مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

المقاصد السنية في الاحتفال بمولد خير البرية

إن من عظم المنة على هذه الأمة، أن شرفها الله تعالى بسيد الخلق تفضلا منه ونعمة، سبيلا لتحقيق معاني الدين على الكمال، وتجديدا لميثاق المحبة والاتصال التي عرفتها الأرواح في عالم البرزخ والوصال.

وسعيا لربط حال العبد بحنين هذا الأنس، كان العمل على إذكاء معاني الشوق في الوجدان، وإحياء بواعث العزم في القلوب، حتى تتوجه للعمل بمقتضيات الأحكام.

ولا سبيل إلى إدراك معاني الوصل والقرب، إلا بميثاق الاقتداء والتحقق بالأوصاف النبوية، باعتبار أن سلوك الطالب لا يستقيم إلا على هدي الموافقة للسنة، في الأقوال والأفعال والأحوال.

ومناسبة الاحتفال بالمولد الشريف، وقفة لاستمطار أحوال العشق والهيام، ومواقف التعظيم والاطمئنان، وسلوك القرب والإحسان، الفياضة من قلب المصطفى عليه أفضل الصلاة و السلام. وهي لحظات الذكرى لما نحن مطالبون به في كل لحظة من الأوقات، قال تعالى “وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين” (الذاريات 55)

إن ذكرى الاحتفال بالمولد الشريف، ليست أمرا ظرفيا ولا موسميا، بل هي لحظات متواصلة الأنفاس، متعددة الأبعاد، لا يمكن أن تفصح عنها الألفاظ، ولا أن تحصر من شـأنها الأفكار، فكيف ومحبته عليه السلام شرط في كمال اعتقاد العبد وتمكنه، ما يصبح معه إيمان المحب، حياة شهودية يحياها المحب الصادق في اعتقاده، فقد مر النبي   بحارثة فقال: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: أنظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: يا حارثة عرفت فالزم، قالها ثلاثا. (شعب الإيمان رقم 10591)

فحارثة رأى ببصيرته عرش ربه وسلطانه، وتكشفت له أحوال الدار الآخرة وأهلها، فحصل له بذلك علم القلوب، الذي يشير إليه الحديث الشريف “العلم علمان: علم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان، فتلك حجة الله على عباده” (المصنف لابن أبي شيبة).

وهي المعرفة التي اعتبرها رجالات القوم فرض عين على كل مكلف، لأنها تطهر القلب من السوى، وتعالجه من الأمراض والعلل، فيصبح القلب سليما معافا، تحقيقا لقوله تعالى “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” (الشعراء89 ).

وهذا الإيمان المعرفي هو الذي تجلى في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما بلغه موت النبي فقال: والله ما مات رسول الله، وهو قول يفصح عن الجانب الذوقي في شخصية الفاروق رضي الله عنه، إلى حد عدم التصديق بعدم إمكانية غياب المحبوب، بحيث سلّ سيفه وتوعد من يقول بموت النبي ، إننا لن نجد لذلك تفسيرا، اللهم إلا أن نتذكر فرط محبته للمصطفى عليه السلام، كيف وهو القائل للصادق المصدوق: “والله لانت أحب إلي من نفسي”. ( صحيح البخاري)

ذكرت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله  مات وأبو بكر بالسُنح، قال إسماعيل: يعني بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ، قالت: وقال عمر: والله ما يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله فقبله، قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال:”إنك ميت وإنهم ميتون”. الزمر30 . (صحيح البخاري)

خرج أبو بكر ليمنح الأمة رسوخ ثباته، وقوة إيمانه، فالرسالة المحمدية هي معان سامية لا تعرف إلا الميلاد المتجدد، والإقتداء الأمثل بأخلاق النبوة، هو ولادة مستمرة عند كل وصف يتصف به المؤمن في رحاب سلوك القرب من النبي .

فقد أكد علماء الأمة، على أن موته الجسدي عليه السلام، لا يغير شيئا مما يلزم من الأدب معه في حياته، فقد ناظر أبو جعفر المنصور مالكا في مسجد النبي، فرفع أبو جعفر صوته، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، إن الله تعالى أدب أقواما فقال:”لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي”. (الحجرات2)

وذمّ قوما فقال:”إن الذين ينادونك” (الحجرات3)، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر، وقال له أبو جعفر، أدعوا مستقبل القبلة أم مستقبل رسول الله؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به إلى ربك يشفع لك، قال تعالى “ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك”. (النساء64. ترتيب المدارك وتقريب المسالك إلى مذهب مالك،246)

ولذلك فإن إحياء المولد الشريف ما هو إلا تجديد لأواصر المحبة والتعظيم اللازمين في حق المصطفى، وهي الرؤية التي لا ينبغي أن تغيب عن شعور المؤمن في أي يوم من أيام السنة، ومن قال بغير ذلك فهو لا محالة واقع في محاذير شرعية، فكيف يستنكر الاحتفاء به، ونحن لم نزد على أن أظهرنا ما نحن ملزمون به في سائر الأيام؟.

وتعيين يوم ولادته عليه السلام، هو لإشعار التعلق الواجب في حق النبي ، وهي وقفة للذكرى، وأخذ العبرة والموعظة فيما يمكن أن يدفع بهمة المؤمن نحو التسنن الأقوم، خصوصا إذا التمس المحب ذلك في يوم ولادته عليه السلام، لأن شكر النعمة في تاريخ حدوثها، وفي يوم حدوثها، هو أنسب الأوقات بذلك، فندب رسول الله  إلى صيام العاشر من محرم لنجاة موسى فيه، رغم أن نجاته يتكرر حدوثها، وقد لا يوافق يوم العاشر من محرم، وكذلك ندب رسول الله صوم يوم الاثنين من كل أسبوع معللا ذلك “بأنه يوم ولد فيه”، رغم أن الولادة لم تتكرر في كل يوم اثنين، وقد لا يصادف يوم الاثنين تاريخ الولادة.

وهذا التصرف من رسول الله  يبرز أن شُكر النعمة في تاريخ حدوثها من كل سنة، وفي يوم حدوثها في كل أسبوع أنسب وأولى، سواء تكررت النعمة في ذلك التاريخ أم لم تتكرر، وحيث كان مولده  نعمة تستحق الشكر والابتهاج، وتذكر المنة التي من الله بها على الأمة، فلا بدع أن يكون تاريخ هذه النعمة، وهو ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، أنسب الأوقات لاتخاذ مناسبة مولده سبيلا إلى جلاء صدأ القلوب، بتذكير النفوس بهذه النعمة الكبرى، وإيقاظا للعبرة فيها. (الاحتفال بالمولد النبوي بين المؤيدين والمعارضين: أبي الحسن الهاشمي،77 )

إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عند العلماء والصالحين، منوط بتحقيق مقاصد عظمى بالنسبة للأمة، وذلك من خلال إحداث يقظة على مستوى شعور المسلم، وإنهاض همته نحو الالتزام بالعمل وفق مقتضيات الأحكام الشرعية، وذلك بربط الأمة بسيرة نبيها ومواقفه الخالدة، في سبيل ترسيخ قواعد الإيمان في القلوب، وإحياء بواعث الرغبة نحو المحبوب الأعظم عز وجل، وهي مناسبة لتجديد أواصر التعلق بالباب الأعظم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

فكان علماء الشريعة يحيون معاني الوحي في السلوك، كممارسة عملية، تدعوا إلى الإقتداء الأكمل بالتصرفات النبوية، وعدم الخروج على ما تَمَّ رسمه في أحكام تعاملاته الظاهرة عليه السلام، كما أن علماء فقه الأوصاف الباطنة على حد تعبير الإمام الشاطبي، يحيون معاني الحقيقة في القلوب، حتى تشتعل فيها محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله .

وهي لحظات يستحضر فيها المؤمن مواقف السخاء والكرم والحلم والتواضع وغيرها من القيم، لتجديد ميثاق الالتزام بالمنهج المحمدي في جميع الأحوال، وذلك بغية ربط الأمة بنبيها عليه السلام.

والاحتفال بالمولد النبوي الشريف، هو إظهار الفرح بالنبي الكريم، بما هو مشروع من العبادات والطاعات، وقد أمر الله تعالى أن نفرح بفضله ورحمته على هذه الأمة حيث قال: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيفرحوا” (يونس58)، وليس هناك أعظم من نعمة الإرسال بالهداية والرحمة، التي مَن الله بها على هذا الوجود في شخص نبينا محمد.

فقد هتف صالحوا الأمة بيوم مولده عليه السلام، ولهجت أرواحهم بالعشق المحمدي، واهتزت أشواقهم بنسمات قربه عليه السلام، فدعوا الأمة إلى مشاركتهم في هذا الهيام، حتى ينتفع المسلمون بنفحات هذا الاتصال، وأنوار هذه المحبة، وتجليات هذا القرب.

فكانت مجالسهم مجالس مدح وتعظيم للنبي المختار، من خلال قصائد وأناشيد نبوية، وهي معان ذوقية وحِكم سامية، أورثها الالتزام الصادق بأحوال المصطفى عليه السلام، والارتباط الأكمل بالمنهج النبوي في جميع الأفعال، وكل ذلك مُضمن في مدائحهم وأشعارهم، إنهاضا للهمم نحو المسارعة لأخذ السلوك، وشد الرحال لمنازل المحبة النبوية، والتحقق بالكمالات الخلقية.

كما أن الاحتفال بالمولد الشريف، هي لحظة لإظهار صورة الإسلام السامية، كطريق للاهتداء بما يستقيم مع الفطرة السليمة، وما يقتضيه الاعتقاد الصحيح، والمعاملة الصالحة، إنه جمال الروح في أبهى حلته، ومنار للسلوك في أعظم تجلياته، كل ذلك في انسجام وتكامل ظاهر العبد وباطنه، خصوصا ما تعرفه الشريعة المحمدية من استهداف لأحد أركان عقائد الأمة، وهو النبي  من خلال تشويه صورته، وإضعاف لتعلق المسلمين بمحبته، لما يعلمون يقينا، أن سر قوة المسلمين هو صدق محبتهم، وتشبثهم بنبيهم عليه الصلاة والسلام.

فكان من واجب العلماء العمل على تتبيث هذا التعلق، وترسيخ كل ما من شأنه أن يربط الأمة بنبيها، وما المولد النبوي الشريف إلا وسيلة من بين وسائل عدة، لتصحيح صورة الإسلام وأهله، وتوجيه الهمم نحو التعلق بالنبي وشريعته، وإذكاء أواصر محبته وتعظيمه.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق