مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةقراءة في كتاب

المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال للإمام أبي حامد محمد الغزالي

إضاءة:
يحتل الإمام أبو حامد الغزالي (450-505 هــ ) في تاريخ الفكر الإسلامي مكانة سامية. فقد أثرى هذا العالم الجليل الفكر الإسلامي بمصنفاته الضخمة الواسعة، التي تضمنت كثيرا من الجوانب المعرفية المتنوعة والمتعددة؛ فهو فقيه شافعي، ومتكلم أشعري.. وهو إلى جانب ذلك أصولي قام بتقعيد قواعد علم أصول الفقه، وصاحب تجربة صوفية شديدة الغناء والثراء..
أما كتبه؛ فإنما هي نتاج وثمرة لتثقفه بالثقافة العلمية الموسوعية الشاملة؛ فلقد درس علم الكلام على إمام الحرمين الجويني، وتعمق تعمقا دقيقا في دراسة مذاهب الفلاسفة؛ سواء فلاسفة اليونان، أو فلاسفة الإسلام كالكندي  والفارابي وابن سينا..
  ويعتبر كتابه ” المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال ” المتسم بالصغر في الحجم، والكبير في المضمون، من أهم الآثار القيمة التي حبرها الإمام الغزالي في مسيرته العلمية. فله أهمية خاصة في التعرف على خلاصة قواعد البحث العلمي التي توصل إليها أبو حامد الغزالي أثناء رحلته المعرفية في الوصول إلى الحقيقة العلمية اليقينية.
موضوع الكتاب وسبب تأليفه:
إذا كانت دوافع البحث والتأليف تدفع المؤلفين والعلماء ليبثوا ذلك في صدر مقدماتهم للكتب في غالب الأحيان. فإن دوافع كتاب ” المنقذ من الضلال” جاءت للبيان والتوضيح – كما يؤكد الدكتور أسعد السحمراني (مقدم الكتاب- أستاذ العقائد والأديان في جامعة الأوزاعي ببيروت).الذي قال في هذا الصدد: «إن كتاب ”المنقذ من الضلال ” لا يصنف بين كتب المعارف والعلوم التي تعالج موضوعا أو موضوعات في اختصاص أو علم أو فن. وإنما هو كتاب يحوي أسس المنهج المعرفي، ويحدد خطوات هذا المنهج وسبل تحصيل المعارف بأنواعها، سواء منها ما هو غير موثوق أو ما فيه بعض الثقة. أو ما يرتقي إلى المستوى اليقيني».
ولقد صرح الغزالي في مستهل مقدمة كتابه المنقذ …«أن سبب تأليفه هذا جاء استجابة لطلب أخ له في الدين: فقد سألتني أيها الأخ في الدين أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق. مع تباين المسالك والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يفاع الاستبصار، وما استفدته أولا من علم الكلام وما اجتويته ثانيا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرا من طريقة التصوف، وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من لباب الحق …».
محتوى الكتاب:
إذا أردنا أن نعرف محتوى كتاب “المنقذ من الضلال” معرفة سليمة. فلا بد لنا من التعرف على الاتجاهات الفكرية السائدة آنئذ في عصره (القرن الخامس الهجري). ولهذا فإن الغزالي أثناء بحثه عن الحقيقة اليقينية استوعب هذه المدارس الفكرية استيعابا تاما ودرسها دراسة جدية. ونقدها نقدا عميقا، وقسمها إلى أربع فرق:
-1-المتكلمون الذين يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
-2-الباطنية أو أهل التعليم الذين يزعمون بأنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
-3-الفلاسفة الذين يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
-4-الصوفية الذين يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة.
وقد سلك أبو حامد الغزالي في مؤلفه هذا، بتمحيص سلوك هذه الفرق كلها. ليتعرف إلى أصولها – وأسسها – ومناهجها- ووجهتها.
وبعد هذه الرحلة المعرفية الاستكشافية ما الذي وجده عند كل منها؟
المتكلمون:
إذا كان علم الكلام من العلوم الإسلامية التي نشأت في المجتمع الإسلامي بهدف الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية، والرد على أصحاب النزعات الإلحادية، وأصحاب البدع التي أثرت في نشر ما يؤذي عقيدة المؤمنين…وكان نشاط علماء الكلام بارزا في الدفاع عن العقيدة؛ عقيدة التوحيد، وعن أركان الإسلام وشريعته ضد أهل البدع. بإفحامهم وبيان تهافت حججهم وإظهار باطلهم، وكان منهج علماء الكلام يقوم على تسلم المقدمات المطروحة من الخصوم وأهل البدع ومن ثم تفنيدها والرد عليها، وهو فعل محمود أدى أغراضه وبلغ مقاصده في صيانة العقيدة عند كثرين..فإن الغزالي كان مقصوده أبعد، فهو ليس من طينة من يحتاجون هذا الدواء فقط، دواء تثبيت العقيدة وعدم التأثر بالبدع والتشويشات، وإنما مقصوده علما يقينيا ليس مكانه في مباحث علم الكلام. يقول الغزالي في هذا الغرض:
«ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم وصنفت فيه ما أردت أن أصنف .فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي…».
 الفلاسفة:
لما لم يعثر الغزالي على ردود وافية عند علماء الكلام على الفلاسفة الذين يشكلون خطرا على عقيدة الناس وأفكارهم. وهو صاحب المنهج القاضي بأنه ليس من حق العالم اتخاذ موقف من علم الكلام قبل الاطلاع عليه وقبل أن يصبح على إحاطة به بقدر يوازي فيه أبرز المتمكنين من هذا العلم.
لذلك عكف على كتب الفلسفة دراسة وتمحيصا قرابة السنتين، ليؤلف بعدها كتابه ”مقاصد الفلاسفة” الذي عرض فيه لنظرياتهم ومواقفهم عرضا دقيقا واضحا. مما دفع خصوم الفلسفة إلى اتهامه بأنه قد خدم الفلسفة أيما خدمة في كتابه هذا؛ لكن الغزالي كان أبعد نظرا لأنه بما فعله قد طبق منهجه القائم على أن تفنيد أي مذهب وقبوله أو رفضه يكون بعد الوقوف على حقيقته، وهذا ما فعله حين سطر كتابه ” مقاصد الفلاسفة ”.
كانت بعد ذلك الخطوة الثانية ألا وهي تأليف كتاب ”تهافت الفلاسفة” وهو كتاب الهدم والرد والنقض والذي كان له دور في مسار تاريخ الفلسفة والنظرة إليها من قبل المسلمين.
وتجدر الإشارة إلى أن الغزالي لم يطو صفحة الفلسفة إلى غير رجعة، فما كان لرجل له عقل الغزالي الحصيف اليقظ الفعال أن يقفل الباب على ناحية من نواحي الحياة الفكرية نهائيا.
ويعدد الغزالي في كتابه “المنقذ” أصناف الفلاسفة وأقسام علومهم ويرى أن الفلاسفة «على كثرة أصنافهم يلزمهم وصف الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه».
 لكن ما هي الزاوية التي نظر منها الغزالي إلى الفلاسفة والفلسفة حتى قال عنهم ما قال؟
والجواب: أن الغزالي قد نظر إلى الفلاسفة من زاوية مطابقتها للعقيدة والإيمان؛ لأنه قد وجد:
1 أن الفلاسفة (أو بعضهم على الأقل) قد آمنوا بالله وصفاته، ولكنهم جحدوا اليوم الآخر.
2 أنهم لم يقبلوا (في الأمور الإلهية) بحشر الأجساد، وقالوا بأن المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.
3 وأنهم قالوا إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.
4 وقالوا بقدم العالم وأزليته وفي هذا تسوية بين الخالق والمخلوق.
وهذه الأمور المجملة هنا فصلها الغزالي في كتابه ” تهافت الفلاسفة”.
مذهب الباطنية أو أهل التعليم:
بعد الفراغ من علم الفلسفة وشأنها بدا للإمام الغزالي أن يبحث عن مقالات الفرقة التعليمية؛ أي الجماعة الباطنية وخاصة الإسماعلية التي لا تعترف للعقل بأي دور في مجال المعرفة، وتريد أن تتلقى كل الحقائق من الإمام المعصوم فقط الذي يوجد في زعمها في كل زمان ..
وقد اتفقت رغبة الغزالي في توضيح مذهبهم والرد عليه، خاصة بعد ورود «أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم …
فصار ذلك مستحثا من الخارج وضميمة للباعث الأصلي من الباطن».
وقد صنف الغزالي في الرد على الباطنية ومقارعتهم بالحجة والبرهان خمسة كتب على الأقل هي:
حجة الحق – ومفصل الخلاف- والدرج المرقوم بالجداول – والقسطاس المستقيم- وفضائح الباطنية.
وإذا نحن أمعنا النظر بما جاء في المنقذ.. فالنقطة الرئيسية التي حاج فيها الغزالي أهل التعليم هي موقفهم من نظرية الإمام المعصوم…وهو لا يقبل بهذا الأمر لأن البلاغ الإلهي حمل ما يدل على أن الرسالة كملت مع الرسول محمد (ص) في قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم..)، وأن الرسول نفسه حض من عاصروه على الاجتهاد إن لم يرد حكم فيما يعرض لهم، لا في النص القرآني ولا في السنة النبوية.
إن التعليمية يعطلون- بانتظارهم المعلم- كل جهد فكري، ويلغون الاجتهاد -وهو أساسي في الإسلام- كما أن تأويلاتهم تشوش عقائد الناس، وبناء عليه لم يكن عندهم ما يفي بمقصود الغزالي، ولا سواه ممن يطلبون علما يقينا يكون معه الوضوح والثقة، والأمان من الخطأ.
الصوفية:
بعد أن انتهى الغزالي من نقد المتكلمين، والفلاسفة، والباطنية لم يبق أمامه في مجال البحث عن الحقيقة إلا تعاليم الطائفة الأخيرة، وهي طائفة الصوفية؛ فماذا كان موقفه منها كما عرضه في المنقذ؟
والجواب أن الأمر يختلف مع الصوفية بالنسبة للغزالي فهو لم يتعرف إليهم ليبين أخطاءهم أو يرفض أمورهم جملة وتفصيلا. ذلك لأن الغزالي على ما يقرر في المنقذ، لما هم بالتعرف إلى طرق الصوفية، وقرأ ما كتبوا، رأى أن الأمر الأهم بالنسبة لهم هو العمل الذي يكسب بالذّوق والسلوك، واتجه بنفسه ليتعرف على هذا الطريق واقعا.
ثانيا- أنه كان قد حصل معه من العلوم التي مارسها والمسالك التي سلكها في البحث والتفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية ”إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة، واليوم الآخر”، لأن للناس اضطرار للنبوة ولهم حاجة ماسة إليها.
ويؤكد الغزالي أن هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسه لا بدليل معين محرر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها.
وقد دخل الغزالي هذه التجربة الصوفية التي أساسها العلم والعمل، وقرر أن تحصيل العلم من كتب الصوفية أمر ممكن – لكن الصعب أن يسلك الإنسان طريقهم في الزهد والتوبة، والعمل لتصفية القلب، والسير على درب الورع والخشوع الموصل إلى القرب من الله تعالى. إن زبدة التصوف لا يكون الوصول إليها بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات.
عند هذا الحد بدأ الصراع الداخلي في ذات الغزالي، المعتقد بأصول الإيمان؛ وهو الإيمان بالله تعالى، وبالنبوة، وباليوم الآخر، والفقيه المتشبع بأصول الفقه والفقه، وله فيه تآليف، وهذا الصراع كان بين اتجاهين:
1 اتجاه يجذبه إلى مواصلة عمله في تدريس العلم، وكسب ما فيه صلاح الدنيا، وإشباع الحاجات والميول.
2 اتجاه إيماني يناديه كي يستعد للرحيل من الدنيا، ويعد للآخرة عدتها.
   هذا هو الشك المنهجي، وهو ركن في قواعد المنهج البحثي عند الغزالي، وهو غير الشك الارتيابي الذي لا شاطئ له، بل ما عند الغزالي تأمل ذاتي واستبصار، ووقفة مع تأمل من قبل شخص ينشد الحقيقة والاطمئنان القلبي.
وجدير بالذكر أن الغزالي قد بان له من خلال ممارسة طرق الصوفية حقيقة النبوة وخاصيتها.- فبعد أن عرف الصوفية الصحيحة  بعد تمحيصها… ثابر على التمسك بها حتى آخر حياته. وكان أثره في رد التصوف إلى حظيرة النبوة كبيرا.
وصفوة القول؛ فإن كتاب ( المنقذ من الضلال) يعد سيرة ذاتية عقلية روحية، وسياحة داخلية في أعماق نفس الرجل، أراد منها أن يبين كيف انتهى إلى ما انتهى إليه بعد معاناة شاقة في آفاق التفكير والبحث عن المعرفة اليقينية .

 

 

 (*)المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، للإمام أبي حامد محمد الغزالي، تقديم وعناية أ.د. أسعد السحمراني دار النفائس، الطبعة الأولى، 1430هـ/2009م.

 

 

                                                      إعداد الباحث: العربي الرباحي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق