الرابطة المحمدية للعلماء

المخطوطات الإسلامية في غرب إفريقيا.. من الحفر الرملية إلى المكتبة الرقمية

عبد القادر هايدرا يقود حملة اكتشاف نحو 100  ألف مخطوطة باللغة العربية في مالي

تعيش آلاف آلاف المخطوطات الإسلامية الموجودة منذ قرون عديدة في يد عائلات تعيش في مدينة تمبوكتو الواقعة في غرب أفريقيا، على إيقاع “إحياء” علمي جديد، بعد أن كانت ضحية النسيان والسرقة، في محاولات لإعادة الاكتشاف، بهدف حماية ودراسة تراث هذه المكتبة الأفريقية القديمة، ويوجد في مقدمة الباحثين والمحققين المشرفين على عملية الاكتشاف هذه، عبد القادر هايدارا.

ويرى شارلوته فيديمان، في مقال هام حول الموضوع، نشر الأسبوع الجاري في موقع “قنطرة” الألماني، في نسخته العربية، (ترجم المقال صفية مسعود، وراجعه عماد مبارك غانم) أن عبد القادر هايدرا، هذا الرجل البدين اللطيف من مالي يتمتع بشبكة اتصال جيدة مع العالم الحديث، وفي الوقت نفسه فإنه يشعر وكأنه يعيش في عصر آخر تماماً: في تلك القرون التي كانت فيها مدينة تمبوكتو، مسقط رأسه، مركزاً للعلوم الإسلامية، والنتيجة اليوم، هي أن نحو 100 ألف مخطوطة تشهد اليوم على تلك الحقبة، حيث كُتبت هذه المخطوطات باللغة العربية التي كانت آنذاك لغة الصفوة في غرب أفريقيا، وتتناول موضوعات مثل الشريعة الإسلامية والفلسفة والطب والفلك والرياضيات. وبحوزة هايدارا واحدة من أقدم المخطوطات، وهي عبارة عن قرآن من القرن الثالث عشر، مكتوب على جلد الغزال.

وقد ورِث هايدارا عن أبيه تسعة آلاف مخطوطة، وهي أكبر مجموعة خاصة من المخطوطات في تمبوكتو. وقد قام هايدارا بإتاحة الفرصة أمام العامة لكي يشاهدوا هذه المجموعة، وفي الوقت نفسه أسس تياراً جديداً يدعو ملاك المخطوطات من الأفراد ألا يسلموا كنوزهم إلى حكومة مالي، بل أن يحتفظوا بها بأنفسهم. ويقول عن هذا: “إن العائلات هي أفضل من يقوم بحماية هذا التراث الفكري”، فهل من الممكن أن ينجح ذلك؟ وهل يستطيع الأفراد الحفاظ على وثائق تاريخية هشة للغاية؟

في الواقع، يشترط الخبراء الغربيون لتمويل هذه المشروعات أن يتم تحويل هذه المكتبة التي تعد “أقدم مكتبة جنوبي الصحراء” إلى مكتبة رقمية حتى يستطيع الباحثون الاستفادة منها. غير أن هناك وعياً جديداً يتسم بالعناد قد بدأ تتبلور لدى مالكي المخطوطات في تمبوكتو.

ومعلوم أنه عندما يسمع الأوربيون اسم تمبوكتو فإنهم يفكرون حتى اليوم في مكان يقع في آخر الدنيا، يضيف شارلوته فيديمان، غير أن المدينة كانت عبر قرون مركزاً للعالم الجنوبي ونقطة تجارة مزدهرة، كما كانت تضم جامعة إسلامية. هناك، حيث تتقابل دلتا نهر النيجر مع الصحراء في دولة مالي اليوم، كانت تتقاطع الطرق السريعة في تلك الفترة: من الشمال كانت تأتي القوافل، وعبر النهر كان الذهب يأتي من غرب أفريقيا. وفي إثر التجار جاء العلماء. في القرن الخامس عشر كان تعداد الطلبة في تمبوكتو يبلغ 25 ألف طالب، أي نفس عدد سكان المدينة اليوم تقريبا، ومنذ عدة سنوات والعائلات تقوم بفتح تلك الصناديق التي تحتفظ فيها بالمخطوطات المصفرة والمذهبة، حيث صنعت وسائل الإعلام من الحدث أسطورة جديدة من أساطير تمبوكتو: إن تاريخ إفريقيا الخبيء مكتوب على “مخطوطات صحراوية”. ولكن تلك المخطوطات هي في الحقيقة الدليل على أن “إفريقيا تشارك منذ نحو ألف عام في العلوم الإسلامية”، حسبما يقول الباحث الألماني في العلوم الإسلامية ألبريشت هوفهاينتس الذي يدير في جامعة أوسلو مشروعاً لرقمنة المخطوطات.

ويلاحظ أن بعض تلك المخطوطات جاء من الأندلس، وبعضها من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والبعض الآخر ألفه كتّاب أفارقة في تمبوكتو. اللغات الأفريقية كانت تكتب آنذاك بالحروف العربية أيضاً، وذلك لإجراء المراسلات الدبلوماسية وإبرام العقود.

وخلافاً لمعظم مواطنيه في دولة مالي الفرنسية اللغة فقد تلقى عبد القادر هايدارا، البالغ من العمر خمسة وأربعين عاماً، تعليماً باللغة العربية. وظل التراث الإسلامي العربي حياً داخل عائلته، وهكذا ظل كل جيل، منذ القرن السادس عشر، يسلم الجيل التالي تلك المخطوطات، كما درس والد هايدارا في السودان ومصر، ثم اشترى مخطوطات ونسخها بخط يده. في ذلك الوقت كانت عائلات كثيرة أخرى تغلق مكتباتها في تمبوكتو، بل وقام البعض بإخفاء المخطوطات في حفر رملية، وذلك خوفاً من أن يقوم المستعمرون الفرنسيون بمصادرتها. كان الفرنسيون قد استولوا بالفعل على مخطوات ثمينة في المدينة الملكية القديمة سيغو، وما زالت تلك المخطوطات موجودة حتى اليوم في المكتبة الوطنية في باريس.

ويقوم عبد القادر هايدارا الآن بالدعاية لهذه المبادرة الخاصة، غير أنه في الحقيقة لم يؤمن بها إلا مؤخراً. طوال نحو عشرين عاماً كان يقوم بشراء المخطوطات بنفسه لصالح معهد أحمد بابا في تمبوكتو الذي كان يعمل فيه، والذي يضم حالياً ما يقرب من 30 ألف مخطوطة، وقد تمكن هايدارا من إقناع مئات من العائلات لكي تتخلى عن إرثها من المخطوطات مقابل مبالغ قليلة نسبياً نظراً لفقر دولة مالي. ولكنه غيّر موقفه تغييراً جذرياً عندما أصبح مسؤولاً عن مكتبة العائلة. كانت الوصية التي تتناقلها الأجيال تقضي بعدم البيع، فحوّل هايدارا هذا الالتزام إلى عشق ملك عليه حياته.

وكان أول شيء فعله هايدارا، افتتاحه عام 1993 مكتبة خاصة، ثم حث عائلات أخرى على الاقتداء به. ما حدث بعد ذلك كانت طفرة حقيقية، إذ تضم تمبوكتو اليوم اثنتين وثلاثين مكتبة من تلك المكتبات العائلية الخاصة. إن وعي الناس يتزايد بقيمة إرثهم الثقافي، والمادي أيضا.

والطريف، أنه عندما بحث عبد القادر هايدارا في الخارج لأول مرة قبل خمسة عشر عاماً عن معونة مالية، لم يكد يجد أحداً يصدق حكاية تلك المكتبات الأفريقية القديمة. وحدث التحول في الموقف عام 1997 في هيئة أمريكي أسود، هو هنري لويس غيتس، مدير الدراسات الأمريكية الأفريقية في جامعة هارفارد، حيث رأى غيتس المخطوطات وتملكته الحماسة، ثم وجد في الولايات المتحدة ممولين للمكتبة.

ويطلق على مكتبة هايدارا، اسم والده “ماما هايدارار”،  وقد أضحت في هذه الأثناء مؤسسة يعمل بها اثنا عشر موظفاً. وفي عام 2008 قدم له “مركز جمعة المجيد للثقافة والتراث” في دبي المعونة لدى إنشاء مختبر لترميم المخطوطات وحفظها ورقمنتها، وبينما يتم في معهد أحمد بابا تصوير المخطوطات بالماسح الضوئي (سكانر)، فإن هايدارا يقوم بتصويرها رقمياً. “هذا هو آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا”، يقول هايدارا مفتخراً، “كما أن هذه التقنية تحافظ على المخطوطات بشكل أفضل”، بل إن هايدارا يقوم في ورشته بتصنع الورق الخالي من الأحماض اللازم لترميم الوثائق المهترئة، بعد أن كان يستورده مقابل أثمان مرتفعة. ولم يتوقف هايدارا عن التفكير في مشروعات جديدة: “ورق تمبوكتو! يا لكثرة الأشياء التي يمكننا أن نفعلها به! هدايا للسياح مثلاً، كما أن بإمكاننا أن نقوم بتصديره”.

ويأمل الرجل والمحقق الشغوف، أن يصدر قريباً أسطوانة مدمجة “سي دي” بترجمة نماذج من النصوص التي تتحدث عن حل الصراعات سلمياً والحكومة الرشيدة. “لأن الغربيين يأتون إلى هنا وينشرون الاعتقاد بأنهم قد اخترعوا كل شيء”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق