مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

المجلس الثالث من مجالس “المزهر”

      على سَنن الاختصار، ينبني هذا المجلس على مسائل منتخبة من النوع الأول من “المزهر”، الموسوم بـ”ـمعرفة الصحيح، ويُقال له: الثابت المحفوظ”.

المسألة الرابعة: ما الوَضْعُ؟

   الوضع عبارةٌ عن تخصيص شيءٍ بشيءٍ، بحيث إذا أُطلِق الأوّل فُهِمَ منه الثاني.

إذا قلت مثلاً: زيد قائم، فُهم منه صدور القيام من زيد.

المسألة الخامسة: هل الوضع للمفردات أم للمركَّبات الإسنادية؟ ماذا وَضَعَ الواضِع؟

المختار ما ذهب إليه كُلٌّ من الرازي (تـ.606 هـ)  وابن الحاجب (تـ.646 هـ) وابن مالك (تـ. 672 هـ) من أن المفردات أسبق في الوضع من المركبات، لأن هذه الأخيرة من اختيار المتكلم، ذلك أن الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. فَلَو كان واضع اللغة راعى الجُمَل، لَخُصِّصتْ لَها كُتُبٌ تَتَتَبَّعُها كما صُنِعَ والمفردات.

المسألة الثامنة: هل الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية – أي الصور التي تصورها الواضع في ذهنه عند إرادة الوضع-  أم بإزاء الماهيات الخارجية؟

    ذهب فخر الدين الرازي (تـ.606 هـ)  إلى أن اللفظ تُعتبر في وضعه الصورةُ الذهنية، بدليل تغير اللفظ للشبح المرئي كلما اقترب منه الرائي من حجر، ثم شجر، ثم فرس إلى إنسان.

واختار السيوطي قَوْلَ أبي إسحاق الشيرازي (تـ.476 هـ)  المائل إلى اعتبار الماهية الخارجية.

 قال الأسْنَوي (تـ.772 هـ):« إن اللفظ موضوع بإزاء المعنى من حيث هو، مع قطع النظر عن كونه ذهنيا أو خارجيا، فإن حصول المعنى في الخارج والذهن من الأوصاف الزائدة على المعنى، واللفظ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بِوَصْفٍ زائدٍ.

ثم إن الموضوع له قد لا يوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه«.

مناسبة الألفاظ للمعاني:

     ذهب عَبّادُ بنُ سُليمان الصَّيْرَمِيّ (تـ.250 هـ) المعتزلي إلى أن بين اللفظ ومدلوله مُناسَبَة طبيعية حامِلَة للواضع على أن يضع.

ثم تلاه ابن جني الذي عقد فصلاً دعاه (مناسبة الألفاظ للمعاني) مستدلاّ بـ:

أ‌-             الخليل الذي تَوَهَّم الاستِطالَةَ في “صَرَّ” فاسْتُعيضَت بـ”ـصَرْصَرَ”.

ب‌-   سيبويه الذي أشار إلى أن وزن “الفَعَلان” كالغَلَيان الدّالّ على الحركة والاضطراب فيه مقابلة توالي حركات الأمثال بتوالي حركات الأفعال.

أما ابن جني، فذهب إلى أن:

. المصادر الرباعية المضعَّفة تأتي للتَّكْرير نحو: القلقلة والصَّلصلة.

. الفَعَلى تأتي للسُّرعة نحو: الجَمَزى، وهو عَدْوٌ دونَ العَنَق.

.”اسْتَفْعَلَ” التي تفيد الطَّلَب؛ تقدَّمت أحرف الزيادة كما أنّ الفعل تقدَّمه الطلب.

. ومنه أيضاً مقابلة الألفاظ لِما يُشاكِلُ أصواتها من الأحداث نحو: خَضَمَ للإنسان لِأَكْل البَطّيخ والرُّطَب، إذ الخاءُ حرفٌ رِخْوٌ؛ في حين أن قَضَمَ للدّوابّ لأكل الشّعير وكل ما هو يابس، إذ القافُ صَلْبَةٌ، وذلك حَذْواً للمسموع من الأصوات على غِرار الأحداث.

مُسْتَنْتِجاً أنّ العربَ جعلت الحرف الأضعف الأقلّ للأضعف عَمَلاً وصَوتاً، والأقْوى والأجهر للأقْوى عَمَلاً وحِسّاً.

. ومنه: القلقلة / الإطباق / الاستعلاء / الشدّة.

ليبني عليه أن المَطّ أقوى من المَدّ، فهو مَدٌّ وزيادة، فناسَبَ الطّاء التي هي أعْلى من الدّال، إذ الأولى من حروف الاستعْلاء والثانية من حروف الاسْتِفال.

المسألة الثانية عشرة: الطريق إلى معرفة اللغة:

    هذه المسألة على درجة كبيرة من الأهمية لارتباطها بعملية الاستدلال؛ فلقد كان المنطلق الأول للغويين استقراءُ كلام العرب الذي تَمّ تَلَقِّيه بطريق المشافهة، ثم بالنقل عن الثِّقاة حيث تَحمل الرواة  نصوصاً وأدّوْها تأدية صحيحة إلى طالِبيها.

وأهمية هذا المبحث تكمن في اشتماله على ثنائية النقل والعقل.

فما المقصود بالنقل؟

النقل لغة: تحويل الشيء من موضع إلى موضع.

واصطلاحا:« الكلام العربيّ الفصيح المنقول بالنقل الصحيح، الخارج عن حَدّ القلّة إلى حَدّ الكثرة». وقد اشترط فيه: الفصاحة، وصحة النقل، والإطّراد.

أولا: النَّقْل المَحْضُ أما أن يكون:

. تواتراً، والتواتر نَقْلُ جماعة اختُلِفَ في عددها بين خمسة، وإثنا عَشَر، وأربعين، وسبعين. ويدخل ضمنه لغة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وكلام العرب الأقحاح.

 وهذا الصنف يفيد العلم الضّروري القطعي .

. آحاداً، وهو ما تَفَرَّدَ به البَعْضُ؛ وخبر الواحد حجّة في الشرع و اللغة.

وهذا النوع يفيد العلم بِقَرائِنَ، لذا « فهو دليل مأخوذ به«.

ثانيا: استنباط العقل من النقل، وفَحْواهُ هذا السؤال: هل تثبت اللغة بالقياس؟

(سأتناول عرضا تقريبيا لهذه المسألة الثالثة عشرة في قابل بإذن الله).

الصحيح من اللغة: ما اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْل العَدْل الضّابِط إلى مُنْتَهاهُ.

شروط قَبول اللغة:

تَلْزَمُ اللغةُ بشروط:

–      الثُّبوت بِسَنَدٍ صحيحٍ يوجِبُ العمل.

–      عَدالَةُ النَّقْل.

–      النَّقْلُ عن حُجَّة.

–      ثُبوتُ اللُّقْيا والمُشافَهَة.

–      السَّماعُ الحِسّي.

وعليه، فاللُّغوي ناقِلٌ للمادّة اللغوية التي يتصرّف فيها النحويّ، وحالُهما شبيهٌ بالمحدّث والفقيه.

طُرُقُ التَّحَمُّل والأداء:

    تؤخذ اللغة اعتياداً كالتي تحصل عند التنشئة الاجتماعية بين الأب وابنه، أو تلقيناً من مُلَقِّنٍ، أو سَماعاً من رواة اللغة المعتَبَرين الثِّقاة؛ كما نَصَّ على ذلك ابن فارس .

طُرُقُ التَّحَمُّل والأداء سِتَّةٌ، وهي:

–      السَّماعُ من لفظ الشّيخ أو العَرَبِيّ بِطُرُقٍ ترتيبُها من حيث العُلُوُّ كالتالي:

.”أَمْلى عَلَيَّ فُلانٌ”.

.”سَمِعْتُ”.

.”حَدَّثَ”، بصيغَتَي الإفراد أو الجمع.

.”أَخْبَرَ”، بصيغَتَي الإفراد أو الجمع أيضاً.

. “قال”، وأعلاها “قال لي”.

. أسلوبُ العَنْعَنَة: فلان عَنْ فلان…

–      القراءة على الشيخ، مع التَّنْصيص على طريق الأخذ، نحو:” قرأت على فُلان”، أو “أخبرنا”.

–      السَّماع على الشيخ بقراءة غيره، قائلا عند الرواية:” قُرئَ على فُلان وأنا أسمع”.

 وقد يُستعمل أيضاً في هذا المَقام:” أخبرنا قراءةً عليه وأنا أسمع” أو “حدثنا فلانٌ فيما قُرئَ عليه”.

–      الإجازة والمُناوَلة؛ وغالباً ما تقَعُ في رواية الكتب والدّواوين. وتقع بلفظ:” أجاز لي” أو “أجازني”.

–      المُكاتَبَة.

–      الوِجادَة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق