مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

المنهج الدلالي: الأسس والمكونات قراءة في تفسير الحرالي المراكشي

القرآن نسق لغوي كلي:

وكان مذهب الشيخ الحرالي أن خطاب القرآن نسق لغوي كلي. يشير بصدد تفسير قوله جل وعز: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 87] إلى أن القرآن أعقب استكبارهم اللعن، كما كان في حق إبليس مع آدم -عليه السلام- فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [سورة الناس / الآية: 6] ليتصل طرفاه فيكون ختما لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به، لا يقال هي أوله ولا آخره. ولذلك ختم بعض القراء[51] بوصله حتى لا يتبين له طرف، كما قالت العربية، لما سئلت عن بنيها: هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها[52].

القرآن الكريم في آياته وخطاباته متصل طرفاه، ترتيبه حرف حرف ولفظ لفظ وآية آية وسورة سورة معجز، أو بعبارة الحرالي وغيره من المفسرين والبلاغيين “نظم القرآن، على ما هو عليه، معجز”[53]. 

وقد يستبعد بعض ممن يقرؤون القرآن على عجل هذا الانتظام العجيب المعجز. فالآيات القرآنية، كما يرون ليست مبنية، حتى في السورة الواحدة، على موضوع واحد، وإنما تتوزع عادة بين مجموعة غير قليلة من الموضوعات. فأين، إذن، هذا الانتظام؟

لا يفوت الإمام الحرالي أن يوضح، جوابا على التساؤل الآنف، ببيانه المبهر، وجه انتظام الموضوعات القرآنية إلى حد الإعجاز. حيث يرجع هذه الموضوعات إلى جوامع ثلاث، وهي “صلاح الدين والدنيا والمعاد”[54]، ثم يبين وجه اختيار القرآن أن تأتي معانيه متنوعة، في وحدات دلالية كبرى، أو قل باصطلاحه في خطابات أو جوامع، متعددة. وما ذلك إلا ليكون قلب المتلقي بها أجمع، ونفسه إليها أشوق. يوضح رحمه الله ذلك فيقول: “لما كان منزل القرآن لإقامة الأمور الثلاثة التي بها قيام المخاطبين به وهو صلاح دينهم، وهو ما بين العبد وربه، من عمل أو إلقاء بالسلم إليه؛ وإصلاح دنياهم، وهو ما فيه معاش المرء؛ وإصلاح آخرتهم، وهو ما إليه معاده؛ كان لذلك منزل القرآن مفصلا بأحكام تلك الأمور الثلاثة، فكان شذرة للدين، وشذرة للدنيا، وشذرة للآخرة، فلما كان في صدر هذا الخطاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [سورة البقرة / الآية: 167] وهو خطاب للملوك، ومن تبعهم من رؤساء القبائل، ومن تبعهم، انتظم به بعد ذلك حكم من أحكام أهل العلم ومن تبعهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 173] ثم انتظم به ذكر أحوال الرشى من الراشي والمرتشي، ليقع نظم التنزيل ما بين أمر في الدين، ونهي في الدنيا، ليكون ذلك أجمع للقلب في قبول حكم الدنيا عقب حكم الدين، ويفهم حال المعاد من عبرة أمر الدنيا، فلذلك تعتور الآيات هذه المعاني، ويعتقب بعضها لبعض، ويتفصل بعضها لبعض، كما هو حال المرء في يومه وفي مدة عمره، حيث تعتور عليه أحوال دينه ودنياه ومعاده، يطابق الأمر الخلق في التنزيل والتطور”[55].

انتظام الوحدات الدلالية الكبرى أو انتظام خطابات القرآن:

“وانتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه، وينتظم تفصيله بتفصيله”[56] من ذلك ما يبينه الشيخ الحرالي عند الآية الكريمة ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة البقرة / الآية: 105] وهي آية يعدها الحرالي من جوامع آي الفرقان، وبعد أن يفصل في تفسيرها يقول: “وهو في الحقيقة خطاب جامع لتفصيل ما يرد من النسخ في تفاصيل الأحكام والأحوال، بمنزلة الخطاب المتقدم في صدر السورة المشتمل على جامع ضرب الأمثال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ [سورة البقرة / الآية: 25]، وذلك لأن هذه السورة (البقرة) هي فسطاط القرآن الجامعة لجميع ما تفصل فيه، وهي سنام القرآن، وسنام الشيء أعلاه، وهي سيدة سور القرآن، ففيها لذلك جوامع [أي: خطابات] ينتظم بعضها ببعض إثر تفاصيله خلالها في سنامية معانيها، وسيادة خطابها، نحوا من انتظام آي سورة الفاتحة المنتظمة من غير تفصيل وقع أثناءها، ليكون بين المحيط الجامع والابتداء الجامع مشاكلة ما”[57].

وعند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 53] قال رحمه الله: “لما تكمل إقبال الخطاب عليهم مرات، بما تقدم من ندائهم والعطف على ما في صلته، صرف الحق وجه الخطاب عنهم إلى ذكر خطاب نبيه، صلى الله عليه وسلم، لهم، فإن الله يخاطب العباد بإسقاط الواسطة بينه وبينهم، ترفيعا لأقدارهم لديه، فيرفع من شاء فيجيبه بما شاء، فيجعل بينه وبينهم في الخطاب واسطة من نبيه، فلما قررهم بما مضى من التذكير على ما واجههم به الحق تعالى، ذكر في هذه الآية تقريرهم على ما خاطبهم به نبيهم، حين أعرض الحق عن خطابهم بما أصابوه من قبيح خطيئتهم”[58].

انتظام الوحدات الدلالية الصغرى أو انتظام الآيات القرآنية:

وكما تتناسق خطابات القرآن، تتناسق كذلك آياته، وذلك “لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها، ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها، وبذلك كان انتظام الآي داخلا معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا”[59].

وقد كان البحث في تناسب آي القرآن في تفسير الشيخ الحرالي من وسائل استجلاء المعنى وأسرار النظم القرآني. كانت ملاحظة الروابط اللغوية، وترتيب النزول، والتطور الروحي للأمة، ومقارنة الآيات بعضها ببعض، تبعا لقاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا، كان كل أولئك وغيره مما يستلهمه الشيخ في إبراز وجوه انتظام الآي. من ذلك أنه يبين وجه مناسبة الآية الكريمة ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة / الآية: 213] والآية الكريمة التي تليها: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 214] فيبرز بفهمه الفطن وجه انتظام هاتين الآيتين في سياق واحد، والذي به يتضح المعنى أكثر، فيقول: “وقد كان من أول منزله، أي: القتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [سورة الحج / الآية: 37] فكان الأول إذنا لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه، من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم، ورغبتهم إليه في الخلوة به، والأنس بمناجاته، فالذين كانت صلاتهم حبا، كان الخطاب لهم إذنا… فلما اتسع أمر الدين، ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد، نزل كتبه، كما نزل فرض الصلاة استدراكا فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، عليكم، أي: أيتها الأمة، القتال. وكان في المعنى راجعا لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها، فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلدا إسرائيليا، ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم، الذين قالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ [سورة المائدة/ الآية: 26]”[60].

السياق الاجتماعي أو السياق المقامي:

يتحدد معنى الكلمة، إذن، في التحليل الدلالي بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى في السلسلة الكلامية؛ لكن السياق اللغوي قد يكون غير كاف لتمييز معاني الكلمات، فلا بد من مراعاة الموقف الذي يقال فيه الكلام أي الظروف والملابسات التي يحدث فيها السياق، ومعرفة المتكلم والمخاطب، وطبيعة العلاقة بينهما. وهذا ما يعرف بالسياق الاجتماعي Contexte de situation في علم الدلالة، كما تقدم. أو السياق المقامي أو القرينة الحالية أو المعنوية في البلاغة العربية.

وقد كان التحليل الدلالي في تفسير الإمام الحرالي يشمل إلى جانب مراعاة السياق اللغوي، الاهتمام أيضا بالسياق المقامي، أو السياق الاجتماعي بعبارة علماء الدلالة؛ حيث كان ينبه إلى ضرورة التعرف إلى المتكلم بخطاب القرآن، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك بالإحاطة بمعاني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما وردت في نظم القرآن. فإن لمواقع الأسماء الحسنى في نظم القرآن معان سامية، ومن لم يتفطن لهذه المواقع لم يبن له خطاب الله، من خطاب الرحمن، من خطاب الملك الديان. “وذلك لسر من أسرار العلم بمواقع معاني الأسماء الحسنى في ما يناسبها من ضروب الخطاب والأحوال والأعمال، وهو من أشرف العلم الذي يفهم به خطاب القرآن، حتى يضاف لكل اسم ما هو أعلق في معناه وأولى به، وإن كانت الأسماء كلها ترجع معاني بعضها لبعض”[61].

فمن تفطن لمواقع الأسماء الحسنى في نظم القرآن استوضح من تفصيل بيان القرآن الختم، واستنبأ من الختم التفصيل، كما في هذه الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة / الآية: 172] حيث يبين الشيخ الحرالي أن هذا الحكم علل مرهبا ومرغبا بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ فأتى بهذا الاسم المحيط إشارة إلى عموم هذا الحكم للمضطر والموسع. وفي قوله: ﴿غَفُورٌ﴾ إشعار بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحد إلا عن ذنب أصابه، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ [سورة الروم / الآية: 48] فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين، ودون رتبة الإيمان، “جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، جيشا ففنيت أزوادهم، فأقاموا أياما يتقوتون بيسير حتى تقوتوا بتمرة تمرة، فأخرج الله لهم العنبر دابة من البحر فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم، بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مأكلهم في حال السعة من صيد البحر، الذي هو الطهور ماؤه الحل ميتته وفي قوله: ﴿رَحِيمٌ﴾ إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئا لم يبغ فيه ولم يعد، تناله من الله رحمة توسعة من أن يضطر بعدها إلى مثله، فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة، ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله”[62].

وأما  المخاطب أي: المتلقي فقد حضي في نظرية الحرالي بعناية خاصة، وذلك لمكانته في عملية فهم الخطاب. فعلى قدر التزكية وتحصيل العلم والحكمة تتنامى نفس المتلقي بأحكام القرآن وآدابه ترقيا في درجات الإيمان، وإقبالا على روح الخطاب، وفق أسنان قلبية، تنبئ عن مدى استشعاره مواقع آي القرآن من نفسه. ولذلك يتفاوت خطاب القرآن بحسب كنه ذات الإنسان، وقربه أو بعده من الخطاب سماعا ومحاضرة. فخطاب ﴿النَّاس﴾ وخطاب ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وخطاب ﴿الْمُؤْمِنِين﴾، وخطاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، وخطاب ﴿الْمُحْسِنِين﴾، وخطاب ﴿الْمُوقِنِينَ﴾ كل خطاب من هذه الخطابات يقع على سن من أسنان القلوب “وليس يقع على عموم يشمل جميع الأسنان القلبية، فتوهم ذلك من أقفال القلوب التي تمنع تدبر القرآن”[63].

ففي الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  [سورة البقرة / الآية: 182] إنما خاطب القرآن “بما يتوجه بادئ بدء إلى أدنى الطبقات التي التزمت أمر الدين؛ لأنه لم يكن لهم باعث حب وشوق يبعثهم على فعله من غير فرض، بخلاف ما فوقهم من رتبة المومنين والمحسنين، فإنهم كانوا يفعلون معالم الإسلام من غير إلزام. فكانوا يصومون على قدر ما يجدون من الروح فيه”[64].

ومراعاة رتب المخاطبين مما يفتح باب الفهم، حسب نظرية الحرالي، والتي كانت تعنى بالمخاطب من نواح أربع، كما أوضحها البيان  القرآني، وهي:

الناحية الأولى: تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان أو ترديه في درك الكفران.

الناحية الثانية: إضافة الآيات القرآنية إلى قلب المتلقي حسب أسنان قلبية معلومة مشهودة.

الناحية الثالثة: لكل قلب خطاب إقبال أو خطاب إعراض على حسب درجة علاقته بنص الخطاب.

الناحية الرابعة: مدى إحساس المتلقي وتوحده، علما وعملا وحالا، بنص الخطاب[65].

كما كان الإمام الحرالي يقدر أيضا في كشف المعنى الموقف الذي نزل فيه القرآن، أي: الظروف والأحوال التي يحدث فيها السياق، وهو ما يعرف عند علماء أصول الفقه والمفسرين بأسباب النزول. والقاعدة عندهم “أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”. وكان الشيخ الحرالي يفيد من جميع المواقف التي يمر منها المجتمع الإسلامي إبان نزول الوحي، سواء على مستوى التطور الروحي للأمة، أو على مستوى أطوار الدعوة، أو على مستوى الأحداث التي يعيشها الأفراد، فيتنزل القرآن موجها هاديا إلى التي هي أقوم. ففي تفسير قوله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة / الآية: 244] يستنبط الحرالي معنى يستوحيه من أحوال عاشها الصحابة رضي الله عنهم عقب وفاة رسول الله صلى عليه وآله وسلم، قال رحمه الله: “وفيه [أي: قوله تعالى: ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾] إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها، بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا: “ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى عليه وسلم، حتى أنكرنا قلوبنا”[66].

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ [سورة البقرة / الآية: 186] قال الحرالي: ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم، فعذرهم بعلمه فيهم، ولم يؤاخذوهم بكتابه عليهم، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب، “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”[67]. وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار[68]، ليجمع اليمن في الطائفتين فإن أيمن الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة، من حيث شرع لها ما يوافق كيانها، وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه”[69]”

وخلاصة القول لقد كانت المعاني الإيحائية التي لاحت للشيخ الحرالي من آي القرآن معان مستنبطة، كما رأينا آنفا، من الدلالة القرآنية الجامعة لنبأي الإفصاح والإفهام، ومن ملاحظة التطور الدلالي للألفاظ، ومن السياق اللغوي، والسياق المقامي. وقد بالغ الإمام الذهبي في وصفه تفسير الحرالي بأنه “عمل تفسيرا عجيبا ملأه باحتمالات لا يحتملها الخطاب العربي أصلا”[70]، فهو حكم يخالف ما تشهد به نصوص تفسير الحرالي المتوفرة، فلم أر فيه من معنى سوى أن يكون صاحبه ممن يرفضون الفهم الإشاري للقرآن، أو يكون قد اطلع على نصوص أخرى لم تصلنا؛ ورغم ذلك فإن ما دبجه قلم الحرالي من قوانين الفهم في كتبه الثلاثة المفتاح والعروة والتوشية لمما يدفع هذا الحكم.

لقد توسلنا بعلم الدلالة الحديث للكشف عن البعد الدلالي في تفسير الشيخ الحرالي، على نحو سمح لهذه الصلاحية الإجرائية أن تبرز، وبالقدر الذي تفيد نصوص الشيخ، كثيرا من القواعد والفوائد التي يكتنزها هذا التفسير، مما يسهم، ولا شك، في بناء علم الدلالة العربي. لقد عكفنا على دراسة الشعر وشروحه، ولم نعر الاهتمام نفسه للكتاب العزيز وشروحه، ففاتنا بذلك مورد عذب في إقامة بناء نظرية لغوية حديثة.

الهوامش:

  1. ينظر: عبد الرحيم مرزوق ، تفسير أبي الحسن الحرالي المراكشي، نظرية ومنهج في التفسير الصوفي. مجلة الحياة الطيبة تصدر عن مؤسسة الحوزات والمدارس العلمية. بيروت العدد 13 السنة 4 . 1424هـ / 2003 م ص: 213 – 240.
  2. الدكتور أحمد مختار عمر، علم الدلالة 11 عالم الكتب. القاهرة، 1993م.
  3. الدكتور فايز الداية، علم الدلالة العربي، النظرية والتطبيق، ص: 6 دار الفكر. دمشق. ط. 2 . 1417 هـ / 1996 م.
  4. الحرالي، الحكم 118. تحقيق: د. جورج كتورة، مجلة الباحث. بيروت العدد 3، أكتوبر 1978م.
  5. الحرالي، نصوص من تفسيره المفقود 92 ضمن تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير، تحقيق: محمادي عبد السلام الخياطي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ط 1 1418 هـ / 1997م.
  6. نفسه، م. س 517.
  7. د. مصطفى ناصف، مسئولية التأويل 134 دار السلام القاهرة. ط.1. 1425 هـ / 2004 م.
  8. ديفيد ديتشيس، مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، 469 – 470، نقلا عن فايز الدية، م. س 190 .
  9. د. عبد العزيز حمودة، المرايا المقعرة 117. عالم المعرفة. 272. الكويت.
  10. الحرالي، مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل 29 ضمن تراث الحرالي في التفسير.
  11. نفسه 32.
  12. نفسه 28.
  13. الحرالي، نصوص من تفسيره 145.
  14. الحرالي، مفتاح الباب المقفل. 31.
  15. الحرالي، نصوص من تفسيره 404.
  16. 16. نفسه، 516.
  1. العقل كما يعرفه الحرالي هو “إدراك حقائق ما نال الحس ظاهره.” نصوص من تفسيره 207 ويميز الحرالي بين ما يسميه ظاهر العقل وبين باطن العقل أو روح العقل أو لب العقل، ويعبر عنه أيضا بالقلب. فشأن باطن العقل “أن يلحظ أمر الله في المشهودات، كما أن شأن ظاهر العقل أن يلحظ الحقائق من المخلوقات.” نصوص من تفسيره 331.
  2. نفسه، 266.
  3. نفسه، 238.
  4. نفسه، 304.
  5. نفسه، 515.
  6. الحرالي، الحكم. م.س. 118.
  7. الحرالي ، نصوص من تفسيره 349.
  8. الحرالي ، مفتاح الباب المقفل 27.
  9. نفسه، 31 .
  10. الحرالي ، نصوص من تفسيره 537.
  11. نفسه، 504 .
  12. الحرالي ، م.س. 259 .
  13. الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز، ج 3 / 382. دار المعرفة، بيروت .د.ت.
  14. الحرالي، مفتاح الباب المقفل 26.
  15. الحرالي، نصوص من تفسيره 509.
  16. نفسه، 184.
  17. د. طه عبدالرحمن: العمل الديني وتجديد العقل 26. المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط 3، 2000.
  18. الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير ج 3 / 158 الدار التونسية للنشر. د، ت.
  19. الحرالي ، نصوص من تفسيره.
  20. نفسه، 184.
  21. نفسه.
  22. نفسه، 377.
  23. نفسه، 199.
  24. نفسه، 530.
  25. نفسه، 379.
  26. نفسه، 239.
  27. نفسه، 360.
  28. نفسه، 159.
  29. نفسه، 196 – 197.
  30. بدر الدين القرافي، توشيح الديباج وحلية الابتهاج، تحقيق: أحمد الشتيوي. دار الغرب الإسلامي. ط.1 .1983، ص: 164. الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ج: 9 / 104.
  31. لم نأت، مخافة الإطالة، على تحليل كثير من القضايا الدلالية كاللفظ المشترك والفروق اللغوية وغيرهما.
  32. د: أحمد محمد قدوري، مقدمة لدراسة التطور الدلالي في العربية الفصحى في العصر الحديث ص:31 عالم الفكر الجلد السادس عشر. العدد الرابع، 1986.
  33. د. أحمد مختار عمر، م.س. 68.
  34. المناوي عبد الرؤوف، الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، ص: 123. تحقيق: د.عبد الحميد صالح حمدان. المكتبة الأزهرية للتراث،مصر.د.ت. مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ج 14 / 147 ، مادة “حرل” تحقيق: علي سيري، دار الفكر، بيروت، 1994.
  35. يقصد حمزة أحد القراء السبعة الذي كان يقرأ القرآن من غير بسملة بين السورتين، فكأن القرآن عنده كالسورة الواحدة.
  36. الحرالي، نصوص من تفسيره، 239.
  37. نفسه، 152 .
  38. في كتاب “عروة المفتاح” يربط الحرالي هذه الجوامع الثلاثة بحديث الأحرف السبعة، فيذكر أنه في كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح النبي صلى الله عليه وسلم يستزيدها من ربه حرفا حرفا، فلما استوفى الستة وهبه ربه سابعا فردا لا زوج له، فتم إنزاله على سبعة أحرف. ينظر تفصيل ذلك في “العروة” 56 – 117، ضمن تراثه في التفسير.
  39. الحرالي ، نصوص من تفسيره 361 – 362.
  40. نفسه، 224.
  41. نفسه، 250.
  42. نفسه، 217.
  43. نفسه، 188.
  44. نفسه، 386.
  45. نفسه، 220.
  46. الحرالي، نصوص من تفسيره 323.
  47. نفسه، 316.
  48. نفسه، 333.
  49. للاطلاع على تفصيل هذه النواح الأربع، ومكانة المتلقي في نظرية الفهم عند الحرالي، ينظر دراستنا المنشورة في مجلة الحياة الطيبة، المشار إليها أعلاه، من ص: 222 إلى 230.
  50. الحرالي، نصوص من تفسيره 426.
  51. ابن ماجة، السنن، باب ذكر التوبة، رقم 4240. والحديث حسن كما قال الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجة.
  52. وهما عمر بن الخطاب وصرمة بن قيس الأنصاري، ينظر تفسير ابن كثير ج 1 / 192.
  53. الحرالي، نصوص من تفسيره 352.
  54. الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: بشار عواد معروف. مؤسسة الرسالة، بيروت. ط. 4 .1986، ج 23 / 47.
الصفحة السابقة 1 2
Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق