مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 4

محمد كرماط

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

تقرير مذهب الجبرية

أوضح الإمام السعد التفتازاني مذهب الجبرية بقوله: “زعمت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلا وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة للعبد عليها ولا قصد ولا اختيار[1]اهـ .

وقال الأستاذ مصطفى صبري :”فحصول الأفعال المذكورة- أي الاختيارية-على مذهب الجبرية بقدرة الله فقط ولا قدرة للإنسان[2]اهـ

و قال الأستاذ إبراهيم الحلبي:”القول الأول :الجبرية وهو أن العبد لا فعل له ولا قدرة ولاختيار، فلا تأثير ولاكسب ولا فرق بين الاضطراري من أفعاله وبين ما يتوهم اختياريا منها، فإضافة الفعل إليه بمنزلة إضافته إلى الجمادات، كما يقال: جرى النهر، ولا يزيد عليها إلا بالشعور”[3]اهـ المراد منه.

وخلاصة رأي الجبرية أنهم يقولون أن العبد لا استطاعة له على فعله لا كسباً ولا خلقاً.  إذ إن الإنسان مجبور في جميع أفعاله ، فهو كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة بين يدي الأمواج ، و نسبة الأفعال إليه مجازية كما تنسب إلى النباتات والجمادات ، فيقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرّك الحجر، وطلعت الشمس وما شابه ذلك[4].

وقد لخص الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح أصول مذهب الجبرية بكلام جيد نذكره هنا، قال[5]:”تؤكد الشواهد التاريخية أن الجهم بن صفوان الراسبي[6] كان رأس مدرسة الجبرية الخالصة ومؤسسها والمدافع عن آرائها، وأنه كان يرى أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار .وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات. وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات،كما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء وترك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك.” [7] اهـ .

  هذا هو خلاصة قول الجبرية، وهم الجبرية الخالصة أو المحضة أتباع الجهم بن صفوان. وهو مذهب مردود و لا  يمكن أن يقول به عاقل إلا من جهة اللفظ، لذلك قال الاسترآباذي في رسالة “خلق الأعمال”:”و ما أظن عاقلا يقول به في المعنى و إن تفوه به بحسب اللفظ[8].

هذا، وقد ادعى بعض من المستشرقين أن القول بالجبر جاء بإيحاء من الأمويين، وتشجيع منهم حيث اتخذوا المذهب وسيلة لتبرير سلطانهم القائم على الكبت ومصادرة الحريات، والدعوة إلى نزعة جبرية صارمة ترى الأمور مقدرة مسبقا وأزلاً، وأن ليس للإنسان تجاه الأوضاع والأحداث المقدرة له حول ولا سلطان إلا الاستسلام لها والانقياد لأحكامها[9].

قال الدكتور عرفان:”وهذا الرأي مردود أيضاً على أصحابه؛ ذلك أن الجهم بن صفوان رأس المدرسة الجبرية ومؤسسها قد خاض غمار ثورة مسلحة وعنيفة ضد السلطة الأموية في أخريات أيامها، فقتل على يد مسلم بن أحوز المازني وبأمر من والي الأمويين على خراسان سنة128هـ”[10]اهـ.

ثم أوضح الدكتور عرفان رأيه في أصل منشإ الجبرية قائلا: “والحق فإن القول بالجبر حالة تتولد في العادة عن نزعة روحية ورعة من شأنها أن تخلق في الغاية والنهاية حالة نفسية سامية تتراجع معها الإرادة الإنسانية لتفنى في عظمة الخالق تعالى وجبروته وكماله، وهكذا يأتي القول بالجبر تعبيراً عن حالة نفسية لروح متديِّــنة تذوب إرادتها في إرادة الله تعالى، فلا تعود تشعر معها باستقلالية في الفعل والتدبير وترى الكمال الإنساني في استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد، وفي مثل هذه الحالة النفسية المعاشة والتجربة الروحية العميقة لا تقيم النفس الإنسانية للعقل ومنطقه ولوازمه وزنا ، وتسقط من الاعتبار ما يراه العقل العملي أو النظري من رابطة علية بين القول بالجبر وما يترتب عليه من إسقاط للمسؤولية الخلقية وتسوية بين العقاب والثواب وانتفاء للفائدة من بعثة الأنبياء ورفع للتكاليف، فهذه كلها شأن العقل الاستدلالي المحكوم بمنطقه القائم على الربط بين المقدمات والنتائج “[11] اهـ المراد .

 

 

 

 

 


[1] – “شرح العقائد النسفية”ص:97

[2] – “تحت سلطان القدر”ص:48

[3] – الحلبي”اللمعة”ص:45

[4] – الشهرستاني “الملل والنحل “(1 /87) /عبد القاهر البغدادي “الفرق بين الفرق”ص:211.

[5] – “دراسات في الفكر العربي الإسلامي” ص268-269

[6] – قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (رقم 1584):””الضال المبتدع ، رأس الجهمية ، هلك في زمان صغار التابعين ، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً” .

[7] – انظر الأشعري “مقالات الإسلاميين”( 1/280)،البغدادي “الفرق بين الفرق” ص:128،الشهرستاني “الملل والنحل”(1/109)،الإسفراييني “التبصير في الدين” ص:96.

[8] – بواسطة “اللمعة”ص:46

[9] – جولدزيهر”العقيدة والشريعة في الإسلام”-الترجمة العربية ص97وما بعدها.

[10] – قال العلامة الكوثري:”وهاهو شيخ الجبرية جهم بن صفوان يقوم مع الحارث بن سريج يسعى في تقويم أود الأموية، ويدعو إلى الكتاب و السنة و الشورى بالسيف. وماذا يكون عمل أكبر القائلين باختيار العبد سوى هذا؟ ! فإذن اعتقاد الجبر لفظ لا معنى تحته عند من يتفوه به لحاجة في النفس،فضلا عن الآخرين”اهـ من تعليقه على “اللمعة”ص:46، وقال الدكتور محمد عابد الجابري في مجموع مقالات معنونة ب”خطاب البابا بينيدكت السادس عشر:تفكيك الأصول وتصحيح الفصول ” منشورة على موقعه:” رأي الجهم بن صفوان الذي يتهمه خصومه بالقول بالجبر، في حين أنه لم يقل به كنظرية وعقيدة وإنما كوسيلة مؤقتة“اهـ المراد منه.

[11] – قلت: الذي ذهب إليه الدكتور إنما يتعلق بما اصطلح عليه عند المتصوفة بــ(الفناء)وهو حال تعتري بعض العارفين تجعلهم يذهلون بالمكون جل جلاله عن الأكوان مع يقينهم العقلي بوجودها،ولكنهم ذاهلون عن يقينهم العقلي هذا. وهي حال لا تدوم  حيث يعود أصحابها إلى الصحو والتعامل الطبيعي في الحياة، ولم يعرف على مر التاريخ من قال منهم بالجبر المحض. نعم  خرجت من بعضهم كلمات نحو:سبحاني وأنا الحق وما إليه .. وهذا -إن لم يحسن الظن بصاحبه بالقول بأنها داخلة في وحدة الشهود في حال سكر- يزج بهم في عقيدة الحلول التي تعتبر الإله صفة لا ذاتا قائمة بنفسها، وعليه فإن الصفة لا يمكن أن تكون فاعلة ما دامت أنها غير متصفة بصفات المعاني، والقائلون بالجبر مُقرون بالفعل الإلهي فبطل ذلك كله. وإنما عرف القول بالجبر عند من يقول بوحدة الوجود وعلى رأسهم الجهم بن صفوان كما ذكره غير واحد ومنهم الكوثري في “تبديد الظلام” ص:440 وفي”الاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار”ص:5 حيث قال:”وقوله بالجبر-أي الجهم-أتى من جهة قوله بوحدة الوجود، لأنه لما سئل عن الله، اختلى أياما ثم قال:هو في الأرض والسماء والهواء وفي كل شيء ومع كل شيء. ولا يعلم في الإسلام أحد قبله قال بمثل هذا القول، وسائر الطوائف القائلين بوحدة الوجود بالمعنى المعروف من أذيال جهم في القول بالجبر. وقول كثير من الصوفية في باب التوحيد مما يعد حالة سكرية تأتي وتزول قابل للحمل على التوحيد الشهودي الذي يقره مثل ابن القيم في “شرح منازل السائرين” والسعد في كتبه، وأما الصرحاء منهم فهم في الزيغ مع الجهمية سواء”اهـ                                                                                                                                        

  وخلاصة عقيدة وحدة الوجود أن الله هو الموجود الذي يوجد في كل موجود وكل موجود موجود بوجود الله لا بوجود نفسه إذ لا وجود له وإنما الوجود لله بل الله عين الوجود. وقد قام العلامة المحقق والفهامة المدقق مصطفى صبري-لله دره- بنسف هذه العقيدة في المجلد الثالث من “موقف العقل والعلم والعالم”. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق