مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

المرأة المسلمة وأوليات الاجتهاد ضمن أولويات فقه الواقع

ايت علا عبدالرحيم*

 

 

إن التعويض اللا شعوري بلوحة الماضي عن واقع الحال قد يجعل الحل شبه مستحيل،إنه الإنشاد إلى الماضي [1] ويرى الماضي سلطانا عظيما على الحاضر وأن الماضي يكاد يكون معصوما من الخطأ ما أنتج في كثير من الأحيان كما من التهميشات أو شروحا للتهميشات السابقة [2] إن الواقع الحالي والذي يعكس تطور حقوق المرأة بات يتجاوز مسائل تعليمها أو خروجها للعمل إذ إن القوانين المنظمة لحركة المجتمع ولا سيما الأحوال الشخصية، ما تزال تستنفد إلى مرجعية الشرعية، ولا تسمح إلا بقدر محدود من الاجتهاد لا يكاد يخرجها من الحالة التي تعانيها من الأحكام ، فالأحكام الواردة في القرآن الكريم لا تشكل سوى سدسه، وأساس الشريعة منتشرة في بنية القرآن والأحكام التي تقبل التطور.

إن الرؤية الفردية في الفقه جعلت بعض الفقهاء يخصص خمسمائة أية في القران الكريم من أصل ستة ألاف آية أي اقل من% 10 خاصة بالأحكام واعتبر الباقي مجرد مواعظ وقصص وعقائد وهذا التعامل الضيق مع القران الكريم يعكس عن ضيق المنهجية، لأنهم ينظرون إلى آيات الأحكام المباشرة أي ما يتصل بفقه الأفراد: كعبادة الفرد وتجارة الفرد وجريمة الفرد، وغفلوا عن البعد التشريعي للمجتمع وللأمة في المجال السياسي والتنظيمي والعلاقات الداخلية داخل المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى[3] 

إن الحديث عن أولويات الاجتهاد ضمن أولويات فقه الواقع وخصوصا في قضيتنا هذه أكيدة ومحقة كلما تداخلت القضايا وتعددت النوازل وتشابكت، فالمصالح والمفاسد تتفاوت رتبتها، وقد تتعارض المصالح فيما بينها والمفاسد مع بعضها، وأحيانا تتعارض المصالح مع المفاسد يقول العز بن عبد السلام (المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة[4]

ومن بين من خاض لجج هذا المجال بشيء من التفصيل الدكتور أحمد الريسوني في ( نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية )

هذا فضلا عما كتب حول المصلحة وضوابطها، والضرورة وأحكامها، وممن اعتنى بفقه الموازنات وأولويات الاجتهاد المعاصر الدكتور يوسف القرضاوي[5] وبحثه أيضا الدكتور عبد المجيد محمد إسماعيل السوسوة[6] وقد ذكر في بحثه أن ( فقه الموازنات يأتي للترجيح بين المتعارضات التي لا يمكن فيها فعل أكبر المصلحتين إلا بترك الصغرى أو التي لا يمكن فيها درء أعظم المفسدتين إلا بفعل الأخرى أو التي لا يمكن فيها تجنب المفاسد إلا بترك المصالح أو التي لا يمكن فيها تحقيق المصالح إلا بتحمل المفاسد[7] يقول الشيخ القرضاوي 🙁 انه فقه تشد حاجة الناس إليه في حياتهم ولاسيما في عصرنا الذي تختلط فيه الأمور بعضها ببعض، وتتشابك المصالح والمفاسد والخيرات والشرور، بحيث يعسر أن تجد خيرا خالصا، بل يمتزج كل منهما بالأخر امتزاج الملح بالماء[8] ويقصد الدكتور بالموازنات ما هو أوسع من الأدلة وألصق بالحياة وواقع المجتمعات[9] إن مبدأ الاجتهاد أصيل في شرعيتنا المرنة التي مبناها على العلل والمقاصد، وقد كثر الكلام في الاجتهاد والتجديد في قضايا الشريعة المختلفة، وتأخر طرح قضايا المرأة للنقاش من داخل المنظومة القيمة الإسلامية إلا من بعض العلماء والدعاة، وفي المقابل كثر طرح هذه القضايا على المستوى الأولي، من مؤتمرات وقرارات،أخذت صفة الرسمية والإلزامية .

وقد يكمن مبدأ الاجتهاد في رأيي في إعادة دراسة الكثير من هذه القضايا بآليات من داخل منظومة الشريعة من مقاصد وتكامل بين النصوص والبعد عن التعصب والأعراف المخالفة للشرع، وإعادة قراءة التراث وتمحيصه وتحقيقه، وخاصة المتعلق بالمرأة والموازنة بين الواجب والواقع، قال ابن القيم ( فالواجب شيء والواقع شيء ، وينفد الواجب بحسب استطاعته لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم)[10] والتجديد في قضايا المرأة، ليس بجديد، بل يتجاوز القرنين ولكن المشكلة في هذا التجديد هو هجوم بعض المجددين على نصوص  الشريعة وتجاوز قائلوها وواضعوها أصول ومقررات المنظومة المعرفية الأصولية فهل التجديد يعني إلغاء ما قرره الأئمة المتقدمون وتجاوزوه؟ أم انه إحياء العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاها؟

إن مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر دائما يوحي بمفهوم التجديد في الفكر الغربي ومفهوم الثورة الذي يشير إلى التغير الجذري  والانقلاب في وضعية المجتمع. ويوحي كذلك بتسرب المنهجية العلمانية إلى حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية، فشاع استعماله عند بعض مفكري الإسلام الذين يقتربون في نسقهم الفكري من القيم والمناهج الغربية، فأصبح بعضهم يتوجس من هذا المصطلح خيفة. حتى أطلقت عليه مصطلح  (التجديد فوبيا )ويبدوا واضحا أن ثمة فوارق جوهرية بين التجديد في الفكر الإسلامي والتجديد في الفكر الغربي ، فالتجديد إسلاميا لا يعدوا كونه إحياء وبعثا وإعادة، أما التجديد غربيا فيعني أن التغيير يأتي على كل القيم لعدم وضوح العلاقة بين الثابت والمتغير وهو نابع من طبيعة الفكر الغربي الذي يقوم على نوعين من الفصل، كما عبر عنه المفكر الإسلامي الكبير طه عبد الرحمان[11] في الكثير من كتاباته، فصل العقل عن الغيب، وفصل العلم عن الأخلاق، وهذا النوع الأول من الفصل قد نتج عنه نفي وجود مصدر معرفي مستقل ( الوحي) عن المصدر المعرفي البشري المبني على الواقع المشاهد أو المحسوس المادي.

إن الدخيل الحداثي ألغى السنة كمصدر للتشريع أو شكك في الأسانيد أو اعتبر الإسلام ظالما للمرأة وكثرت الدراسات بين مدافع عن التراث غثه وسمينه، وبين ناقم عليه وطارح لبدائل وافدة بحجة الموازنة بين مصلحة تطبيق التراث التي أصبحت لا تفي بمستجدات العصر وبين الاستعانة بقوانين الدولة و ( الفقه الغربي ) في قضايا المرأة وتقديمه على التراث دون التميز بين نصوص الشرع ( الكتاب والسنة) وبين الفقه الذي هو اجتهاد العلماء بدافع المصلحة، وضاعت قضية المرأة المسلمة بين هذين التيارين المتضادين والبعدين عن تحقيق الصواب الذي هو العودة إلى النصوص الصحيحة وتأويلها بمناهج صحيحة وتطبيق فقه الموازنات من داخلها من خلال إعادة القراءة و الاستنباط والترجيح بين الفهوم المختلفة للوصول إلى النتائج الصحيحة فيتحقق الفهم السديد، ويتوصل الربط بين النص والتجديد والمصلحة القوية.إن الف سنة من التقليد أدت إلى صدأ العقل المسلم واكتفى المجتهدون بعلاج جوانب جزئية أو تعديل في بعض الأحكام من الجرأة على وضع أصول لفقه جديد[12] .

لقد ادخر القران الكريم الآية الكريمة: * والمؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر *[13] عبر القرون ليمكن للمرأة أن ترفعها عندها يجيء الزمان الذي يسمح بتطبيقها لأنها تعطي للمرأة حرية العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعترف بمشروعية العلاقة الوثيقة التي تربط الرجال والنساء ( المؤمنون والمؤمنات ) وهي علاقة الولاية والتي تشمل الأخوة والتعاون على كل خير و……………. مجتمعا خصبا يترابط فيها الرجال والنساء بمحور وثيق هو الولاية ويستهدفون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون مبدأ الإقصاء ومبدأ الفصل الحديدي ما بين المؤمنين والمؤمنات [14]

ولم أجد جرأة أكبر مما وصل إليه الشيخ محمد الغزالي عندما قال : ( أعرف أن هناك أثار واهية نبذها أصحاب الدقة العلمية في تمحيص المرويات، ولم يذكرها عالم يروي الصحاح ولا احترفها فقيه ينقل حقائق الإسلام مثل ما روى عن فاطمة أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل ومثل حديث منع الرسول  صلى الله عليه وسلم بعض نسائه أن يرين عبد الله بن أم مكتوم وتلك كلها أخبار لا تساوي الحبر الذي كتبت به وهي ظاهرة تتناقض مع مقررات الكتاب والسنة المقطوعة بثبوتها ودلالتها.)[15] ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق والمجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين و فقهاء مذاهبهم ، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون[16] وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة ” لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ‘ ‘

 


[1]  – عبد الرحيم الرفاعي: بعض العوامل الاجتماعية والتربوية ذات العلاقة بالتفوق الدراسي: دراسات ←برية العدد 85 . المجلة 9 .

[2]  – فابق طلعت عبد الحميد ( مستقبل التربية العربية )

[3]  – محمد الحسن: الاجتهاد والحياة ص 12.

[4]  – قواعد الأحكام 1/ 42-43

[5]  – ذكر في كتبه أولويات الحركة الإسلامية وفي فقه الأولويات في السياسة الشرعية

[6]  – عنوان بحثه، منهج فقه الموازنات في الشريعة الإسلامية ( مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ) السنة 13 العدد 51 

[7]  -قواعد الأحكام ( نفس المرجع  السابق ) 1/ 4243

[8]  – السياسة الشرعية ص 287.

[9]  – نفسه ص 273.

[10]  – إعلام الموقعين 4/220

[11]  -انظر كتب أد / طه عبد الرحمان: سؤال في الأخلاق في النقد الأخلاقي للحداثة العربية والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، تجديد المنهج وتقويم التراث

[12]  –  جمال البنا المرأة المسلمة بين تحديد القرآن وتفسير الفقهاء. ص 179

[13]  – التوبة 71

[14]  – جمال البنا نفس المصدر السابق ص 180.

[15]  – محمد الغزالي: جريدة الشعب القاهرة هذا ديننا العدد الصادر في 14-5-1994 ص2

[16]  – انظر عابدين، محمد أمين مجموع الرسائل ط 1 1998 ج 2ص 123 

 

استاذ اللغة العربية وباحث في مجال الفكر الإسلامي 

 

نشر بتاريخ: 05 / 05 / 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق