مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

المذهب الأشعري بين السلفية والوسطية

                د . عبد الرافع حمد الأمين
 جامعة إفريقيا العالمية-كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

يقول عبد الرافع حمد الأمين في مقدمة دراسته حول المذهب الأشعري بين السلفية والوسطية: « إن مذهب الأشعري الذي استقر عليه بعد أن حدث له من التغيير الفكري ما جعله يترك مذهب الاعتزال الذي كان عليه مدة أربعين سنة؛ هذا المذهب جذب إليه أفكار علماء العقيدة ونقادها، لما امتاز به من الابتكار والتنويع. فقد ألف الأشعري عدداً من كتب العقيدة في مراحل مختلفة، وكان كل كتاب يعبر عن فترة زمنية معينة. فبعد أن ترك الأشعري مذهب المعتزلة اتجه نحو السلف، ونحو مذهب الإمام ابن حنبل بصفة خاصة، وأشار إلى ذلك في كتابه:”الإبانة عن أصول الديانة”. ومع أن الأشعري يرى أنه من الحنابلة، إلا أن هؤلاء لا يعدونه منهم.
ومن الملاحظ أن مذهب الأشعري المنتشر الآن في معظم بقاع العالم الإسلامي ليس هو المذهب السلفي؛ بل هو مذهب وسطي. وهذه الوسطية تعني عند علماء العقيدة ونقادها وسطيات مختلفة ومتعددة. فهناك من يرى أنه وسطي بين المعتزلة والسلف، وهناك من يرى أنه وسطي بين المعتزلة والمشبهة، وهناك من يرى أنه وسط بين السلف والماتريدية، إلى غير ذلك من الأفكار.
وقد شدني مذهب الأشعري منذ مدة ليست بالقصيرة للنظر في هذه الأحكام حول مذهبه، وقد رأيت من المناسب الآن التوغل في هذا الأمر والبحث عنه لعلي أخرج منه بطائل. ومن المعروف أن مذهب الأشعري السائد الآن ليس هو المذهب الذي يتبع فيه نهج السلف، بدليل أن السلف وخاصة الحنابلة منهم لا يسيرون على مذهبه الذي يتبعه المالكية كلهم، وثلاثة أرباع الشافعية، وثلث الحنفية، وعدد قليل من الحنابلة».
القائلون بسلفية المذهب الأشعري:
وبعد أن تحدث الباحث عن نشأة الفرق الإسلامية وبحث في أسباب الخلاف بين الفرق في العقيدة، انتقل إلى البحث في معنى القول بسلفية المذهب الأشعري مبتدئا بالتعريف بمصطلح السلفية، ومما جاء في قوله: «أما السلف اصطلاحاً فيعني ما كان عليه الصحابة الكرام–رضي الله عنهم– والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، كالأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن المبارك، والبخاري ومسلم وغيرهم. ويدخل في ذلك شيوخ الإسلام السائرين على طريقة الأوائل، كما يشمل أصحاب الاتجاهات السلفية المعاصرة في الجزيرة العربية، والهند ومصر وغيرها، من الذين حافظوا على العقيدة والمنهج الإسلامي بعد ظهور الفرق المختلفة».
ثم انتقل بعد ذلك لعرض منهج السلف في تقرير العقيدة، وعرض ترجمة مختصـرة لأبي الحسن الأشعري، وذكر أطوار مذهبه ما بين منهج الاعتزال ومنهج السلف قائلا: «وهناك من علماء العقيدة[1] من يرى أن الأشعري بعد تحوله عن الاعتزال مرَّ بطورين:
الأول : طور التوسط والسير على طريقة ابن كلاب[2].
الثاني : بعد أن ترك طريقة ابن كلاب سار على منهج أهل السنة والجماعة كما في كتابه “الإبانة”[3] .
ويعتمد من يرون أن عقيدة الأشعري سلفية على كتب الأشعري التي ألفها على طريقة السلف، مثل كتاب: “الإبانة”، و”مقالات الإسلاميين”، و”رسالة إلى أهل الثغر”…
أما فيما يتعلق بكتاب “الإبانة” فإن د. فوقية حسين محققة هذا الكتاب ترى أن الأشعري لم يكن له منهج غير منهج السلف، وتنفي أن يكون منهجه وسطاً بين أهل السنة والمعتزلة، لأن الاختلاف بين المذهبين– في رأيها– اختلاف جذري .
فمذهب المعتزلة لا يعتمد في توحيد الله تعالى على أي نص منزل، بل يعتمد على مفاهيم مصدرها العقل وحده. وترى كذلك أن مذهب السلف الذي ارتضاه الأشعري لنفسه يعتمد على مذهب ابن حنبل (رضي الله عنه).
وقد أشار الأشعري إلى إعجابه بمذهب ابن حنبل واتباعه له بقوله في كتابه “الإبانة” «وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب لله عز وجل، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل– نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته– قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج».[4]أما كتاب”مقالات الإسلاميين” وهو من كتب الأشعري المتأخرة فقد عرض فيه لآراء الفرق الأخرى بموضوعية وتجرد، وذكر فيه كذلك مقالة أهل الحديث تحت عنوان: (هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة)، وبين في نهاية كلامه عنهم أنه متبع مذهبهم..
وذكر الأشعري في كتابه “رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب” ما أجمع عليه السلف في مسائل العقيدة المختلفة؛ كصفات الله، ورؤيته، والقدر، والنبوة، والإيمان، ومرتكب الكبيرة، وعذاب القبر، والصراط، والشفاعة، وغير ذلك. ويقول محقق هذه الرسالة: «إن أسلوب الأشعري في كتابه هذا هو أسلوبه في كتبه الأخرى ، وخاصة كتاب”اللمع”، وإن الأشعري يميل فيه إلى النزعة الكلامية التي ورثها عن المعتزلة، بجانب استعماله بعض الألفاظ التي لم يستعملها السلف، كلفظ الجسم، والجوهر، والحركة»[5].
أما من ناحية ترتيب تأليف كتبه الثلاثة سالفة الذكر التي اقترب فيها من منهج السلف، فإن د. فوقية حسين ترى أنه ألف كتاب”الإبانة” قبل”اللمع” لأنه في اللمع فصَّل المسائل، وأفاض فيها. أما في الإبانة فقد حدَّد فيه موقفه من الاعتزال، وانتماءه إلى الإمام أحمد بن حنبل. وحسبما ذكره ابن عساكر تلميذ الأشعري في كتابه:”تبيين كذب المفتري” فإن الأشعري لما منبر مسجد منبر البصرة، وأعلن توبته عن مذهب الاعتزال، وزَّع صحائف على الحاضرين، وكان من بينها كتاب”اللمع”، ولم يُرد ذكرا لكتاب “الإبانة”. ولا يخفى أن ابن عساكر كمؤرخ-له قيمته ومكانته- وقد تعهد أن يحكي معتقد الأشعري على وجه الأمانة، وأن يتجنب أن يزيد فيه أو ينقص منه تركاً للخيانة[6].
ويذهب د. أحمد محمود صبحي إلى ما ذهبت إليه د. فوقية حسين؛ فهو يرى كذلك أن الأشعري ألف كتاب”الإبانة” بعد تحوله مباشرة عن الاعتزال. وعبارته في ذلك: «فيبدو أنه ألَّفه عقب التحول، لأنه يحمل خصومة للمعتزلة، وفي الإبانة حملة شعواء على المعتزلة، وعرض مشوه لأفكارهم»[7].
ويرى السلف أن مرحلة الإبانة كانت المرحلة الأخيرة التي انتهى إليها رأي الأشعري، وأن الأشعري وصل إلى الحق على مراتب: فهو قد ترك أولاً مذهب المعتزلة إلى مذهبه العقلي فأصاب نصف الحق، ثم ترك أخيراً مذهبه العقلي إلى مذهب السلف فأصاب الحق كله[8] .
ويبدو لي أن الرأي القائل إن الأشعري ألَّف”اللمع” قبل “الإبانة” هو الراجح، لأن ابن عساكر أخبر بذلك، ويدعم هذا الرأي مسألة أخرى؛ وهو أن الأشعري عندما ترك الاعتزال لم ينتقل مباشرة إلى مذهب السلف؛ بل سلك أولاً طريق عبد الله بن سعيد بن كلاب التي مر ذكرها في الكلام عن نشأة الفرق[9]، ثم انتقل منها بعد ذلك إلى منهج السلف. فهذه المرحلية موجودة هنا وهناك».
القائلون بوسطية المذهب الأشعري:
ثم ذكر الباحث رأي القائلين بانتهاج الأشعري للوسطية قائلا: «إن رجوع الأشعري عن الاعتزال رفع من شأن الأشعري، وأعلى منزلته بين الناس، لذلك انتشر أمره، وكثر أتباعه. وظل بعد رجوعه إلى عقيدة السلف يدافع عن العقيدة، ويرد على أهل البدع والأهواء المخالفين لمذهب السلف. ومع أن للأشعري أتباعاً كثيرين؛ لكن هؤلاء الأتباع لم يرجعوا إلى عقيدة السلف كما رجع إمامهم، بل خالفوا الأشعري في كثير من أمور العقيدة، وبقوا على طريقة ابن كلاب التي سلكها الأشعري بعد تركه الاعتزال. وظل أتباع الأشعري إلى يومنا هذا يسلكون منهجاً مخالفاً لمنهج الأشعري الجديد .
لقد كان للأشعري آراؤه الكلامية التي انتشرت بين الناس من خلال بعض كتبه، مثل: “الإبانة” و”اللمع”، لكن ما ذكره الأشعري فيهما من آراء السلف وأهل السنة لم يكن له أثر عند متأخري الأشعرية، لذلك تصبح مقولة:(إن الأشعري كان على منهج السلف) مقولة ضعيفة.
كما أن آراء الأشعري الكلامية لم تعجب الحنابلة الذين كانت لهم مواقف من الأشعري ساعدت في زعزعة الثقة في حقيقة موقفه، ولم يعدُّوه من السلف، لذلك أصبح مذهبه محكوماً عليه بأنه مذهب وسطي بين المعتزلة والسلف..
وعلى الرغم من تأليف الأشعري كتبه الثلاثة: ( اللمع، والإبانة، ومقالات الإسلاميين) التي تقربه من منهج السلف، إلا أن الأشعرية حسب رأي ابن عساكر لم يصلوا إلى رتبة السلف، فهم عدل وسط بين المعتزلة والحشوية[10]، لم يبتعدوا عن النقل– كما فعل المعتزلة– ولم يبتعدوا عن العقل كالحشوية…
وقد لخص الإمام محمد عبده منهج الأشعري في العبارات الآتية: «لقد سلك الأشعري مسلكه الوسطي المعروف بين موقف السلف وموقف المتطرفين المخالفين لهم، وأخذ يقرر العقائد على أصول النظر، وارتاب في أمره الأولون، وطعن كثير منهم في عقيدته، وكفره الحنابلة، واستباحوا دمه، ونصره جماعة من أكبر العلماء، كإمام الحرمين الجويني، وأبي بكر الباقلاني، والإسفراييني وغيرهم، وسموا رأيه بأهل السنة والجماعة»[11].
ومع كل هذه التهم التي وجهت إلى الأشعري إلا أننا نجد مذهبه انتشر فيما مضى ولا يزال ينتشر في أغلب أجزاء العالم الإسلامي، ويُعزى السبب في هذا الانتشار إلى الآتي :
1- اتجاهه الوسط بين العقل والنقل .
2- نشأة المذهب في بغداد في ذلك الزمن .
3- وجود علماء أفذاذ فيه؛ كأبي حامد الغزالي، ومحمد المهدي بن تومرت .
4- ارتباط الأشعرية بالصوفية زاد من أتباع المذهب الأشعري»[12].
ثم عقد الباحث في النهاية خاتمة لبحثه أجمل فيها أهم النتائج التي توصل إليها قائلا:
«والآن بعد هذا التطواف في فكر الأشعري فإنه يمكن الوصول إلى النتائج الآتية :
1- هناك فرق بين فكر الأشعري وفكر الأشعرية من بعده؛ فإن الأشعري بعد تأليفه كتبه: (الإبانة، ومقالات الإسلاميين، ورسالة أهل الثغر) أصبح قريباً من منهج السلف، وعلى الرغم من هذا الاقتراب فإن الحنابلة– وهم من السلف– لا يعدون الأشعري منهم، وذلك لاتخاذه منهج المعتزلة المعتمد على الجدل وعلم الكلام .
2-  يضاف إلى ذلك أن الأشعري خالف السلف في مسائل العقيدة كصفات الذات، وصفات الأفعال الإلهية التي منها كلام الله، وسلك في هذه الصفات مسلكاً وسطاً بين السلف الذين لا يحصرونها في عدد معين، وبين المعتزلة الذين نفوا هذه الصفات أو بعضها.
3- يلاحظ كذلك أن مذهب الأشعري منذ بدايته لم يُبن على منهج مؤصل، وذلك لتذبذب المذهب بين موافقته السلف، وبين الرد على المعتزلة.
4-  لقد زاوج الأشعري في النهاية بين منهج النص ومنهج العقل، فأدى ذلك إلى مذهب وسط يحترك النص والعقل معاً .
5- لقد أثبت الأشعري في مسألة الصفات المتشابهة التي تثبت لله الوجه واليد والعين ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً من غير تشبيه أو تكييف، إلا أن تلاميذ الأشعري وأتباعه من بعده لجأوا إلى تأويل هذه الصفات، وحصروا صفات الذات وصفات الأفعال الإلهية في عشرين صفة، في حين أن السلف لا يحصرونها في عدد معين.
6- لعل وسطية مذهب الأشعري مما ساعد على انتشار مذهبه في شتى أنحاء العالم الإسلامي»..

                                                                             إعداد: الباحث منتصر الخطيب

 

 

 

الهوامش:

[1] من هؤلاء : أحمد بن حجر آل بو طامي في كتابه:”العقائد السلفية”- ج1 ، 143 . والشيخ محمد صالح العثيمين في كتابه:”القواعد المثلى”- ص: 80 – 81 .
[2] لقد مرت طريقته في المبحث الأول من البحث .
[3] انظر : د. عبدالرحمن بن صالح المحمود- موقف ابن تيمية من الأشاعرة – ج1 – ص 377 وما بعدها- ط1/ 1995م – مكتبة الرشد للنشر والتوزيع/ الرياض.
[4] الإبانة عن أصول الديانة- تحقيق وتعليق: د. فوقية حسين- ط1/1977م – دار الأنصار/ القاهرة- ج2 – ص: 20 .
[5] رسالة أهل الثغر بباب الأبواب- لأبي الحسن الأشعري- تحقيق: عبدالله شاكر/ محمد الجنيدي- مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة-ط/1413هـ – ص: 63 .
[6] انظر: ابن عساكر – تبيين كذب المفتري-ص:152 .
[7] انظر: د. أحمد محمود صبحي  الأشاعرة- ط4 / دار النهضة العربية / بيروت- ص: 45 – 46.
[8] مقدمة د . حمودة غرابة حول كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع للأشعري- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية/1975م – ص: 6-7 .
[9] انظر: المبحث الأول من البحث.
[10] سبب تسميتهم بذلك أنه حضر مرة إلى مجلس الحسن البصري أناس من رعاع الرواة، ودهمائهم، ولما تكلموا بسقط الكلام عنده قال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أي إلى جانبها، فسموا بذلك. انظر : ابن عساكر، تبيين كذب المفتري- ص:11 .
[11] رسالة التوحيد-تحقيق وتعليق: طاهر الطناحي- دار الهلال/1963م – ص: 36 [12] د . أحمد محمود صبحي- الأشاعرة-ص:33 – 39 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق