشترك إلى المنفرد، ومن العام على الخاص، ومن المطلق إلى المقيد… إذ لكل دلالة من هذه الدلالات خاصية تنفرد بها تدخل في إطار ما يحكم طبيعة اللغة ومنطقها.

ولكي ينتقد ابن تيمية هذه التعاريف المتقدمة، رأى أن لفظ التأويل “فيه اشتراك بين ما عناه في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف وبين إصلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل، اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن([56])”، فميز بين ما عناه التأويل في النص القرآني الكريم، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ومنهم الأصوليون، وبين اصطلاح طوائف من السلف وحصره في معنيين:

“أحدهما؛ تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء تقريبا أو مترادفا، وهذا، والله أعلم، هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير.

والمعنى الثاني في لفظ السلف، وهو الثالث في مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله “بون”، الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلية فإذا قيل: طلعت الشمس فتأويل هذا نفس طلوعها([57])”. الأمر الذي يتيح تفريقا آخر بين الإحاطة بعلم النص القرآني الكريم وإتيان تأويله انطلاقا من قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (يونس: 39)، الذي يبين “أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتيهم تأويله وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إثبات تأويله، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به؛ فمعرفة الخبر هي تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله([58])”. فالتأويل إذا “الحقيقة الخارجية وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية([59]).”

فهناك فرق بين المعنى والتأويل، المعنى هو معرفة الصورة العلمية، أما التأويل فهو “الحقائق الثانية في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والأخبار، إلا أن يكون المستمع قد تصورها، أو قد صور نظيرها بغير الكلام وأخبار لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب إما بضرب المثل وإما بالتقريب وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها وإما بغير ذلك([60])”.

 وهذا يقتضي أن النص القرآني الكريم منزل من عند العزيز الحكيم ليفهم ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله بالمعنى المتقدم، والذي على أساسه ميز ابن تيمية بين رأيين بخصوص تأويل النص القرآني الكريم “قوم يقولون إنه لا يعلمه إلا الله، وقوم يقولون إن الراسخين في العلم يعلمونه، وكلتا الطائفتين مخطئة، فإن هذا التأويل في كثير من المواضع، أو أكثرها وعامتها، من باب تحريف الكلام عن مواضعه([61])؛ أي أن خطأهم نابع من ظنهم أن تلك التعاريف المتقدمة هي معنى التأويل في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ءال عمران 7).

والواقع أن هذه الآية محتملة من حيث “هل الراسخون معطوف على لفظ الجلالة بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه. أو أنهم مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم([62])”، والتردد حاصل فيها في الوقف بين أن يكون على لفظ الجلالة أو على ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا﴾. فإذا كانت الواو للاستئناف، فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده، والوقف تام على لفظ الجلالة. وإذا كانت عاطفة فالمتشابه يعلم تأويله الراسخون في العلم أيضا ولا وقف على لفظ الجلالة.

على أن القول، بأن الواو استئنافية هو قول عمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وابن مسعود وأبي بن كعب وعمر بن عبد العزيز وجمهور العلماء، واستدلوا بأدلة متنوعة منها:

ـ إن الله تعبدهم بما لا يعلمون وهو المتشابه كما تعبدهم من دينه بما لا يعلمون، وأن قولهم ﴿آَمَنَّا بِهِ﴾ يدل على التفويض والتسليم.

ـ ذم مبتغي التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما، ثم إن وجود الذين في قلوبهم زيغ ويتبعون المتشابه يبتغون تأويله يقتضي وجود قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون في العلم القائلون ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

دلالة الاستقراء في النص القرآني الكريم، أنه تعالى إذا نفي عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 187)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النمل: 65)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص: 88).

ولو كان الواو للعطف لم يكن لقوله تعالى: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ فائدة ولو أراد عطف الراسخين لقال: ويقولون آمنا.

أما القول بأن الواو عاطفة، فهو ثابت عن ابن عباس أيضا ومجاهد بن جبر وجماعة من العلماء([63])، واستدلوا بأدلة منها:

إن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم جهال بذلك، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب.

إن الله تعالى لم يكلف الخلق بما لا يعلمون، لأنه لم ينزل شيئا في القرآن الكريم إلا لينتفع به عباده، فلو كان المتشابه لا يعلمه غير الله للزمنا وكلفنا فوق الطاقة.

قولهم آمنا، في معنى الحال؛ أي قائلين آمنا.

ومن هذا الذي قيل في احتمال هذه الآية يلاحظ الآتي:

أ. إذا كان من الصحابة، رضوان الله عليهم، من قال: إن الله تعالى يعلم تأويله وحده، ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمونه أيضا تبعا للتردد في الوقف، فإنه يدل على أن هذين التوجيهين ليسا جديدين ابتدعهما الأصوليون أو غيرهم.

ب. التأويل في الآية، أعم من الدلالة الاصطلاحية عند الأصوليين أو عند غيرهم.

ج. ارتباط الفتنة بالتأويل، حين تتقلص الرؤية المعرفية القرآنية التوحيدية ويغيب معيار الشرع وتنحسر القواعد العلمية، فالتأويل الفاسد مزرعة للفتنة والتأويل الصحيح مزرعة للاجتهاد العقلي الذي يقتضيه التكليف الشرعي ومقاصده الاستخلافية والحضارية. وبهذا يكون التأويل باعتباره تدبرا في الوحي والكون اجتهادا لا فتنة؛ لأن الاجتهاد المنضبط بقواعده ومن أهله تنزيل للرسوخ العلمي والفتنة نقيضه لأنها قائمة على الهوى والرأي المرسل.

د. قد يكون دافع التخطيء من ابن تيمية لاصطلاح الأصوليين خصوصا من الجانب المعرفي، راجعا إلى ما أرخته التأويلات العقدية والإشارية والباطنية من سدول جعلت مصطلح التأويل لا يذكر إلا ويتقدمه المضمون القدحي قبل المضمون الإيجابي الذي يكشف التأويل عملا منهجيا وقاعدة بيانية للتدبر والتفكر والتأمل في الوحي والكون.

إن ما يستخلص من التعاريف السابقة أن الأصوليين قد حددوا مجال التأويل وأصوله وشروطه وأنواعه واتجاهاته، وأبرزوا علاقاته بالاجتهاد البياني والاجتهاد الاستنباطي والاجتهاد المقاصدي، وإن ركزوا في تحديدهم ذلك وإبرازهم هذا على الوجهة اللغوية وارتباطها بإفادة الحكم الشرعي ومقصده، فإنهم قد أسسوا منهجا تأويليا شكل قاعدة اجتهادية في الوحي بالبيان في القطعيات الواضحة وبالترجيح في الظنيات المحتملة بالاستناد إلى الأدلة العلمية القوية المستمدة من الشرع واللغة والعقل. وبهذا وضعوا قانونا للتأويل منضبطا في التعامل مع الوحي القرآني والحديث النبوي لا يقف عند حدود ما يوحي به منطق اللغة في الظاهر من معنى بل يتجاوزه إلى ما يفيده الدليل العلمي من معنى آخر يصبح راجحا معمولا به.

والتأويل الأصولي بأبعاده المعرفية المتعددة اللغوية والمقاصدية يتجاوز عمليا في منهج فهم النص الشرعي مشكل ثنائية التأويل والتفسير عند علماء التفسير الذين فرقوا بينهما من حيث إن التفسير متعلق بتفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالسنة وبأقوال الصحابة والتابعين، ومرتبط بكشف معاني ألفاظ القرآن ومفرداته وبالرواية والاتباع والسماع، وأن التأويل متعلق بالاستعمال في كشف ما انغلق من المعاني وترجيحها وبكونه دراية واستنباطا واستدلالا..([64]) وذلك أن التأويل الأصولي يفيد ضرورة الجمع بينهما وأنه لا مطمع للوصول إلى تأويل صحيح إلا بتفسير صحيح، ولا مطمع للوصول إلى تفسير صحيح إلا بتأويل صحيح فيكون كل تأويل تفسير وكل تفسير تأويل ما تم اعتماد القواعد العلمية المميزة للمعنى المناسب للنص الشرعي ومقاصده عن المعنى المحظور المخالف للشرع. فجماع التأويل والتفسير اتباع الميزان الشرعي والعقلي في بيان معاني الوحي ومقاصده واستنطاق آياته واستنباط الأحكام والحكم والمصالح منها. فالبيان والكشف والاستنطاق آليات منهجية تؤلف بين مفهومي التأويل والتفسير باعتبار أن كليهما متعلق ببيان المعاني الواضحة والخفية الظاهرة والباطنة، وأن كليهما عمل عقلي متجه نحو النص الشرعي منوط بتدبره وتبليغ واضحاته وكشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم به.

وانطلاقا من وحدتهما الموضوعية المتمثلة في لغة النص الشرعي ومقاصده الوجودية والمعرفية والقيمية، يمكن استنتاج أن التفرقة بينهما ثم تفضيل التفسير على التأويل بناء على أساس أن لكل واحد منهما وظيفة مختلفة عن الآخر، تفرقة وتفضيلا يصعب تسويغهما علميا ومعرفيا بأدلة مستقلة عن تأثير واقع العلم وواقع الأمة تحت حكم الأمويين والعباسيين في جعل التأويل الكلامي والفلسفي والصوفي ينحو نحو تقريرات لوحظ عليها مخالفتها لمنهج السلف في قضايا عقدية وتعبدية مخالفة أثمرت نفورا من المنهج التأويلي و مضادة له اتجهت نحو تقديم المنهج التفسيري للابتعاد عن أخطاء تأويلية منها ما ذكره ابن تيمية أنه راجع إلى ما يعلم بالاستدلال من جهتين:

أحدهما؛ قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. والثاني؛ قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به. فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين من قبلهم. كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون وإن كان في نظر الأولين إلى المعنى أسبق.

والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به. وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا به نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وهذا كما أنه واقع في تفسير القرآن فإنه واقع أيضا في تفسير الحديث. فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيه وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه.

ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم… ثم إنه بسبب تطرق هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك…([65])”. فكانت هذه الأخطاء في الدليل والمدلول حسب تتبع ابن تيمية من أسباب الاختلاف في التفسير وتأويل كلام الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، على غير تأويله وبغير ما أريد به.

ويفيدنا هذا التتبع في كونه يبرز أسباب رفض فعل التأويل في مقابل قبول فعل التفسير. لكن المنهج التأويلي الذي قدمه الأصوليون باعتباره اجتهادا صادرا من أهل العلم بقواعده وفي محله ينفي رفض فعل التأويل لمجرد حدوث تأويلات خاطئة في مسالك علمية محددة. ويثبته منهجا معرفيا ضروريا لعملية الفهم والتدبر المنضبطة بمنطق الشرع ومنطق اللغة في تثوير النص الشرعي.

فالتأويل الأصولي مدخل للبحث عن كون التأويل بحثا منهجيا في قضايا معرفية متداخلة ذات أبعاد دلالية ومقاصد عقدية ولغوية وفلسفية وحضارية تتفاعل مناهجها لبيان مقاصد الوحي وكشف معانيه المحكمة وإظهار خفيات ما أودعه منزله سبحانه بالتدبر والتعقل والتذكر والتفكر.

ثالثا: النص الشرعي وقانون التأويل

إن النص الشرعي هندسة معمارية نسقية من الآيات الشرعية والكونية المفتوحة دلالاتها على قراءة الاستجابة والإتباع وقراءة الاجتهاد العقلي التدبري. باعتبارهما قاعدتين محددتين لموضوع علم النص الشرعي ومبادئه وغاياته ومناهج تأويله. وشمولية هذا المفهوم للنص الشرعي تبني مفهوما استخلافيا للتأويل موزونا بمنطق الوحي ومقاصده في الوجود الكوني والإنساني.

لقد جاء استعمال لفظ التأويل في النص القرآني الكريم في سياقات متنوعة ساقها ابن الجوزي في خمسة أوجه:

أحدها؛ العاقبة، ومنه قوله تعالى في الأعراف: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ (الأعراف: 52)، يعني عاقبة ما وعد الله تعالى وفي يونس: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (يونس: 39).

والثاني؛ اللون، ومنه قوله تعالى في يوسف: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ (يوسف: 37)، يعني بألوانه.

والثالث؛ المنتهين ومنه قوله تعالى في آل عمران: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (ءال عمران: 7)، يعني ابتغاء منتهى ملك محمد وأمته، وذلك حين زعم اليهود، حين نزل على النبي، عليه الصلاة والسلام، فواتح السور، أنها من حساب الجمل وأن ملك أمته على قدر حساب ما أنزل عليه من الحروف.

والرابع؛ تعبير الرؤيا، ومنه قوله تعالى في يوسف: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 6)، وفيها: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ (يوسف: 45)، وفيها: ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 101).

والخامس؛ التحقيق ومنه قوله تعالى: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ (يوسف: 100)([66])”.

ويتبين من خلال هذه الأوجه أن الدلالة الاستعمالية في النص القرآني تفيد ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره، وذلك إما لمعنى عملي يقصد به شيء في المستقبل يقع في المآل تصديقا لخبر أو رؤيا. وإما لتفسير معنى متشابه حصل الخفاء فيه بسبب الاحتمال. وكان البحث عن حقيقة ما يؤول إليه الكلام وإزالة ما فيه من احتمال في سياقات النص الشرعي مسلكا علميا موصلا لبناء مفهوم التأويل وتأسيس قوانينه وقواعده.

لقد ابتدأ الشافعي تأسيس قانون التأويل في المنهج الأصولي من خلال تدبير ثنائية الرأي والحديث بتقعيد وسطي جامع منطقيا بين ضرورة اعتبارهما مع تحديد الأدلة الشرعية وطرق استنباط الدلالة منها. وهو في عمله الاجتهادي ذلك كان يقعد للعقل المسلم كيفية التعامل مع النص الشرعي قرآنا وسنة بمعيار علمي يقي المتعامل من الانحراف والزيغ والوقوع في الفتنة.

وقد انطلق في تحديد مشروعه الاجتهادي التأويلي من تحديده مفهوم البيان باعتباره اسما جامعا لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع فقال “فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم الله به لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه. فمنها ما أبانه لخلقه نصا مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وصوما وحجا، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. ومنه ما أحكم فرضه بكتابه وبين هو كيف على لسان نبيه مثل عدد الصلة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه. ومنه ما سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مما ليس لله فيه نص حكم وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل. ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم([67])”. فعلى أساس التمييز بين المبين القطعي والمبين الظني حدد القواعد اللغوية والشرعية التي يتوصل بها إلى فهم المعاني الشرعية واستنباطها من أدلتها الكلية والتفصيلية.

وقد نضج إشكال التأويل في التراث المعرفي الإسلامي مع أهل الكلام والفلسفة في سياق الاختلاف حول العلاقة بين العقل والنقل وأيهما أساس للآخر بناء على فرضية أن النقل بيان لا يفيد القطع العلمي لظنية أدلته في مباحث العقيدة والفلسفة، بينما العقل أساس البرهان وأدلته قطعية يتوجب الاعتماد عليها للوصول إلى يقينيات في تلك المباحث.

 ولذا نجد منهج المعتزلة يقضي باتفاق العقل والنقل وإن اختلفا يؤخذ العقل ويؤول النقل. ونجد منهج الأشاعرة يقضي بأصلية النقل للعقل، فلا يسرح العقل إلا فيما سرحه النقل. ونجد منهج الفلاسفة يقضي بأسبقية العقل على النقل في معرض اختلافهم حول كون الفلسفة والدين متفقين في المنهج والغاية أو تباين منهجهما واتفاق غايتهما وهي تحقيق السعادة. ونجد أهل التصوف قد انتهجوا الجمع بين علوم العقل وعلوم القلب لتجاوز ما يرونه من تعارض بين الشريعة والحقيقة وبين العلوم العقلية والعلوم الدينية.

ويحكي الغزالي هذا الخلاف التأويلي في قانونه للتأويل فيقول: “بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر. وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرط بتجريد لنظر إلى المعقول وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق. والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا، والمنقول تابعا فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل كل واحد أصلا، ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما”([68]).

فالغزالي يحدثنا في قانونه هذا عن خمس فرق وهي:

الأولى؛ وهم الذين جردوا النظر إلى المنقول وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع، فهؤلاء صدقوا بما جاء به النقل تفصيلا وتأصيلا، وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلا امتنعوا وقالوا إن الله قادر على كل شيء.

الثانية؛ تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم وجردوا النظر إلى المعقول ولم يكترثوا بالنقل، فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه، وإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صوره الأنبياء وأنه يجب عليهم النزول إلى حد العوام وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل، فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، إلى الكذب من أجل المصلحة.

الثالثة؛ جعلوا المعقول أصلا فطال بحثهم عنه، وضعف عنايتهم بالمنقول فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة في بادئ الرأي، وأول الفكر المخالفة للمعقول، فلم يقعوا في غمرة الإشكال، لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه وكذبوا روايه إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن أو ما قرب تأويله من ألفاظ الحديث وما شق عليهم تأويله جحدوه حذرا من الإبعاد في التأويل، فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل، ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا.

الرابعة؛ جعلوا المنقول أصلا، وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة وتطرفوا عن المعقول و لم يغوصوا فيه فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات، ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول ولم يغوصوا فيه لم يتبين عندهم المحالات العقلية لأن المحالات بعضها يدرك بدقيق النظر وطويله الذي نبني على مقدمات كثيرة متوالية ثم انضاف إليه أمر آخر وهو أن كل ما لم يعم استحالته حكموا بإمكانه ولم يعلموا أن الأقسام ثلاثة قسم علم استحالته بالدليل، وقسم علم إمكانه بالدليل، وقسم لم يعلم استحالته ولا إمكانه.

الخامسة؛ الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا ومن كذب العقل فقد كذب الشرع؛ أي في العقل عرف صدق الشرع ولولا صدق العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي والصادق والكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع وما ثبت الشرع إلا بالعقل. وهؤلاء هم الفرقة المحقة وقد نهجوا منهجا قويما إلا أنهم ارتقوا مرتقى صعبا وطلبوا مطلبا عظيما وسلكوا سبيلا شاقا، فلقد تشوقوا إلى مطمع ما أعصاه وانتهجوا مسلكا ما أوعره.

وباختيار الغزالي الجمع بين المنقول والمعقول واعتبار كل واحد منهما أصلا مهما، يحدد مفهوم التأويل الصحيح الذي يتوجب العمل به بالبرهان العقلي في معرفة الحق من النص الشرعي بناء على أن المعرفة العقلية الحقة لا تكذب بالشرع.

وفي سياق تأكيد التوافق بين المعقول والمنقول وبيان ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال وضع ابن رشد قانونه للتأويل فقال: “إذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.

وإذا كان هذا هكذا فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا. فإن كان موافقا فلا قول هناك. وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله([69])”.

 وإذا كان الفقيه المؤول، حسب ابن رشد، يعمل على إخراج الدلالة اللفظية من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير إخلال بعادة لسان العرب في التجوز فإنه “كم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي([70])”. ويحكي ابن رشد إجماعا حول هذه القضية بقوله: “ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل واختلفوا في المؤول منها عن غير المؤول([71]).”

ورغم انتباه ابن رشد لأهمية المقاصد في يقينية البرهان إلا أنه لم يوظفها في قانونه للتأويل فأبقى على مقولة أن الظاهر الشرعي إذا خالف ما أدى إليه البرهان يؤول، وتوظيفها يعني أن الكليات المقاصدية لها إمكانية جعل المراد البرهاني مؤولا لما يوافق الشرع وتابعا له.

وما أحجم عنه ابن رشد في تحليل المعرفة المقاصدية استلهمه الشاطبي في تأسيسه لبرهانية المقاصد في شكل منهجي علمي يتجاوز ما وقف عنده الدرس الأصولي من التركيز على الدلالات اللغوية إلى استفراغ الوسع في البحث عن الكليات المقاصدية([72]) والتقعيد لها من حيث إنها قانون مكمل للمنهج الأصولي ومتمم بناءه بالجمع بن الأصول والمقاصد في صياغة علمية دافعة للتضاد و التعارض بين الآليات المعرفية للبيان والبرهان والعرفان بحيث يقيمهم على قاعدة التكامل المحقق لمقاصد الوحي الإلهي الكلية والضرورية وما يستتبعها من مكملات حاجية وتحسينية في سياق إرادة الإنسان المكرم عدم مخالفة الله تعالى في قصده الرحيم ثم العمل على تنزيله عبر الاجتهاد العقلي المتجدد المنضبط بشروطه اللغوية والشرعية القائمة على مراعاة الجمع بين الظاهر والباطن بتوسط وتجاوز الإفراط بالاعتماد على الظاهر لوحده أو بالتفريط بالاعتماد على الباطن لوحده.

لقد كانت رؤية الشاطبي المقاصدية التأويلية رؤية إصلاحية محققة لإمكانات نظرية تتجاوز مفهوم النص الذي بنى عليه الأصوليون وغيرهم مفهوم التأويل، إلى مفهوم جامع وكاشف لمقاصد الوحي، ومنها تكاملية البرهان والعرفان والبيان التي تربي العقل على أساس العقيدة والأخلاق وتفتح نظره للبحث في الكليات الجامعة بين الفقه والتصوف والحكمة ثم الخروج من البحث التجزيئي الذي لم يوصل إلى النتائج التعبدية والعمرانية التي يمكن أن تتجنب بها الأمة الوقوع في مهاوي البدع والضعف.

إن ما قدمه الشاطبي في البحث المقاصدي معالم منهجية تكشف أسس مفهوم للنص الشرعي تكون قاعدة لبناء مفهوم التأويل وإطارا مرجعيا معرفيا لفلسفته. وعليه يمكن استنتاج أن الرؤية المقاصدية يمكن أن تسعف في الخروج من مفهوم النص الشرعي إلى علم النص الشرعي ومن التجزيئية للنص القرآني إلى النسقية القرآنية وبناؤها لمفهوم التأويل.

النسقية القرآنية بكونه إحكاما لمتواليات في النظم القرآني من جهتين:

الأولى؛ المتواليات النظمية اللغوية الدلالية والتركيبية والصوتية. وتتسم بمميزات المقامية والسياقية والتواصل التفاعلي.

الثانية؛ المتواليات المعرفية الاستخلافية والحضارية وتتسم بمميزات القطعية والكلية والمقصدية المصلحية وتحقيق الرؤية الكونية.

فالنسقية القرآنية هي نظام عالم معنى القرآن العظيم المعرفي المتعدد في وحدة والمتنوع في تكامل المتسم بوحدة عناصره وتماسكها وتفاعليتها، وتتجلى هذه النسقية في نموذج البناء التناسبي للمتواليات اللغوية والاستخلافية الذي تبرز مفرداته آخذة بأعناق بعضها البعض بعلائق معقولة المعنى متراصة ومتلائمة في تحقيق المقاصد الشرعية

فالنص الشرعي بهذه النسقية يتميز بالخصائص الآتية:

ـ أنه محفوظ ومتسم بفاعلية مستمرة في الواقع الإنساني..

ـ أنه نظم تناسبي للقواعد الشرعية واللغوية المشكلة لنظام دلالي مستوعب لحركية التاريخ الإنساني..

ـ أنه مظهر دلالي للعمل العقلي الاجتهادي التدبري الإنساني..

ـ أنه يتسم بالإنتاجية الدلالية الجامعة بين التدبر النظري وإلزامية النظر العملي.

ومجموع هذه الخصائص يشكل ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم النصية الشرعية باعتباره مركبا جامعا لقضايا شرعية ولغوية تؤسس إعمال قواعد التأويل، أو علوم الفهم، أو مناهج التلقي للنص الشرعي، فالنصية الشرعية تكامل معرفي بين منهج المنطق الشرعي ومنهج المنطق اللغوي:

1. منهج المنطق اللغوي

لما كان النص الشرعي مؤسسا للغته الخاصة به المتميزة بالشرعية وتتقاطع مع اللغة الطبيعية باعتبارها قانونا يسمح وجوده للإنسان أن يتواصل به داخل مجموعته اللغوية، ومكونات هذا القانون الأصوات والألفاظ والمعاني والعلاقة بينهما، فقد عرف ابن جني اللغة بأنها “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”([73])، كما عرفها ابن حزم من حيث إنها “ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ولكل أمة لغتهم”([74]). ولهذا كان المرجع في معرفة النص الشرعي موقوفا وجوبا على العلم بما ورد به من لغة العرب ونحوهم وتصريفهم ومعهودهم، فما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب.

يرتبط النص الشرعي من حيث هو لغة مع علوم اللغة بعلاقة تصير فيها هذه العلوم نفسها لغة دارسة نتحدث بها عن النص الشرعي باعتباره لغة أولى، ولكن هذه العلاقة لا تجعل من منطق النص الشرعي واللغوي مطابقا لمنطق علوم اللغة لأن طبيعة العلاقة بينهما على المجاورة والتشابه والمقايسة والتوازي لا على المطابقة والاحتواء التام.

وتهتم علوم اللغة الدارسة للنص الشرعي بكليته مميزة بين مستويات أربع:

أ. المستوى الصوتي؛ وقد اهتم به أهل اللغة وأهل العروض والبلاغة وأهل القراءات القرآنية من جانب عنايتهم بالأصول باعتبارها قواعد عامة تميز كل قارئ عن الآخر وتجمع أصوله في النازلة وتوضح اختياراته حول القضايا ذات الاتجاه الواحد ومن جانب عنايتهم بالفرش الذي تعرضوا فيه إلى اختلاف القراءات المفردة التي لا تنضبط تحت أصل عام يتحكم فيها.

ب. المستوى النحوي؛ مستوى تركيبي يرجع فيه إلى النظم بحسب توخي معاني النحو والتناسق الدلالي وتلاقي المعاني الذي اقتضاه العقل، باعتبار أن العلاقات بين المفردات المعجمية أساسها قواعد النحو التي تربط بين المعاني النحوية كالفاعلية والمفعولية والابتداء والأخبار وغير ذلك، وهذه المعاني تندرج في علاقات ثنائية يقتضي فيها معنى معنى آخر فتنشأ عن هذه المعاني النحوية معان أو علاقات فرعية سماها عبد القاهر الجرجاني الفروق والوجوه وهي الحذف والتكرار والإظهار والإضمار والفصل والوصل والتقديم والتأخير([75]).

ج. المستوى الدلالي؛ يرجع فيه إلى النظم من حيث دلالة الألفاظ في تعلق بعضها ببعض وتلاقي معانيها بحسب ما يقتضيه النحو وما يقتضيه المقام، فالألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف بها معانيها في ذاتها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها من فوائد، فليست الدلالة ناتجة عن مجموعة من المفردات أو مجموعة من الأصوات التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم بل هي نظام من العلاقات أو مجموعة من الروابط المعنوية التي تنشأ بين المفردات والأسماء عندما تدخل في تركيب لغوي.

د. المستوى التداولي؛ يرجع فيه إلى النظم من حيث ارتباطه بسياق معين ومقصد كلامي محدد وذلك بالنظر إلى النظم من حيث إنه رسالة لها علاقة بالمرسل والمرسل إليه. فلا يدرك المعنى إلا بتحليل النص والسياق والمقاصد، إذ لفهم النص لا بد من استدعاء السياق وظروف الحال ومختلف الظروف المقامية التي تصاحب إنجاز الكلام.

وكل هذه المستويات ومتعلقاتها النظرية والمنهجية تمكن النظر التأويلي إلى النص الشرعي من الوصول إلى دقائق قوانين انسجامه وملاحظة وجوه ارتباطاته وتلاحم سوره وآياته والكيفية التي تتناسق فيها وتتلاقى وتتفاعل فتشكل نصا متراصا في وحدة بنائية وهندسة معمارية إعجازية وإنجازية.

2. المنهج المعرفي ومنطق الشرع

إن النص الشرعي أكثر من كونه لغة مستوحاة من الثقافة المتاحة في الوسط الذي نزل به حتى نربطه بثقافة المتكلم العربي العادي وما تفرضه من نزعات وشهوات ومصالح وإنما هو وحي جاء ببصائر عالية وأنوار ساطعة للإنسان ليس فقط في فقه الأحكام الشرعية والتزكية الأخلاقية العظيمة بل إضافة إلى ذلك في فقه التفكر والمعرفة وكشف حقائق الكون والحياة الدنيوية والأخروية. فالمستقرئ للنص القرآني يجد مساحة الأحكام الشرعية أقل بكثير من مساحة كشف معايير العقول في مناهج الفكر وفلسفة الحياة وبناء الإنسان السوي([76]).

فالمتتبع يلاحظ بيسر كثافة حديثه عن العلم والحكمة والهداية والتعقل والتفكر والتذكر.. وما يتصل بهذه المفاهيم القرآنية الدالة على فلسفة معرفية مقاصدية تعليلية سننية حضارية كلية وعامة للحياة، ولا يمكن على الإطلاق أن تكون هذه الفلسفة الشرعية التامة من دون منطق شرعي بناء على اعتبار أن المنطق هو المدخل إلى الفلسفة، كما أن الفلسفة هي مدخل لفهم الوجود والعلائق بين الموجودات. وهناك ركائز مبدئية عدة لمعرفة المنطق الشرعي منها معرفة العقل والعلم والجهل والشبهات والشهوات والأهواء والضلالات وكلها بمثابة مناهج لتلقي النص الشرعي ومفاتيح لفهم الواقع الإنساني.

فالمنطق الشرعي له عطائية وتأثيرية ملموسة ومحسوسة من قراءة النص الشرعي آتية من قوته في التمييز بين العلم والهوى بين المحكمات والمتشابهات بين الحكمة والجهل بين العقل واللاعقل.. وفي تمكين المتلقي المتدبر من الاعتبار والاتعاظ والاستدلال والاستقراء والتجريب واختيار المنهج السليم لتدبير المعرفة والحياة على هدى من العلم والاجتهاد.

وهذا المنطق الشرعي له مخارج علمية بيانية وبرهانية وعرفانية متكاملة في استدلالها لتأويل النص الشرعي تأويلا صحيحا معتمدا على قوانين داخلية ترجع إلى نصية النص ومؤسسا منهجا معرفيا لفهم الضرورات المادية والروحية التي تشكل الجزء الأهم من حياة الإنسان، إذ لكل من المادية والروحية منهج واضح لمعرفة مبدأ الكون وغايته ومبدأ الإنسان ومصيره، ذلك أن هذا المنهج المعرفي العلمي الوسطي يمنح الإنسان رؤية تأويلية قويمة وموضوعية لعلاقة الإنسان بالله تعالى وبالكون. وإذا ما غابت هذه الرؤية الوسطية يظل الإنسان متخبطا في تقييم ذاته وتقييم الوجود من حوله حتى لا يستطيع التمييز بين الإصلاح والإفساد وبين فعل الخيرات وترك الشرور.

وإذا كان النص الشرعي بمنطقيه اللغوي والشرعي يؤسس القوانين الداخلية لعلم فهمه أي فهم تأويله وإثبات مقاصده فإن قوانينه الخارجية تقوم “على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب، أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك..([77])”، ومعنى معرفة مقتضى الحال هو معنى معرفة أسباب النزول باعتبارها من القرائن الدالة على فهم النص بحيث إذا فاتت فات فهمه أوفهم شيء منه، فكانت رافعا لكل مشكل في فهم علاقة النص الشرعي بالواقع في ضوء أخذ النظر التأويلي من عموميته وعالميته وليس فقط من خصوص سبب نزوله الزمني والواقعي.

وعلى أساس جدلية التكامل بين المنطق الشرعي والمنطق اللغوي وما يستمد منهما من منهج معرفي كوني قادر على تفسير الوجود والقيم والمعرفة يمكن دراسة مناهج التلقي للنصوص الأدبية والاجتماعية والكونية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية.

والمقصود بمناهج التلقي للنص الأدبي الطرائق المتبعة في تحليل مشكل مظاهر المقام التواصلي في جدلية النص والقارئ، فمنذ نشأة النص الأدبي باعتباره قولا وكلاما “لم يكن الحديث عن غاياته وأشكاله حديثا واحدا فقد اتخذ اتجاهين مختلفين هما التفسير والنظرية، والهدف في الاتجاه الأول هو الإيضاح أو الشرح أو الترجمة لعمل أدبي معين كالإلياذة أو الكتاب المقدس أو الأناشيد الدينية أما الاتجاه الثاني فيبدو أكثر تعقيدا. ففي الاتجاه الأول يتم التعامل مع نصوص محددة يقررها التاريخ أما في الاتجاه الثاني فيتم التعامل مع مفاهيم أدبية يقوم الاتجاه نفسه بتشكيلها وتكوينها… وبين هذين الاتجاهين المتكاملين تصاغ القوانين والطرائق المتحكمة في قراءة النص باعتبارها فهما وتفسيرا وباعتبار النص موضوعا للفهم والتفسير.

وقد قامت صياغة تلك القوانين في الفكر الغربي على عدة نظريات نذكر منها اعتبار النص الأدبي وثيقة بناء على الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر والتي اتخذها “أوكست كونت” منهجا علميا “لتجاوز المرحلة اللاهوتية والميتافيزيقية في مجال العلوم الإنسانية، ويتعلق الأمر بالنسبة لهذا الفيلسوف الوضعي باكتشاف القوانين المولدة الكامنة وراء الواقع. إذا كان تاريخ الأدب الوضعي لم يعر النص الأدبي باعتباره عنصرا من مقام تواصلي إلا أهمية قليلة، فإن ما أعاره من ذلك للمتلقي والباحث أقل، إن توجيه الاهتمام إلى المرسل وحده ولوجوده الكلي يعني نفي المتلقي فالذات الشارحة لا تستطيع أن تدخل تاريخيتها ولا حكمها القيمي المرتبط بهذه التاريخية ارتباطا وثيقا، يجب، طبعا، أن يقدم النص ـ الذي يوصل إلى الكاتب ويكون الوثيقة التي يتعلق الأمر بدراسة شروطها السببية المولدة ـ في صيغته الأصلية وقد استتبعت هذه الضرورة إثبات طبعات النص وما يلحق ذلك من تحليل مفصل لمصادره([78])”.

ونذكر نظرية التلقي التي ظهرت في ألمانيا مع “آيزر وياوس” والتي تعد من النظريات المعاصرة المستلهمة للأفكار التأويلية الهرمنيوطيقية([79]) ولخصها فيكمن في الاهتمام بالنص والمتلقي ومشاركة القارئ في إنتاج النص التي تدرج النص الأدبي في مقام تواصلي بحيث يمكن القارئ المؤول حسب التحليل الذي يختاره “أن يربط النص باعتباره دليلا إما بالمرسل وبمواضعاته أو أنساق المعايير وأفق الانتظار عند القراء المعاصرين أو من يأتي بعدهم، فبالنظر إلى أن النص هو نفسه موضوع التحليل فإنه يوجد في سياق التقليد حيال النصوص السابقة أو اللاحقة أو المعاصرة له ويمكن بالتالي استخلاص ملامح مميزة، وبالنظر إلى أن القارئ هو موضوع التحليل فإنه يلزم اشتراك تخصصات علمية في البحث عن الملامح السوسيولوجية أو السيكولوجية المتضمنة في عملية القراءة([80])”.

ويظهر من هذا أن نظرية التلقي تجعل للقارئ وظيفة مركزية في تناول معنى النص على أساس أن إدراك القارئ هو المحدد للدلالة، وأن النص يتناص مع كثير من الروافد النصية وغير النصية. فتكون القراءة موفقة بين معطيات الشكلانية التي تتجاهل التاريخ وبين النظريات الاجتماعية التي تتجاهل النص، ومهتمة بإعادة تركيب مستمر للتجربة؛ بمعنى أنها عملية جدلية للاتصال بالنص الذي يعاد فيه تنظيم الأجزاء المكونة للوجود الملموس ومعتمدة أحد المبادئ التي تقوم عليها نظرية التواصل والتي “تعود إلى نيتشه وبرجسون ومؤداها أن الكلمات لا يمكن أن تطابق الأشياء التي تدل عليها، فاللغة وسيلة ضرورية ذات إمكانيات محدودة في التعبير عن التنوع والتغير الكبيرين الذين تتصف بهما التجارب الإنسانية([81])”.

 فأن تكون القراءة فهما وإدراكا وتصورا فيعني أنها فعل إنجازي تأويلي وتفسيري يحاول تجلية إمكانيات النص الدلالية، إنها كما يحدد ريكور “اتحاد تأويل النص مع اتحاد تأويل الذات، وسمة الإنجاز هذه الخاصة بالتأويل تكشف في الواقع عن الطابع الحاسم في القراءة بأنها تتمم خطاب النص في بعد شبيه ببعد الكلام، ما احتفظ به هنا من مفهوم الكلام، ليس كونه نطق به إنما كونه حدثا حدث الخطاب([82])”.

وإذا كان منهج اتحاد تأويل الذات والنص يقوم في المرجعية الثقافية الغربية على أبعاد الفلسفة الوضعية والرؤية المادية فقط، أوصل إلى موت المؤلف وموت النص ولانهائية المعنى وانعدام البراءة في القراءة التأويلية وخرافة القصدية، فإن قانون علاقة الذات القارئة بالنص الشرعي في المرجعية الإسلامية القائمة على مراعاة الوحي مصدرا أصليا للمعرفة، يتكون من اعتبارين، الأول أن النص الشرعي قدسي ومكتمل المعنى بحيث كونه مهيمنا ومصدقا مفتوحا أمام العقل الإنساني للنظر التأويلي البياني والاستنباطي، الثاني أن الذات القارئة مندمجة في مقتضيات أحوال وسياقات تداولية مبتدؤها نظم النص القرآني ومنطقه الداخلي وقاعدتها البيان النبوي القولي والفعلي والتقريري ومنتهاه القواعد اللغوية والشرعية والكونية. وهذا الاندماج ضمان معرفي للعقل القارئ المؤول حتى لا يتيه في مقولات تأويلية سائبة وغير منضبطة بمقاصد الوحي.

ويمكن تمييز ثلاثة طرائق للعقل القارئ المؤول في هذا الاندماج:

  1. طريقة معرفة النص واستكشافه ظواهره ومقاصده.
  2. طريقة التدبر والاستنطاق والتحليل والبرهان والاستنباط.
  3. طريقة تفكيك الواقع وجعله مسارات لتنزيل التصورات النظرية والعملية وتحويلها إلى خطط وبرامج.

فإذا ما سبرنا بالمنطق الشرعي ومنهجه المعرفي نظرية التلقي نجدها تخالفه في كون القارئ منتجا للمعنى ومتفردا بسلطته على نظام النص ولغته، بينما هو في المنطق الشرعي مكلف ومسؤول، تكليفا ومسؤولية يمنحان العملية التأويلية حرية مقصودة… وكذلك من حيث إن كيفيات نزول النص القرآني ومراتبه والقرائن التاريخية الحافة بتدوينه تنفي بالبرهان القطعي تدخل اليد البشرية في كتابته أو تحريفه أو تبديله، وهذا يكشف أن المتعامل بإطلاقية وتحيزية مع النص الشرعي بمنهج منطق نظرية التلقي في التأويل أو أي نظرية تأويلية مماثلة لها في الأسس المعرفية، يعتبر مفصولا البتة عن المنطق الشرعي ومنهجه المعرفي، ومطبقا لنظرية معرفية في التأويل مفارقة كليا لاعتبارات النص الشرعي.

أما البحث في اجتهاد بناء منهج تأويل للنص الشرعي في الزمن التاريخي المتطور فهو مندرج تحت كلية المقاصد الاجتهادية والتجديدية للمنطق الشرعي الداعية إلى البحث عن الحكمة المفيدة لذلك البناء([83]) والتزود بها أينما وجدت موافقة للمنطق الشرعي ومنضبطة بقواعد العلم وطرائق التدبر والاستنطاق والتحليل والبرهان والاستنباط. ويمكن حصر هذا الانضباط في المقاييس التأويلية الآتية:

ـ مراعاة كليات مقاصد الوحي في المعرفة والتشريع والتكليف..

ـ مراعاة معرفة الفهم وفهم المعرفة في الجمع بين قراءة النص الشرعي والكون والإنسان..

ـ مراعاة نظام العربية في البيان والتبيين والتفكر والتعقل والتحاجج والتحاور..

ـ مراعاة مقتضيات الأحوال والسياقات والأسباب والعلل..

ـ مراعاة كلية تناسب المعاني الشرعية في الجمع بين الدلالات القطعية والدلالات الظنية..

ـ مراعاة الاجتهاد المعرفي في ترجيح الاحتمالات وإزالة التعارض بين المعاني الداخلية المتعلقة بالنص الشرعي والحركية التاريخية المتعلقة بتبدلات الواقع الإنساني.

فقوانين التأويل علم بالفهم وإحاطة بالعلم فالله سبحانه “أنزل القرآن مثاني بين إجمال وتفصيل، وبين إفصاح وإفهام يفهم نبؤه عنه تعالى إفصاحا، نبأه عن عبده إفهاما، لمقابلة ما بين العبد والرب. ويفهم نبؤه عن عبده إفصاحا، نبأه عنه تعالى إفهاما. وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة والأخرى الآجلة. وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، بين كل متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الاعتبار من أمر الخلق ومعتبراتها من أمر الحق. ولا يكاد هذا النحو من البيان يقع شيء منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم إلا نادرا، لمقصد اللحن به، والإلغاز بإفهامه. فمتى أنبأ عنه تعالى أخذ الفاهم مقابل ما يتلو إفصاحا في قلبه عن العبد مفهوما، فيملأ القرآن قلبه بإفهامه ويملأ سمعه بإفصاحه. فإفهامه إسراره للقلوب الفهمة وإفصاحه إعلانه للأسماع الواعية فيسمعه من ربه سرا وعلانية. وهذا من أجل قوانين فهمه وإحصاء علمه”([84]).

فالنص الشرعي يؤسس مفهوما معرفيا لتأويل منتج للمعرفة وملائم للانهائية عطائية كلماته ودوام تأثيريتها والمقتضية للتدبر الأبدي لنظامها ونسقيتها، والاستنطاق الدائم لمقاصدها. وليست نظرية التدبر والاستنطاق إلا منهجا تأويليا معرفيا لتلقي النص الشرعي، باعتبارها بناء نسقيا كليا يتكامل فيه المنطق الشرعي الكوني والمنطق اللغوي البنائي تكاملا يكسب العقل المسلم القدرة العلمية والكفاية المنهجية على استيعاب المستجدات الإنسانية في العلم والفكر والحضارة. ويبقى سؤال إنجاز بناء نظرية للتأويل من النص الشرعي واجبا وقتيا وسياقا كونيا.

الهوامش

(1) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، ص36.

(2) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، حديث رقم: (1666)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة في هذه الليلة، حديث رقم: 1286.

(3) شرح تنقيح الفصول، م، س، ص37.

(4) البرهان في أصول الفقه، 1/415.

(5) حاشية التفتازاني على العضد، 2/168.

(6) البرهان في أصول الفقه، م، س، 1/415.

(7) المعتمد، 1/319.

(8) مفتاح الوصول، ص43.

(9) الإحكام، 3/58.

(10) الإحكام، 3/58.

(11) البرهان في أصول الفقه، 1/418.

(12) مفتاح الوصول، ص59-73.

(13) تنقيح الأصول لصدر الشريعة، 1/124.

(14) أصول السرخسي، 1/165.

(15) تيسير التحرير، 1/137.

(16) أصول السرخسي، 1/166.

(17) المصدر نفسه، 1/164.

(18) تيسير التحرير، 1/137.

(19) الزركشي، علوم القرآن، 1/15.

(20) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، 1/128.

(21) صبري حافظ، التناص وإشاريات العمل الأدبي،  مجلة: عيون المقالات، عدد3، 1986م، ص87.

(22) المرجع نفسه، ص87.

(23) المرجع نفسه، ص90.

(24) من النص إلى الفعل “أبحاث التأويل”، ص95.

(25)المرجع نفسه، ص97.

(26) حسن حنفي، قراءة النص،  الهيرمينوطيقا والتأويل، 1993م، ص17.

(27) الرسالة، ص42.

(28) المرجع نفسه، ص357 -358.

(29) المرجع نفسه، ص359.

(30) الرسالة، ص510.

(31) المرجع نفسه.

(32) البرهان في أصول الفقه، 1/511.

(33) المستصفى، 1/387.

(34) هذه الانتقادات ساقها الآمدي في “الإحكام” 3/74، والعضد في شرحه لـ”مختصر المنتهي” 2/168.

(35) حاشية التفتازاني على شرح العضد، 2/168.

(36) المرجع نفسه، 2/168.

(37) المرجع نفسه، 2/168.

(38) المرجع نفسه، ص359.

(39) أبو الوليد الباجي، الحدود، ص49.

(40) حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع، 2/88.

(41) المرجع نفسه، 2/47.

(42) التحرير مع شرحه التيسير، 1 /185.

(43) المرجع نفسه، 1/185.

(44) كشف الأسرار، 1/44.

(45) ابن مالك، حاشية الرهاوي على المنار ، ص349.

(46)ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير، 1/148.

(47) التلويح على التوضيح، 1/33.

(48) أصول البزدوي، 1/44.

(49) حاشية الرهاوي على المنار، م، س، ص349.

(50) التوضيح على التلويح، 1/33.

(51) التحرير مع شرحه التيسير، 1/185.

(52) كشف الأسرار ، 1/45.

(53) التلويح على التوضيح، 1/33.

(54) ابن رشد، فصل المقال، ص35.

(55) المستصفى، م، س، 1/387.

(56) ابن تيمية، دقائق التفسير، 1/129.

(57) المرجع نفسه، 1/131.

(58) دقائق التفسير، م، س، 1/127.

(59) المرجع نفسه، 1/128.

(60) دقائق التفسير، 1/131.

(61) نقض المنطق، ص58.

(62) ابن جرير الطبري، جامع البيان، 6/201.

(63) أضواء البيان، (1/270).

(64) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 2/149.

(65) مقدمة في أصول التفسير، ص78-89.

(66) نزعة الأعين النواظر، ص 217.

(67) الرسالة، ص21.

(68) قانون التأويل، ص15.

(69) فصل المقال، ص35.

(70) المرجع نفسه، ص36.

(71) المرجع نفسه، ص36.

(72) الموافقات، 2/5-392.

(73) الخصائص، 1/33.

(74) الإحكام في أصول الأحكام، 1/46.

(75) دلائل الإعجاز ، ص48-51.

(76)محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص63.

(77) الموافقات، 3/347.

(78)إلرود إيش، مناهج الدراسة الأدبية وخلفياتها النظرية، تعريب: محمد العمري،  مجلة دراسات سميائية أدبية لسانية، عدد:2، 1988م، ص8.

(79) الاتجاه الهيرمينيوطيقي اتجاه فلسفي وجودي تحليلي نشأ في أحضان اللاهوت المسيحي لتفسير النص الديني المسيحي خصوصا بعد أن برزت كثيرا من الإشكالات المعرفية المتعلقة بالإنجيل والتي يمكن تلخيصها في إدراك العلاقة بين العهدين القديم والجديد من حيث إنهما متباعدين لغويا مما جعل تباعدا في استعمال الكلمات بين وضعها الأصلي والاستعمالات الجديدة مما أنتج عدم الثقة في القراءة الوحيدة للإنجيل وذلك بالاعتماد على اعتقاد وجود معنى خفي وراء المعنى الحرفي، يقول بول ريكور: “تلاقي الهيرمينيوطيقا المركزة على النص تطبيقها الأول في استعمال الأصناف البنيوية في التفسير التوراتي ولكن في الآن ذاته الذي يقدم فيه هذا التفسير نفسه على أنه مجرد تطبيق في المجال التوراتي لتحليل صالح في الأصل لكل نص، فإنه يطور سمات تعلن قلب العلاقة بين الهيرمينيوطيقيين قلبا يتجلى عندما ننتقل من بنيات النص إلى عالم النص.هنا كذلك سنتوقف عند الرسم الأولي لإطار القضايا الكبيرة في حد ذاتها ورسمه تبعا لقدرة فلسفة الخطاب. النقطة الأساسية التي أود أن أركز فيها انتباهي هي التالية: إن المجاهرة بالإيمان التي يعبر عنها في الوثائق التوراتية لا تنفصل عن أشكال الخطاب أقصد بنية أسفار موسى الخمسة والأناجيل السردية على سبيل المثال بنية التكهنات الوسيطية، المثل، الترتيل، وغيرها، لا يقتضي كل شكل من أشكال الخطاب أسلوب مجاهرة بالإيمان، بل إن مقابلة أشكال الخطاب هذه تتطلب في المجاهرة بالإيمان نفسها توترات ما وتباينات دالة لاهوتيا، فالتعارض بين السرد والتنبؤ المهم للغاية بالنسبة لفكر العهد القديم لا يعدو أن يكون ربما سوى واحد من أزواج البنيات التي يساهم تعارضها في توليد صورة المعنى الإجمالية… ثمة إذن ثلاث قضايا علينا أن نفحصها على ضوء أهم شكل من أشكال الخطاب التوراتي الشبه الحاصل بين شكل ما للخطاب وبين طريقة معينة من الإجهار بالإيمان، العلاقة بين زوج مماثل من البنيات كالسرد والتكهن على سبيل المثال والتوتر المناظر في البلاغ اللاهوتي، وأخيرا العلاقة بين تشخيص مجموع المتن الأدبي وما يمكن تسميته تلازما بفضاء التأويل الذي تفتحه سائر أشكال الخطاب مجتمعة”، من النص إلى الفعل، ص83.

(80) مناهج الدراسة الأدبية وخلفياتها النظرية، م، س، ص15.

(81) المرجع نفسه، ص20.

(82) من النص إلى الفعل، ص108.

(83) يقتضي سياق بناء نظرية تأويلية شرعية للنص الشرعي قراءة متجددة لفهم فهم النص الشرعي وتدبره تنظر بعين الاعتبار والقراءة النقدية للاهتمامات المعاصرة بمسألة التأويل على أسس علمية من منطق الشرع وأصوله المهيمنة على الاجتهاد الإنساني، فالإطلاع في المعرفة التأويلية على تقاطع مسالك علمية نحو علوم اللسان وفلسفة اللغة والتحليل المنطقي ونظرية الترجمة ونظرية الإعلام ونظرية القول الشفهي والنقد الأدبي والاتجاهات الفنومنولوجية وفلسفة التفسير القانوني والتاريخي واللاهوتي وعلم المناهج في فلسفة العلوم… من شأنه تقوية النظرية التأويلية الشرعية وكشف الفراغات المعرفية والعلمية في المقاربات النظرية التأويلية المعاصرة. انظر: مصطفى ناصف، نظرية التأويل، ص42.

(84) الحرالي، مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل، ص15.

Science
الوسوم

د. عبد الرحمن العضراوي

• أستاذ مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال.
• رئيس مسلك الدراسات الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• رئيس مختبر مقاصد الوحي والحوار الحضاري، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال.
• عضو فاعل بعدة جمعيات مدنية ببني ملال.
• شارك في العديد من الندوات الفكرية والعلمية داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق