مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

النصُّ القُرآني والسَّمتُ النّظميّ (ح: 7)

12- ومن مَظاهرِ الانسجامِ أيضاً ارتباطُ الجُملَة بمَوْضوعِ السّورةِ، وارتباطُها الموضوعيّ بِما تفرّقَ في القرآنِ (1)

ومفادُه أن يُبحَثَ عن ارتباطِ المَعْنى المُستَفادِ من جُملةٍ قُرآنيّةٍ بِما تفرَّقَ في القُرآن من مَعانٍ تلتقي لَها صلةٌ بِذلِكَ المَعْنى، في موضوعٍ واحدٍ، وعن ارتباطِه بالمَعاني الأخرى التي اشتَمَلَت عليْها الآيَةُ واشتمَلَت عليْها السّورةُ، ومواضعُ الالتقاءِ والترابُط نسَقٌ يكشفُ عن التّناسُبِ بينَ مَعاني جُمَل الآيةِ ووحدةِ السّورةِ، وإهمالُ تدبُّرِ هذا النّسَقِ العَظيمِ وعدمُ وَضعِه مَوضِعَ العنايةِ والاهتمامِ، يُفوِّتُ على القارئِ المُتدبِّرِ مَعانِيَ جمّةً ووجوهاً إعجازيّةً جَليلةً.

وقَد يَكونُ للجُملةِ القُرآنيّةِ التي تَحملُ مَعْنىً عامّاً أو خاصّاً شبَكةٌ من العلاقاتِ بعددِ من جُمَلِ السّورَةِ، وبعددٍ آخَرَ من جُملٍ تُشارِكُها في مَوْضوعٍ عامٍّ في القُرآنِ كلِّه. فيتعيّنُ على المُحلِّلِ أن يكتشفَ الرّوابطَ الفكريّةَ بينَ جُمَلِ السّورةِ، وإن كانَت خافيةً في اللفظِ. من الشّواهدِ على ذلِكَ ما دَعاه المؤلِّفُ بالتّربيّةِ المُعترِضَة (2)، كتربيةِ الله لرَسولِه بأنْ لا يَعْجَلَ بالقُرآنِ مِن قَبلِ أن يُقضى إليْه وحيُه، ويحسُنُ الاعتراضُ حينَما يُرادُ تحقيقُ غرَضٍ تربويٍّ، نحو قولِه تَعالى: «لا تُحرِّكْ بِه لِسانَكَ لتَعْجلَ بِه. إنّ عليْنا جمْعَه وقُرآنَه. فإذا قَرأناه فاتَّبِعْ قُرآنَه. ثُمّ إنّ عليْنا بَيانَه» (3) ، فهذا اعْتراضٌ بَينَ ما سبقَ الآيةَ وما جاءَ بعدَها، ولكن مَعَ خَفاءِ وجه المُناسبَة بين الاعتراضِ وباقي عَناصرِ السّورةِ ومَعانيها، ولكن حينَ يُكتشَفُ الغرضُ التّربويُّ الذي سيقَت من أجلِه آيةُ الاعتراضِ، يتّضِح جَمالُ الانسجامِ في بيانِ الآيَةِ وموضعِها، الذي أثبَتَ لَنا هذا التّوجيهَ التّربويَّ في سورَةٍ، هي سورةُ القِيامَة، حدَثَ فيها حادثُ التّعجُّل وتحريكُ اللّسانِ بالقُرآنِ، وقد امتثلَ الرّسولُ صلّى الله عليْه وسلّمَ فالْتزَمَ بِما أُمِرَ بِه، ثُمّ أنزَلَ الله توجيهاً ثانياً في سورةِ طَه، ولكنّه مُتّصلُ بِما قبلَه وما بعدَه من الآياتِ: «ولا تَعجَلْ بالقُرآنِ من قبْلِ أن يُقضى إليْكَ وَحْيُه. وقُلْ رَّبِّ زِدْني عِلماً» (4) وليسَ مُعترِضاً بين كلاميَيْن مُتلازِمَيْن.

13- مِنْ مَظاهِر الانسجامِ والتّماسُك في النّصّ القُرآنيّ: بَلاغَة التّنويع والتّلْوين:

 قالَ ابنُ جنّي: «كَلامُ العربِ كَثيرُ الانحرافاتِ ولَطيفُ المَقاصدِ والجِهاتِ، وأعذبُ ما فيه تَلَفُّتُه وتَثنّيه» (5). وقالَ ابنُ المُنيّر «طريقَة العربيّةِ تَلوينُ الكَلامِ، ومَجيءُ الفعليّةِ تارةً والاسميّةِ أخْرى من غيْرِ تكلُّفٍ لِما ذَكَروه» (6).

من مَزايا جَمالياتِ النّصّ القُرآنيّ أنه جَمَعَ بين الافْتنانِ والتّنويعِ في الموضوعاتِ، والافتنانِ والتَّلوينِ في الأسْلوب، في الموضوع الواحد. فهو لا يستمرُّ طويلاً على نمطٍ واحدٍ من التعبير، كَما أنه لا يستمرُّ طويلاً على هَدفٍ واحدٍ من المعاني، بَل يتنقلُ في السّورَة الواحدَة من معنى إلى معنى ويتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومُضِيّ وحُضور واستقبال وتَكلُّم وغَيبيةٍ وخِطاب؛ إلى غير ذلكَ من طُرق الأداء، على نحو من السُّرعة لا عهدَ لنا بمثله في كَلام غيره قَطُّ. ومعَ هذِه التّحَوُّلاتِ السّريعَة المستَمِرّة التي هي مَظِنّةُ الاخْتلاجِ والاضطرابِ، بل مَظنةُ الكَبْوةِ والعِثار، في داخلِ الموضوع أو في الخروجِ منه، نَراه لا يَضطربُ ولا يَتعثّرُ، بل يحتفظُ بتلكَ الطبقة العُليا من مَتانة النّظم وجَودَةِ السّبكِ حتى يصوغَ من هذه الأفانين الكثيرة منظرًا مؤتلفًا (7).

والأصلُ في تلوينِ الخطابِ الأدبيّ يَكونُ بأسلوبِ الالْتفاتِ؛ وهو نَقلُ الكَلامِ من التّكلُّمِ أو الخطابِ أو الغَيْبةِ إلى آخَرَ منها، بعدَ التّعبيرِ بالأوّل، وفائدتُه تَطريةُ الكَلامِ وتَجديدُه، وصيانةِ السّمعِ من الضّجرِ والسّآمَة، ولكنّ كلَّ موضعٍ يختصُّ بفَوائدَ ولَطائفَ بحسبِ اخْتلافِ محلِّه، ونُصوصُ القرآنِ الكريمِ مَليئةٌ بأسلوبِ الالتفاتِ والتّنويعِ بينَ الضّمائرِ الثّلاثَة، لأغراضٍ تخصُّ دلالاتِ النّصّ، ويُشترَطُ في أسلوبِ الالْتفاتِ –لضَمانِ تَماسُك النّصَ وعَودِ آخرِه على أوّلِه- أن يكونَ الضّميرُ في المُنتَقَل إليه عائداً في نفسِ الأمرِ إلى المُنتقَل عنه، ويُشترَطُ أيضاً أن يَكونَ في جُملتَيْن

وهُناكَ نوعٌ خاصٌّ من التّلوين يعتمدُ على المُغايرَةِ والتّنويعِ في الأسلوبِ؛ والمَيْلِ بالنّصوصِ والأقاويلِ إلى جهاتٍ شَتّى من المَقاصدِ وأنحاءٍ شَتّى من المآخذِ، ويفتنّ الكلامُ فيها من مَذاهبَ شَتّى من المعاني، وضُروبٍ شَتّى من المَباني النّظميّة، ويكونُ للنّفسِ فيه استراحةٌ واسْتجْدادُ نشاطٍ بانتقالِها من لونٍ أسلوبيّ إلى آخَرَ، ومن مَعْنى إلى مَعْنى آخرَ، وفي ذلِك قالَ حازم القرطاجنّيّ؛ عن الشّعراءِ: «لَمّا وَجَدوا النّفوسَ تسأمُ التّماديَ على حالٍ واحدةٍ، وتُؤْثرُ الانتقالَ من حالٍ إلى حالٍ، ووجدوها تَستريحُ إلى استئنافِ الأمرِ بعدَ الأمرِ واستجْدادِ الشيءِ بعدَ الشّيءِ، ووجدوها تنفرُ من الشّيءِ الذي لم يَتَناهَ في الكثرَةِ إذا أخذَ مأخذاً واحداً ساذجاً ولَم يتحيّلْ فيما يسْتَجدّ نشاطَ النّفسِ لقَبولِه بتَنْويعِه والافْتنانِ في أنحاءِ الاعتمادِ به، وتَسكنُ إلى الشيءِ وإن كانَ مُتناهياً في الكثرَةِ إذا أخِذَ من شتّى مَآخذِه التي من شأنِها أن يخرُجَ الكَلامُ بها في مَعاريضَ مُختلِفةٍ» (8). ففي ذلك الخُروجِ بالكَلامِ من نَوعٍ إلى آخَر، سَرَيانُ التّلوينِ في النّصّ، والوُصولُ بالكَلامِ إلى إيصالِ المَعْنى بأبلَغِ لفظٍ.

والسؤالُ في هذا المظهرِ التّرابُطيّ للنّصّ: كيفَ «يَكونُ تنوُّعُ صُورِ التّلوينِ» (9) في الأسلوبِ القُرآنيّ طريقةً لترابُطِ النّصّ وتَماسُكه ؟  

والجَوابُ أنّ أوّلَ شرطٍ لتحقيقِ نصّيّةِ النّصّ حُصولُ التّرابُطِ بينَ أجزائه وجُمَلِه، والتّرابُطُ شبكةٌ كُبْرى من العَلاقاتِ التي تشدّ أنواعاً مختلفةً من العَناصِرِ، ففي النّصّ رواطُ تصلُ مجالاتِ الدّلالاتِ المُعجميّةِ بعضها ببعضٍ، ورَوابطُ منطقيّةٌ تربطُ بين الجُملِ.

أسلوب التّلوين في دلالَةِ الفعلِ على الزَّمَن:

 في إطارِ بَلاغَة التّنويعِ والتّلوينِ في أسلوبِ النّصّ القُرآنيّ، نجدُ القرآنَ الكريمَ يعتمدُ أحياناً أسلوبَ المُغايرَةِ والتّلوينِ (10) في دلالة الفعلِ على الزّمنِ الواحدِ، نحو قولِه تعالى: «مَنْ كانَ يُريدُ العاجلَةَ عَجّلْنا له فيها ما نشاءُ لمنْ نُريدُ ثُمّ جعَلْنا له جَهنّمَ يَصْلاها مَذموماً مَّدْحوراً، ومَنْ أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤمنٌ فأولئكَ كانَ سَعيُهُم مَّشْكوراً، كُلاًّ نُّمدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ مِن عَطاءِ ربّكَ، وما كانَ عَطاءُ ربِّكَ مَحْظوراً. انظُرْ كيفَ فَضّلْنا بعضَهُم على بَعْضٍ وللآخِرَةُ أكبرُ دَرجاتٍ وأكبَرُ تَفْضيلاً» (11) ، ووجهُ التّلوينِ ظاهرٌ في الانتقالِ من صيغةٍ مُركّبَةٍ للفعلِ الماضي (كانَ يُريدُ) إلى صيغةٍ مُجرَّدَةٍ منه (أرادَ). وفي الآياتِ أيضاً تَلْوينٌ للأسْلوبِ بالانتقالِ من صيغة المُتكلّم (عَجّلْنا-نَشاءُ-نَريدُ-جَعَلْنا-نُمدُّ) إلى صيغَةِ الغائبِ (عَطاء رَبِّكَ) ثُمّ العَوْدَةِ إلى المُتكلِّم (فَضّلْنا). وفيها أيضاً تَلْوينٌ للأسْلوبِ بالانتقال من المَشيئةِ إلى الإرادَةِ وهُما فعلانِ مُتغايرانِ ولكنّهُما مُتقارِبانِ. ثُمّ التّلوينُ بينَ الجملَةِ الفعليّةِ (عَجَّلْنا) التي تُفيدُ الحُدوثَ والعُبورَ، للتّعبيرِ عن جَزاءِ حُبِّ العاجِلَةِ، والجُملَةِ الاسميّةِ (فأولئكَ كانَ سَعيُهُم مَّشكوراً) التي تُفيدُ الثّبوتَ أي ثُبوتَ جَزاءِ إرادةِ الآخِرَة.

وممّا يُفيدُ التّلوينَ في أسلوبِ الصّيغِ الزّمنيّة والانتقالَ من زمنٍ إلى آخَر: الانتقال من الماضي إلى المُضارِع، نحو قولِه تَعالى: « واللهُ الذي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشورُ» (12) ، ففيه انتقالٌ من المُضيّ (أرْسَل) إلى الحال (فتُثير) ثمّ عَوْدٌ إلى الزّمَنِ الماضي (فسُقْنا، فأحييْنا)، وكأنّ الحالَ أو الاستقْبالَ في الفعلِ (تُثير) لقطةٌ زمنيّةٌ بين لقطتيينِ ماضيتَيْن، تدلُّ على حكايةِ الحالِ، ففي تلك اللّقْطةِ الْتفاتٌ بَلاغيّ فَريدٌ.

جاء الفعلُ أرْسَلَ بلفظ الماضي لما أسْنِدَ إلى الله تَعالى؛ لأنّه يُفيدُ الثّبوتَ والاستمْرارَ، وما يفعله تعالى بقوله: كنْ، لا يَبقى زَماناً ولا جُزْءَ زَمانٍ، فلَمْ يأتِ بلَفظِ المستقبلِ لوُجوبِ وُقوعِه وسُرعةِ كَونه، ولأنه فَرغَ من كُلّ شَيء، فهو قَدَّرَ الإرسالَ في الأوقاتِ المعلومَةِ وإلى المواضِعِ المعيّنة، ولما أسنَدَ الإثارَةَ إلى الرّيح، وهي تُؤلّفُ في زَمانٍ، قال: «فَتُثيرُ»، وأسْنَدَ «أرْسَلَ» إلى الغائب، وأسْنَدَ «فسُقناه»، و«فأحيينا» إلى المتكَلِّم.

ومن التّلوينِ الانتقالُ من اسمٍ يُقدَّرُ أنّه معمول فعلٍ مُضمرٍ، إلى اسمٍ ليسَ كذلِكَ؛ نحو قولِه تَعالى: «ولقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنا إِبْرَاهِيمَ بِالبُشْرى قالوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» (13)؛ فانتقَلَ من اسمٍ مَنصوبٍ (سَلاماً) إلى اسم مَرفوعٍ (سَلام) لأنّ المنصوبَ إنّما يَكونُ على إرادةِ الفعلِ الناصِب، أي سَلّمْنا سَلاماً، وذلِكَ يُؤذِنُ بحدوثِ التّسليمِ منهُم، أمّا سَلامُ إبراهيمَ فإنّه اسمٌ مرتفعٌ بالابتداءِ، فاقتَضى الثّبوتَ على الإطْلاق، فسَلامُ الخَليلِ أبلَغُ من سَلامهِم، وكأنّه قصَدَ أن يُحيّيَهُم بأحسنَ ممّا حَيّوه بِه  (14).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذه قاعدةٌ ذكَرَها الأستاذ عَبْد الرّحمن حَسَن حبنَّكَة الميْدانيّ في كتابِه: قَواعِد التّدبُّر الأمثَل لكِتابِ الله عزّ وجلّ، دار القَلَم، دمشق، الدّار الشّاميّة، بيروت، ط.4، 1430هـ / 2009 م، ص:13.

(2)  قَواعِد التّدبُّر الأمثَل لكِتابِ الله عزّ وجلّ، ص:16.

(3) القِيامَة: 16-19.

(4) طَه: 114.

(5) ابنُ جنّي: المُحْتَسَبُ في تَبيينِ وُجوه شواذِّ القِراءاتِ والإيضاحِ عَنْها، تَحقيق: عليّ النّجدي ناصِف وعبد الفَتّاح إسْماعيل شَلَبي، لجنة إحْياء التّراث الإسْلاميّ، القاهِرَة، 1414هـ/1994م، ج2/ص:86.

 (6) السّيوطي: الإتْقان، ج:1، ص: 633…

 (7) النبأ العَظيم، ص: 144، هامش:1

(8) حازم القرْطاجنّيّ: مِنْهاجُ البُلَغاءِ وسراجُ الأدَباء، تحقيق: محمّد الحَبيب ابن الخوجَة، دار الغرب الإسْلاميّ، 1986م، ص:296.

 (9) طه رِضوان طَه رِضوان: تَلْوينُ الخِطابِ في القُرآن الكَريم، مَكتبَة الدّراسات القُرآنيّة، نَشْر دار الصّحابَة للتّراث بطَنْطا، ط.1، 1428هـ-2007م، ص:341.

 (10) طه رِضوان طَه رِضوان: تَلْوينُ الخِطابِ في القُرآن الكَريم، ص:342.

  (11) الإسْراء: 18-21

  (12) فاطِر: 9.

  (13) هود: 69.

  (14) ذكَرَه السّيوطي في: الإتْقان في عُلومِ القُرآن، ج:1، ص: 633…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق