وحدة الإحياءمفاهيم

المعرفة والجماعة والمرجعية

تقديم

ذكر أبو القاسم الكعبي (-319ﻫ) في “طبقات المعتزلة”[1]،  وتبعه في ذلك أبو هلال العسكري (-400ﻫ) في “الأوائل”[2] عن واصل بن عطاء (-131ﻫ) أنه قال: “يُعرف الحقُّ من وجوهٍ أربعة: كتابٌ ناطق، وخبرٌ مجتمعٌ عليه، وحُجّة عقل، وإجماع.. (وهو) أولُ من قال: الخبر خبران خاصٌّ وعامٌّ. فلو جاز أن يكونَ العامُّ خاصاً، جاز أن يكونَ الخاصُّ عامّا. ولو جاز ذلك لجاز أن يكون الكلُّ بعضاً والبعض كلاً، والأمر خبراً والخبر أمراً. وهو أولُ من قال: إنّ النسْخ يكونُ في الأمر والنهي دون الأخبار..”[3].

أولا: في مصادر المعرفة الإسلامية

لدينا في هذا النصّ النادر أمران شديدا الأهمية: الأول؛ أقدمُ كلامٍ نعرفه في مصادر المعرفة في الإسلام الأول. والثاني: وضع قواعد لقراءة الخطاب الإلهي، والذي صار يُعرفُ منذ القرن الثالث الهجري باسم:علم أُصول الفقه.

في الفترة التي كتب فيها واصل بن عطاء “رسالته” هذه في مصادر المعرفة، وفي ترتيبات قراءة أو فهم الكلام الإلهي؛ أي مطلع القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، كانت مسألة الخطاب قد صارت الشغل الشاغل لسائر التيارات الفكرية والسياسية.

 وفي حين كان الدعاة السياسيون يسمُّون رسائلهم سِيَراً أي برامج؛ فإنّ المتكلمين، وواصل من أوائلهم، يسمُّون خطاباتهم رسالةً أو رسائل في كذا وكذا. وبالعودة للمصادر التي ترجمت لواصل بن عطاء، لا نعرفُ ماذا كان عنوان رسالته حقاً، وبالطبع فإنّ المعتزلة المتأخرين اعتبروها رسالةً في أصول الفقه.

وفي الحقيقة، فنحن لا نعرفُ مؤلِّفاً سواءٌ أكان متكلِّماً أو فقيهاً، سمَّى عمله “رسالةً في المعرفة” غير الحارث بن أسد المحاسبي (-243ﻫ) وبعد مائة سنةٍ أو أكثر على رسالة واصل. أمّا محمد بن إدريس الشافعي (-204ﻫ) فنحن نعرفُ أنه سمَّى عمله “الرسالة” وحسْب: فهل كان هذا شأن واصل أيضاً؟

لكنْ لماذا أهتمُّ بالاسم أو العنوان هذا الاهتمام؟ أفعلُ ذلك لأنّ الرسالة المجرَّدة وقتَها كانت تعني ما نعنيه اليوم بالرؤية أو النظرية أو الأُطروحة. وبعد واصل بجيلٍ أو جيلين ظهرت التسمية بالمقالة وهي مُرادفةٌ تماماً للنظرية أو الأُطروحة. ولا نعرف أحداً من مؤلفي القرنين الثاني والثالث للهجرة سمَّى عمله خطاباً، مع أنّ المصطلح كان معروفاً، بدليل أنّ علماء الأُصول، بعد زمن الشافعي، تحدثوا عن القرآن الكريم باعتباره خطاب الله المتعلق بأفعال العباد أوالمكلَّفين.

فلنعُدْ إلى تأمُّل ترتيبات مصادر المعرفة عند واصل: الكتاب الناطق هو مصدرُ المعرفة الأول. لماذا هو كذلك؟ لأنه باعتباره موحىً يقدِّم معرفةً يقينيةً: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فصِّلت: 41). وعلينا أن لا ننسى هنا أنّ واصلاً قال في مفتتح رسالته إنّ الحقَّ؛ أي المعرفة، لا تكون إلاّ من هذه الوجوه أو الجهات الأربع، وفي مقدّمها الكتاب الناطقُ الأولُ في اكتساب المعرفة الحقة. وهو ناطقٌ لأنه خطابٌ أو كما سمَّى القرآن نفسَه، وشرحه الشافعيُّ في رسالته أنه بيانٌ للناس[4].

كيف يُقرأُ البيان أو كيف يُستمعُ إليه ويُفهَمُ على مُراد الله؟ شروط وآلياتُ الخطاب هي التي ذكرها واصل في مسألتي العام والخاص، والخبر والأمر، وما الذي يردُ عليه النسخ وما لا يرد. وبهذا المعنى لتحقق المعرفة الحقّة، توقف علماءُ الأصول المعتزلة وغيرهم عند ذاك التضاد الذي يقيمه واصل بين العام والخاص بحججٍ جدلية.

 فالعام بحسب السياقات يمكن أن يطرأ عليه التخصيص. بل إنّ علماء الأصول ومنذ الشافعي قالوا إنه ما من عامٍ إلاّ وخُصِّص، ومع ذلك فيبقى أنّ المورد لا يحدّد الوارد،أو أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. بيد أنّ السبب أو المورد أو حدث السياق هو علةٌ خارجيةٌ إذا صحَّ التعبير،أما بنية البيان فهي لغويةٌ ولسانيةٌ وأُسلوبية وعلى مدارجها يقومُ الخطابُ ويَسْري. وعلى هذا يبقى صحيحاً أن الأمر غير الخبر، لكنّ الخبر يمكن أن يتضمن أمراً.

 وهذا التشابك الدقيق وغير العشوائي أو هذه الجدالية بين البنية والرسالة التي تتضمنها تدورُ معظمُ أحوال الخطاب أو بياناته. وفي جدالات الشافعي مع متكلمي عصره والجيل السابق كانت نقطة قوته هي تركيزه في نظريته في البيان على كلام العرب، أو ما تعرفه العربُ في كلامها بحسب تعبيره. ذلك أنّ القرآن أُنزلَ بلغتها.

فالكتاب الناطق ناطقٌ بكلامها أو المعهود والمعروف منه. هناك اتفاقٌ، إذن، على أنّ الحقَّ أو اليقين في الكتاب، وإنما يحصُلُ التبايُن أو الاختلافُ في القراءة، أوفي أحوال الخطاب أو البيان أو نُطقه أو منطقه. وعلينا أن لا ننسى أنّ بين رسالة واصل ورسالة الشافعي قُرابة القرن من الزمان، وهو قرنُ المتكلمين، لكنه أيضاً قرنُ اللغويين. فاللغويون هم الذين كتبوا في مجاز القرآن وفي معاني القرآن وفي لغة القرآن أو لُغاته.

 وإذا كان يمكنُ تتبُّعُ جدالات الشافعي مع المتكلمين في فقرات رسالته في الأصول، ورسالته في جِماع العلم أو المعرفة؛ فإنه يمكن أيضاً فيهما تتبُّعُ نقاشاته مع اللغويين وأهل اللسان، في المجاز، وفي المعاني، وفي اللغات، وفي الوجوه والنظائر. ويبقى فيما يتصل بالكتاب الناطق أنّ الرجلين واصل بن عطاء والشافعي كانا يبحثان عن اليقين وكيفيات تحقُّقه، أما واصل ففي العقديات والنظريات، وأما الشافعي، شأن الفقهاء، ففي الأحكام.

ولكي يكونَ واضحاً ما نقصِدُهُ نصلُ إلى المصدر الثاني للمعرفة عند واصل وعند الشافعي. وواصل يسمّي المصدر الثاني للمعارف: الخبر المجتمع عليه، أما الشافعي فيسمّيه: السنة الثابتة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ (الحشر:7).

وواصل يريد أن يتأكد أنّ المنسُوب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صحيح النسبة بالفعل، ولذا فهو يشترط لقَبوله باعتباره مصدراً يُداني القرآن في يقينيته أن يكونَ صادراً عنه صلّى الله عليه وسلّم. ولذلك يشترط لقَبول الخبر عن الرسول الاجتماعُ عليه؛ أي أن يكونَ متواتراً عنه في النقل.

 أما الشافعي فيهمه المبدأ، وهو أنّ كلام رسول الله هو مثل كلام الله في الحجية. فإذا تواتر صار الاقترانُ كاملاً من حيث الثبوت بعد الاقتران في الحجية.

 أمّا إذا كان خبرَ واحد؛ أي عن عددٍ قليلٍ أو فردٍ من الصحابة؛ فإنّه يظلُّ كافياً للعمل به، وإن لم يمكن القول إنّ العلمَ اليقينيَّ به أو من خلاله قد تحقق. وإذا لم نكن نعرف ماذا كان واصل يقصدُهُ بالضبط من الاجتماع على الخبر؛ فإنّ الجيل المعتزليَّ الذي عاصره الشافعي، كان كثيرون من أفراده، وبخاصةٍ معتزلة بغداد، قد تخلَّوا عن الحديث، وقالوا إنهم قرآنيون وحسْب. وهؤلاء هم الذين هاجمهم الشافعي في الرسالة وفي جماع العلم وفي اختلاف الحديث[5].

لا شيئَ عند واصل وأجيال المعتزلة اللاحقة يُضاهي القرآن في تحقيق يقينية المعرفة. لكنّ السنة تظلُّ مصدراً للمعرفة الدينية إذا تواترت. أما الشافعي فيكفي عنده النقلُ الصحيح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكي يكونَ المؤمنون ملتزمين بالإنفاذ والعمل. لأنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شارعٌ أيضاً مثل كتاب الله.

 وقد سمع الشافعي من شيخه الإمام مالك بن أنَس (-179ﻫ) اعتبار عمل أهل المدينة سنةً أيضاً. إنما الطريف إدراك الشافعي أنّ مقالة مالك في عمل أهل المدينة وحجيته تُداني مقالة واصل بن عطاء في الخبر المجتمع عليه وإنْ في معرض الفقه العملي وليس في المعرِض العقدي. ولذلك فقد انصرف الشافعي كما انصرف من قبل الليثُ بنُ سعد(-175ﻫ) عن اعتبار الحجية في عمل أهل مدينة رسول الله، وظلَّ مُصِراً على تقديم خبر الواحد الثبْت والثقة، مع تنازُلٍ في مسألة العلم أو اليقين، لكنه تنازُلٌ ما كانت له نتائجٌ عمليةٌ عنده، وذلك بحجةٍ عمليةٍ أيضاً وهي أنّ أكثر الأخبار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المتضمنة أحكاماً أو بياناً بالتخصيص أو التعميم، هي أخبارُ آحاد.

 وإن جرى إنكارها فمعنى ذلك إنكار أحكامٍ كثيرةٍ تضمنتها سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ من تمسُّك الشافعي بالاقتران بين القرآن وسنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنْ قال في الرسالة بإمكان نسْخ القرآن بالسنة[6]. وهو الأمر الذي لم يتابعه عليه تلامذته وأهل مذهبه فيما بعد.

يقول واصل، إذن، استناداً إلى نظرته لتحقُّق اليقين بمصدرين مستقلين للمعرفة: الكتاب الناطق، والخبر المجتمع عليه. ويذهب الشافعي إلى الاتّساق والترابط بين الكتاب والسنة. إنما الأول في النظر والعمل، والثاني في العمل دون النظر. وبناءً على استقلالية مصادر المعرفة عند واصل فإنه يصل في الوجه الثالث إلى حجة العقل. وحجة العقل هي حجيته، أو إمكان بلوغ اليقين به.

ولا ينسى الشافعي الاتّساق هنا أيضاً أو في المصدر الثالث، فيتحدث عن إمكان استنباط الأحكام من الكتاب والسنة بالاجتهاد أو القياس على الكتاب والسنة في استنباط الأحكام. والقياس معنى الاجتهاد عنده ولا شيئ غير. فحتى الاستحسان الذي قال به أبو حنيفة (-150ﻫ) وتلامذته مرفوضٌ عنده لأنه “اجتهادٌ على غير مثالٍ سبق أو قياسٍ صح!”[7].

ولا نعرفُ تماماً ماذا قصد واصل بن عطاء بالعقل عندما تحدث عن حجته أو حجيته. لكنّ المفهوم أنّ حجيته إنما أتت من إمكان استقلاله بالمعرفة، وإمكان بلوغ اليقين به، وإلاّ فكيف يمكن الاستنادُ إليه في الإيمان، ولماذا يخاطب الله، سبحانه وتعالى، عبادَهُ به أو باسمه: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الرعد: 21).

 ومرةً أُخرى ثالثة أو رابعة فإنّ الشافعي عندما يتحدث ليس عن العقل بل عن الاجتهاد والقياس، إنما يقصد العملَ التعبدي؛ ذلك أنّ “جهات العلم” عنده هي كما يقول: “الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس”[8]. ومرةً أُخرى أيضاً وأيضاً؛ فإنّ اتّساقية الشافعي انتصرت في الفقه والأُصول، وقد اضطر أصوليو المعتزلة للالتحاق بها في العمل التشريعي.

لكنّ مدرسة ابن كُلاّب (-240ﻫ) ما وافقت الشافعيَّ، كما أنها ما استكانت إلى تعميمات واصل بن عطاء وأبي الهذيل العلاّف (-227ﻫ)، ولنتأمَّلْ قراءة هذه المدرسة لمسألة العقل باعتباره مصدراً للمعرفة بل واليقين، دون أن يعني ذلك استقلاله بالمعارف على إطلاقه. بذلك قال المحاسبي (-243ﻫ) أحد أعلام هذه المدرسة، والذي كان من حسن الحظّ أن آثاره بقيت.

 ذكر المحاسبي في رسالته العجيبة: “مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه”، وفي كتابه الآخر: “فهم القرآن” أربعة أمورٍ في: تعريف العقل وتحديده، وفي سلطاته ووظائفه الدينية والدنيوية،وفي علائقه بالبشر، وفي مآلات نظره في الكتاب والسنة والإجماع.

ثانيا: في طبيعة المعرفة الإسلامية

في تعريف العقل قال المحاسبي إنّ “العقل هو غريزةٌ وضعها الله، سبحانه، في أكثر خلقه لم يطّلع عليها العبادُ بعضهم من بعض، ولا اطّلعوا عليها من أنفسهم برؤيةٍ ولا بحسٍّ ولا ذوقٍ ولا طعم.. (فهو) لا يُعرف إلاّ بفعاله في القلب والجوارح”[9]. إنه ليس صفوة الروح كما قال قوم. ولا هو مجرد المعرفة كما قال آخرون، بل إنّ المعرفة عنه تكون.

 كيف تحصل المعرفة عنه إذن؟ “الحجةُ، بحسب المحاسبي، حجتان: عيانٌ ظاهرٌ وخبرٌ قاهر. والعقل مضمَّنٌ بالدليل. والدليل مضمَّنٌ بالعقل. والعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علةُ الاستدلال وأصله”[10]. إذن، هناك عقلٌ غرزيٌّ يتساوى الناسُ فيه. وهناك العيان الظاهر، أو الحواسّ ومدركاتها. وهناك الخبر القاهر أو الوحي الإلهي.

 ويحصل الاتّساق بالتواصُل بين الحواسّ ومدركاتها المتعقَّلة من جهة، والخبر القاهر أو الوحي الإلهي، فتكونُ المآلاتُ”عقلاً عن الله”[11]، لا ينفصل فيه العيانُ عن التأمل العقلي، ولا عن المجتمع المتكوِّن من وحداتٍ متعاضدة. وفي هذا التصور رؤيةٌ للعقل في أُفق النظر، وفي أُفق العمل، والذي لا يتمُّ ويتّسق إلاّ بتحقق الجانبين: النظري المدرك والكاشف والمستدلّ، والجانب التدبيري مع الجماعة وفي جنباتها من خلال الإجماع.

إنّ العقل الغَرَزي الشائع في البشر وجوداً وسلطةً وتدبيراً هو الأصل: فالعيان شاهدٌ يدل على غيب، والخبر يدلُّ على صدق، وفي تناوُل الفرع قبل إحكام الأصل سفَهٌ..”[12]. ولذلك يمضي كلٌّ من الثلاثة واصل والشافعي والمحاسبي مباشرةً من عقل الجماعة، إلى الإجماع، أو إلى مجال التحقق للعقل.

 وفي حين تُهمُّ واصلاً استقلالية عقل الجماعة، ويُهمُّ الشافعيَّ اتّساقُهُ من ضمن منظومة الكتاب والسنة؛ فإنّ المحاسبيَّ يُهمُّه تحقق الفرع استناداً على الأصل.

وإذا كان الأصمّ (-201ﻫ) قد استخدم الإجماع بالمعنى السياسي؛ فإنّ علماء الأُصول بعد الشافعي وبينهم الجصّاص الحنفي والجويني والغزالي الشافعيان، وابن عقيل الحنبلي يقولون[13]: “إنّ تجويز مخالفة الإجماع وترك اتّباع الأمة، مما يعظُمُ خَطَرُه. إذ على الإجماع ابتُني معظمُ أصول الشريعة. فلو خالف فيه مُخالفٌ لنُقل خلافُهُ في هذا الأمر العظيم والخَطْب الجسيم..”. بل إنّ “الإجماع في رتبة النصّ وإن كان حكمه أن يُعمل به ويُصار إليه، ولا يجوز تركُهُ بحال.. الإجماع معصومٌ عن الخطأ محفوظٌ عن المعارضة والنسْخ؛ إذ ليس له مثله فيقضي عليه…”[14].

 وينتهي نجم الدين الطوفي الفقيه الحنبلي البارز إلى القول: ” ومعنى كون الإجماع حجةً قاطعةً؛ أنّ العمل يجب به مقدَّماً على باقي الأدلة، الكتاب والسنة والقياس، فيقدَّمُ الإجماعُ على جميعها..”[15]. فالإجماعُ له هذه الدرجة العليا في الحجية؛ لأنه يقدم معرفةً يقينيةً تستند إلى قواطع العقل، وقواطع النصّ، وقواطع عصمة الجماعة.

لقد أتى الإجماع رابعاً عند واصل بن عطاء؛ لأنه اهتم باستقلاليته المعنوية باعتباره ممثلاً لوحدة الجماعة واستقرارها، أكثر مما اهتم بتأثيراته وفعالياته المستمرة. وأتى رابعاً عند الشافعي لأنّ المعرفة الناجمة عنه تابعة للمعارف الثلاث الأُخرى، أو أنّ حجيتها أو صحتها متعلقةٌ باتّساقها مع يقينيات الكتاب والسنة. وصحيح أنّ الشافعي احتج لحجية الإجماع بآية “سبيل المؤمنين” لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (النساء: 114)، لكنه ما رتّب على ذلك نتائج بارزة.

 أمّا المحاسبي فقد أعاد الاكتشاف والتأسيس بحيث وُضع الإجماعُ فرعاً على أصل هو عقل الجماعة، وكلا العقلين: الجمعي (= الفطري) والإجماعي، تحوطهما العصمة المعرفية ذات الركنين: فطرة الخلق، ووعي الجماعة وإرادتها.

لقد أطلق تيار العقل الغَرَزي، تيار عقل الجماعة، العنِان لثورةٍ معرفيةٍ ربطت بين العالم العاقل (= العقل باعتباره بصيرةً ونوراً)، والعالم المعقول، بين الكون المسطور والعالم المنظور. ولذلك قال إمام الحرمين الجويني (-478ﻫ) عن مقولة المحاسبي في العقل[16]: “وما حوَّم عليه أحدٌ من علمائنا غير الحارث بن أسد المحاسبي، رحمه الله، فإنه قال: العقل غريزةٌ يتأتّى بها دَرْكُ العلوم وليستْ منها”.

وقد أُثير على هذه النظرية؛ نظرية عقل الجماعة الذي عنه تكون المعرفةُ، ويضمن حريته وحركيته ومسؤولياتِه الإجماع، أُثير عليه إشكالان: أحدهما؛ من داخل القرآن بشأْن المحكم والمتشابه والرسوخ في العلم، وبشأن الردّ إلى الله ورسوله، وثانيهما؛ من خارج القرآن، وهو المتعلق بمفهوم العقل حتى بداخل تيارات المتكلمين والفقهاء الذين كانوا يقولون بغَرَزية العقل.

ولنبدأ بمشاكلة أو مشاكسة المفسّرين لرؤية عقل الجماعة والإجماع، وذلك بذكر الآيتين:

أ. قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7).

ب.  وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء: 82).

إنّ موضوع الاستشكال في الآية الأولى هي منزلة الراسخين في العلم، الذين يستأثرون بمعرفة معنى المتشابه وأحكامه، أو أنهم يكشفون عن التأويل الصحيح. والسؤال هنا ليس عن معنى المحكم والمتشابه، بل عن وجود طائفةٍ من العلماء هي التي تختص بفهم المتشابه أو تعقُّل تأويلاته؛ فأين تساوي الناس في العقول، وأين عقل الجماعة. ثم ألا تشتبه طائفة الراسخين بالتراتبيات الكهنوية التي تتنافى وعقلَ الغريزة؟ وعلى ذلك أجاب الرازي في تفسيره[17] بأن الرسوخ في العلم لا يعني وجود طائفةٍ أو فئة مخصوصة بعلمٍ خاص. بل الراسخون هنا هم الذين لا تُزعزع اعتقاداتهم الشكوك والأُمْنيات والطموحات؛ فيتعمدون المصير إلى التأويل المخطئ أو المنحرف لأنّ في قلوبهم زيغاً، وهم مولعون باختراع التأويلات الباطلة للإضرار بقضية الإيمان، والتأويل السليم للكتاب. والدليل على ذلك أنّ الآية تُختم بمخاطبة أُولي الألباب.

وأما الآيةُ الثانية والتي تتضمن العودة إلى الرسول وإلى أُولي الأمر. فإنّ المقصودَ بها ليس تمييز فئةٍ بالقدرة الغريزية أو الفطرية على الاستنباط، بل إنّ المقصود بها مثل المقصود بالراسخين في العلم.

وهكذا ليس في الآيتين قولٌ بطبقةٍ كهنوتية، مختصة بمعرفةٍ خاصةٍ دون سائر الناس؛ بل المقصود الحثُ على إحسان النية والقصد، وتجنب التأويلات المنحرفة والباطلة، الناجمة عن سوء النية والمقصد أو ضعف الإيمان.

أمّا الاستشكال من خارج القرآن فيتعلق بمفهوم العقل من جهة، وأنه غريزةٌ وليس جوهراً فرداً أو معرفةً بحتة[18]. ويتعلق من جهةٍ ثانيةٍ بتقسيم العقل إلى غَرَزيّ ومكتَسَب أو مستفاد. وفي حين ذهب للقول بجوهرية العقل الفلاسفة، وأنكره عليهم المتكلمون والفقهاء وأهل الحديث؛ فإنّ الماورديَّ الذي يقسم العقل إلى غرزي ومكتسب أو مستفاد، مما يُشعر بتميز فئةٍ على فئة، يعود فيقول[19]: “ومن الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلاً، لأنه من نتائجه”.

وقد قال الراغب الأصفهاني حاسماً الأمر[20]: “اعلم أنّ العقل لن يهتدي إلاّ بالشرع. والشرع لا يُتبيَّنُ إلاّ بالعقل. فالعقل كالأُسّ، والشرعُ كالبناء. ولن يُغني البصر ما لم يكن شعاعٌ من خارج، ولن يُغني الشعاعُ ما لم يكن بَصَرٌ.. فالشرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل-وهما متعاضدان بل متحدان”؛ وبذلك يعودون جميعاً إلى العملية التي سماها المحاسبي: العقل عن الله.

وكما سبق القول؛ فإنّ الرؤية القائلة بعقل الجماعة، الذي تتأتَّى عنه المعارف التي يعطيها حجيتَها الإجماعُ المفتوح، ما كانت هي الوحيدة في مجال الأزمنة الكلاسيكية للأمة. فهناك الرؤية الفلسفية التي تعتبر العقل، والعاقل، والمعقول، واحداً أو جوهراً فرداً. والرؤية الصوفية التي تعتبر الحضورَ فناءً أو معرفةً حقيقية.

إنّ الرؤية الأقدم هي رؤيةُ عقل الجماعة، وفي هذه الرؤية فإنّ المرجعية لها. وهي مرجعيةٌ مفتوحةٌ تتأصَّلُ على العصمة، وتنفتح على الإبداع والتجديد، ومفردات الصواب والتسديد.إنها رؤيةٌ مركَّبةٌ، تحتاج مفرداتُها وتجلياتُها إلى تتبُّعٍ على مدى تلك الأَعصُر.

 لكنْ لننظر في الختام في هذه الفقرة العجيبة عن العقل ودولته، وهي تطلعنا على ازدواجية صراعية ما تنفكُّ تثور ثم تهدأُ لكنّ جدلياتِها لا تنتهي. يقول الخوارزمي في “مفيد العلوم ومُبيد الهموم[21]“: إنّ العقل والدولة تناظرا؛ فقال العقل: أنا معي الخطاب! وقالت الدولة: العيشُ معي! فقال العقل: أنا حجة الله! فقالت الدولة: أنا عطاءُ الله.. فتحاكما إلى سليمان النبي، صلى الله عليه وسلم، (الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب) فقال:إنّ العقل لا يطيب إلاّ مع الدولة، فمثالكما مثالُ الروح والجسد لا يَحْسُنُ أحدهما إلاّ مع الآخَر. فحلفت الدولةُ أنها لا تسكن الأرض، ولا تحصل بكسْب آدمي؛ فذهبت إلى السماء؛ فالدولةُ سماويةٌ، و العقل نورٌ ربّاني..”.

إنّ الضمان من راديكاليات النصوصيين هو عقل الجماعة القابل للاجتهادات الفردية، والضابط لها في الوقت نفسه. إنه عقل الكثرة، وليس عقل القلّة الطهورية أو المختارة. ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ الضمان من الغنوصيات والفيوضات في مسألة “العقل عن الله” بحسب المحاسبي، إنما هو الإجماع وسلطته، إجماع الأمة، وإجماع النخبة الفقهية غير المنفصلة عنها، والتي تستمد شرعيتها منها.

إنّ الشرع، إذن، هو عقلٌ من خارج. والعقل شرعٌ من داخل. لا تناقض ولا اندماج ولا انفكاك. فالجماعة تحتضن الشريعة وتتعلقّ لها. وبهذه البصيرة أو البصائر تُنتجُ المعرفةَ الناجمة في الزمان عن لقاء الكون المسطور بالعالم المنظور في آياتٍ متجددة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور: 35).

الهوامش


[1] . الكعبي، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق: فؤاد سيد، الدار التونسية للنشر، 1972، ص 111-112.

[2] . أبو هلال العسكري، الأوائل، تحقيق: محمد المصري ووليد قصّاب، دمشق: دار الفكر، 1970، 2/124.

[3] . وقارن برضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، الطبعة الخامسة، بيروت: دار جداول، ط5، 2011، ص155-159.

[4] . الشافعي، الرسالة، تحقيق وشرح: أبي الأشبال أحمد محمد شاكر، مصر: مطبعة الحلبي، ط1، (1358ﻫ/1940م). ص21 رقم 53، باب كيف البيان.

[5] . الشافعي، الرسالة، م، س، ص139-142، رقم 1312. أما خبر الواحد فهو: “خبر الواحد عن الواحد حتى يُنتهى به إلى النبي أو من انتهى به إليه دونه” (الرسالة، م، س، ص369). وقارن بحمادي ذويب، جدل الأصول والواقع، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2009، ص215-229.

[6] . الرسالة، م، س، ص214-235.

[7] . المصدر نفسه، ص 70، رقم 1456-1468، وص502.

[8] . المصدر نفسه، ص222-225، 592-599.

[9] . المحاسبي، العقل وفهم القرآن، نشرة حسين القوتلي، بيروت، ط2، 1978، ص201-202.

[10] . المصدر نفسه، ص232.

[11] . المصدر نفسه، ص246-247. والمحاسبي: الرعاية لحقوق الله، تحقيق: عبد الحليم محمود، القاهرة: دار الكتب الحديثة 1969، ص136، 141، 178.

[12] . العقل وفهم القرآن، م، س، ص232.

[13] . الجويني، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، بيروت: دار الكتب العلمية، 2003، ص375.

[14]. أبو حامد الغزالي: المستصفى، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، 1/139.

[15]. نجم الدين الطوفي، شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، (1407 ﻫ/1987م)، 3/29-30. وقارن بـ: أبو الوفاء ابن عقيل، الوَاضِح في أصُولِ الفِقه، بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع/لبنان، ط1، (1420ﻫ/1999م)، 1/20.

[16] . أبو المعالي عبد الملك الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم محمود ديب، المنصورة: دار الوفاء/مصر ط4، 1418ﻫ، 1/112. وقارن برضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، الطبعة الأولى عن جداول، بيروت، ط1، 2015، ص278-283.

[17] . فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، مصر: مطبعة الحلبي 1978، م8، ص214-217.

[18] . انظر عن هذه الإشكالية كتابي: الأمة والجماعة والسلطة، م، س، ص155-159. وكتابي: الجماعة والمجتمع والدولة، م، س، ص283-287.

[19]. الماوردي، أدب الدنيا والدين، دار مكتبة الحياة، د. ط، 1986م، ص 21، 30-31.

[20]. الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، بيروت: دار مكتبة الحياة/لبنان، 1983م، ص67-68.

[21] . أبو بكر الخوارزمي، مفيد العلوم ومبيد الهموم، بيروت: المكتبة العنصرية، 1980، ص204-205.

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق