مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

المحاسـبة

المحاسبة في اللغة:

المحاسبة في اللغة من الحساب وهو عد  الأشياء، وهو ما  يحاسب عليه فيجازى  بحسبه[1].

في القرآن والحديث:

ترد المحاسبة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارين: اعتبار دنيوي، وآخر أخروي:

أ- الأول يرد على نوعين:

   1- ما يحسبه الإنسان من أسباب معلومة للرزق، كقوله تعالى : ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[2]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[3] ربما يعطيه أكثر مما يستحق، أو يعطيه عطاء لا يمكن للبشر إحصاؤه، أو يعطيه بلا مضايقة.

2- الحساب بمعنى حلول وقت المساءلة على الأمانة، أو المجازاة عليها كقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾[4]، وعن أبي حميد الساعدي، قال: «استعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء، حاسبه قال: هذا ما لكم وهذا هدية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا»[5].

   ب- والثانى يرد أيضا على نوعين:

  1- محاسبة اللَّه للعبد فى الآخرة، كقوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾[6]، ومما ورد فى السنة، ما روي عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بالصعقة الأولى؟»[7].

وعن عبد اللَّه بن عتبة، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، اللَّه يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة»[8].

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عذب، قالت: أوليس يقول اللَّه تعالى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[9]، فقال: إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك»[10].

وعن أبي مسعود رضي الله عنه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال اللَّه عز وجل : نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه»[11].

   وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «قال اللَّه عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[12] فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقاهم اللَّه برحمته، فهم الذين يقولون: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور﴾[13]»[14].

   2- محاسبة العبد نفسه قبل محاسبة اللَّه له في الآخرة ، لما روي عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللَّه”[15]، ومعنى  قوله  صلى الله عليه وسلم من دان نفسه، أي حاسب نفسه في الدنيا، قبل أن يحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: «حاسبوا أنفسكم، قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة، على من حاسب نفسه في الدنيا»[16]، ويروى عن ميمون بن مهران قال: «لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه، كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه»[17].

المحاسبة في الاصطلاح الصوفي:

المحاسبة في الاصطلاح الصوفي تطلق على الموازنة بين مقدار ما يكتسبه العبد من الخير أو الشر، أو تقدير أعلى الخيرين وأدنى الشرين، روي عن أبى سليمان الدراني (ت:215هـ) أنه قال: «أبلغ الأشياء فيما بين الله وبين العبد المحاسبة»[18].

وروي عن الحارث المحاسبي (ت:243هـ): «المحاسبة والموازنة في أربعة مواطن فيما بين الإيمان والكفر، وفيما بين الصدق والكذب، وبين التوحيد والشرك، وبين الإخلاص والرياء»[19].

   وقال أبو طالب المكي (ت:386هـ): «صورة المحاسبة أن يقف العبد وقفة عند ظهور الهمة وابتداء الحركة، ثم يميز الخاطر وهو حركة القلب والاضطراب وهو تصرف الجسم، فإن كان ما خطر به الخاطر من الهمة التي تقتضى نية أو عقدا أو عزما أو فعلا أو سعيا، إن كان لله عز وجل وبه وفيه معنى لله عز وجل، أي خالصا لأجله، ومعنى به أي بمشاهدة قربه، لا بمقاربة نفسه وهواه، ومعنى فيه أي في سبيله وطلب رضاه عنه، وما ندب عنده، أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنيا، أو عارض هوى، أو لهو وغفلة، سرى بطبع البشرية ووصف الجبلة، نفاه وسارع فى نفيه، ولم يمكن الخاطر من قلبه بالإصغاء إليه والمحادثة»[20]، ثم يذكر أنه ما من فعلة وإن صغرت، إلا وينشر لها ثلاثة دواوين:

   أ- الديوان الأول: لم؟، أي لم فعلت؟، وهذا موضع الابتلاء عن وصف الربوبية بحكم العبودية ، أي كان عليك أن تعمل لمولاك، أم كان ذلك منك بهواك، فإن سلم من هذا الديوان، بأن كان عليه أن يعمل، كما أمر به سئل عن الديوان الثاني.

ب- الديوان الثاني: كيف؟ أي قيل له: كيف فعلت هذا؟، وهو مكان المطالبة بالعلم، وهو البلاء الثاني، أي قد عملته بأن كان عليك عمله فكيف عملته؟ أبعلم أم بجهل؟ فإن الله تعالى لا يقبل عملا، إلا على طريقته وطريقته العلم، فإن سلم من هذا نشر عليه الديوان الثالث.

ج- الديوان الثالث: لمن؟ أي قيل لمن؟ وهذا طريق التعبد بالإخلاص لوجه الربوبية، وهو البلاء الثالث، وهو بغية الله عز وجل من خلقه الذين قال فى حقهم: ﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِين﴾[21]»[22].

  ويذكر القاشاني أن المحاسبة عند الصوفية هي المقايسة بين الحسنات والسيئات، ليعلم العبد أيهما أرجح، وهذه المقايسة تحتاج إلى ثلاثة أمور:

أحدها: ألا تضع ميزان الشرع من يدك، إذ لا يصح التمييز بين الحق والباطل لمن أهمله.

 ثانيها: أن لا تضع الحزم الذي هو سوء الظن بالنفس، بحيث لا تعتقد فيها أنها تفعل خيرا خالصا أصلا، إلا أن يرحم الله لآية: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[23].

 ثالثها: ألا تشتبه عليك الفتنة بالنعمة، وذلك بأن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك من خير، صحة كان أو فراغا، أو علما أو طاعة، أو مالا أو سؤددا، أو غير ذلك مما لا يعد كمالا في الدنيا والآخرة ، فإن وجدت ذلك مما يجمعك على الله، أي لا يميل بك إلى سواه من جميع الكائنات دنيا وآخرة فهو نعمة وإن وجدته مفرقا عنه فهو نقمة[24].

الهوامش:


[1] ـ لسان العرب 1/30 ، وكتاب العين 3/149 .

[2]  ـ سورة: آل عمران، آية: 37.

[3]  ـ سورة: الطلاق، آية: 2.

[4]  ـ سورة: الطلاق، آية: 8.

[5] ـ صحيح البخاري، كتاب الحيل، رقم: 6979.

[6]  ـ سورة: الأنبياء، آية: 1.

[7] ـ صحيح البخاري، كتاب الخصومات، رقم: 2412.

[8] ـ صحيح البخاري، كتاب الشهادات، رقم: 2641.

[9]  ـ سورة: الانشقاق، آية: 8.

[10] ـ صحيح البخاري، كتاب العلم برقم (103) 1/237 .

[11] ـ صحيح مسلم فى كتاب المساقاة برقم (1561) 3/1195 .

[12]  ـ سورة: فاطر، آية: 32.

[13]  ـ سورة: فاطر، آية: 34.

[14] ـ أخرجه أحمد فى المسند برقم (21220).

[15] ـ أخرجه الترمذى، كتاب صفة القيامة، رقم: 2459.

[16] ـ أخرجه الترمذى، كتاب صفة القيامة، رقم: 2460.

[17] ـ أخرجه الترمذى، كتاب صفة القيامة، رقم: 2461.

[18] ـ طبقات الصوفية، م. س، ص: 80 .

[19] ـ نفسه، ص: 58 .

[20] ـ قوت القلوب، م. س، 1/78.

[21]  ـ سورة: الحجر، آية: 40.

[22] ـ المصدر السابق، 1/81ـ80 .

[23]  ـ سورة: يوسف، آية: 53.

[24] ـ لطائف الإعلام، م. س، ص: 406.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق