مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 3

محمد كرماط

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

  قال الإمام السنوسي:”فيخرج لك بهذا أن بقولنا أن مع الفعل الذي لم يحس صاحبه في الاضطرار قدرة حادثة في العبد هي عرض من الأعراض كالعلم ونحوه تتعلق بالفعل، وإن لم نر لها تأثيرا فيه أصلا انفصلنا عن مذهب الجبرية القائلين بنفي قدرة حادثة في العبد مطلقا[1]اهـ

ولذلك اشتهرت عنهم مقولة أن “العبد مختار في أفعاله مضطر في اختياره” أو “العبد مجبور في صورة مختار“، قال سيدي عبد الله الهبطي[2] :” مثل القدرة الحادثة مع القدرة القديمة كمثل الظل مع شخصه، ففعل الظل ثابت في العيان ساقط في الأذهان، ولا سلامة من الجبر والقدر إلا باعتقاد الفعل جميعه من الله تعالى وحده، وبالنسبة إلى العبد مجاز. فإن صح عندك هذا رأيت الخلق مجبورين في اختيارهم، إذ قدرتهم وقدورهم مقدور لله تعالى كما أشار إليه الحوضي :

فالعبد مجبور بهذا الاعتبار

 

في قالب مختار ماله اختيار”اهـ

ويقول العلامة صبري:”الجبر الذي نقول به غير الجبر الذي تقول به الفرقة الضالة الجبرية النافون لاختيار الإنسان وإرادته وهو-أي الجبر الذي نختاره- ما سمي بالجبر المتوسط[3]اهـ

ويقول:” وهذا هو معنى الجبر المتوسط[4] الذي ينتهي إليه مذهب الأشاعرة في أفعال العباد أي الجبر في أفعاله بواسطة الجبر في مشيئاتهم[5]. وليس العباد مجبورين في أفعالهم مباشرة لكونها مبنية على احتياجهم، ولهذا افترق مذهب الأشاعرة عن مذهب الجبرية الضالين النافين الاختيار بالمرة عن الإنسان[6]اهـ

ويقول الشيخ خالد البغدادي:”حتى طعن فيه طوائف بأن مذهبه جبر محض، ولا فرق بين نفي القدرة وإثباتها بلا تأثير، مع أن بداهة الفرق بين حركتي المرتعش والمختار جزء دليل إثبات مذهبه[7]

الثانية:  ركون الناس إلى مذهب المعتزلة في هذا العصر بإثبات استقلالية الإنسان المطلقة في إرادته وأفعاله بعد أن أفنى مشايخهم الدهر وقضى على مذهبهم علماء أهل السنة، وذلك لدافعين:

أولهما: ديني، حيث أن مكلفية الإنسان بالأحكام الشرعية ومسؤوليته عن أعماله عند الله مفهومة في مذهب المعتزلة أكثر منها في مذهب السادة الأشاعرة، مع أنها منحرفة عن عقيدة الإيمان بالقدر، فهم يبغون السهولة في المسألة أكثر من تحري الحقيقة. وما علموا أن ثمة حقيقتين لا يمكن التضحية بإحداهما في سبيل إثبات الأخرى، حقيقتان لا شك فيهما وهما :أننا لا نشاء أن نفعل فعلا إلا ما شاء الله أن نفعله من ناحية، وأننا مسؤولون عن أعمالنا من ناحية أخرى. أما أنه كيف الجمع بين هاتين الحقيقتين المتنافيتين فيما يبدو لنا؟ فهذا هو سر القدر الذي لا يحيط به عقل البشر[8] ، ولا يشق على أنفسنا أن نقول ذلك غير محتفلين بالتنافي المرئي بين الحقيقتين بعد أن احتفينا بكون كل منهما حقيقة لا تنكر وإنكارها ضلالة لا تغتفر، وبعد أن جمع الله بينهما في قوله تعالى: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون[9].

الآخر:اجتماعي،خاص بأصحاب العقليات الجديدة المتأثرين بدعاية الغربيين ضد عقائد الإسلام[10]، هذه الطائفة التي رأت ما وصل إليه الإنسان الحديث من القدرة على الطيران فوق السحاب والغوص في لجج البحار وما إليهما من عجائب الأعمال حتى كأنه تفلت من آساره وتخطى حدود القدر.فكأنها تبينت صدق دعوى المعتزلة بأن الإنسان خالق أعماله ورجحانها على مذهب الأشاعرة. فاعتبروا بناء على ذلك أن عقيدة القدر الكاملة التي هي بمعنى رد كل شيء إلى مشيئة الله سبب لتثبيط همم العاملين وبث روح الكسل و التقاعد عن العمل.فهي تسوق الناس إلى العطالة والبطالة وتعوقهم عن المساعي[11].

  و لما كان الإمام الأشعري قد طول المقام على مذهب المعتزلة لسنين مضت من عمره فيه ،بل كان من المناظرين عنه والذابين عن حياضه مما يفضي بعلو الرتبة في معرفة الأصول، والخبرة بعوار هذا المذهب وشبه أهله والقدرة على كشف تمويهاتهم[12]. فيكون انتقاده له بعد هذا ليس رميا في عماية بل هو انتقاد من غاص فيه حتى علم ما فيه من حق وما فيه من زيغ وانحراف عن عقيدة الإيمان بالقدر. وهو الذي قلب علم الكلام إلى هيئة غير هيئته التي خلعها عليه المعتزلة والمرجئة والمشبهة[13]. ودام مذهبه عمدة عند متكلمي أهل السنة[14].

فيكون ذكر مآخذ الأشعرية على الاعتزال من إعطاء البحث حقه وللمبحث مستحقه،  وكما قيل :”وبضدها تتميز الأشياء“.ثم تكون مناقشة مذهب المعتزلة في حقيقته تقريرا لمذهب السادة الأشاعرة في المسألة.

فبان من تلكم العلتين أنه ينبغي التعريج على كلا المذهبين لتمييز المذهب الأشعري “فإن تمييزه عنهما مما يلتبس على كثير[15].

 


[1] – السنوسي “شرح الوسطى”ص:234

[2] – بواسطة “النشر الطيب على شرح الطيب” للوزاني (1/459)

[3] – صبري”موقف العقل”(3/419)

[4] – وهذا تنزلا فقط ، لذلك يقول في”تحت سلطان القدر”ص:149:” ولا إصابة في تعبير الجبر المتوسط أيضا ..ولكنا جارينا القوم في هذا التعبير بما لم نجد تعبيرا غيره، وربما قيدناه بالجبر الخفي أو الجبر المعنوي وإن شئت فقل شبه الجبر وكله أصح من الجبر المتوسط والمقصود الأصلي بيان أن مشيئة الله، التي يجري حكمها في كل شيء، لا تعزب أفعال العباد عن هذا الأساس الإسلامي، فيكون ما شاءه منها  واقعا قطعا بحيث لا محتمل لعدم وقوعه، وما لم يشأ منها غير واقع قطعا، بحيث لا محتمل  لوقوعه. فهذا الحال يشبه الجبر باختصار التعبير. لكن الحق على ما سنوضحه أن لا جبر ولا إكراه“اهـ

[5] – وابن تيمية يقول بهذا أيضا كما في”الفتاوي”(8/395):” لو قيل: هب أن فعلي الذي فعلته واخترته هو واقع بمشيئتي وإراداتي، أليست تلك الإرادة والمشيئة من خلق الله تعالى؟ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل فهل يتأتى ترك الفعل معه؟ أقصى ما في الباب:الأول ،جبر بغير توسط الإرادة من العبد وهذا جبر بتوسط الإرادة من العبد؟

فنقول:الجبر المنفي هو الأول، وأما إثبات القسم الثاني فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار. لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول، وفرارا من تبادر الأفهام إليه وربما سمي جبرا إذا أمن اللبس وعلم القصد“اهـ. وهو عين مذهب الأشاعرة!!.

[6] – مصطفى صبري”موقف العقل والعلم”(3/404)

[7] – خالد النقشبندي رسالة”العقد الجوهري” ضمن كتاب”الشيخ خالد النقشبندي العالم المجدد”ص:34 لعبد الرحمن الكزبري

[8] – وعليه تعلم الرد على كلام الدكتور محمد عابد الجابري في مقال منشور بعنوان “خلق الأفعال عند الأشاعرة” في ” موقع :الاقتصادية الالكترونية”: حيث قال فيه:” كيف يكسب الإنسان نتائج أفعاله وفي الوقت نفسه يعتبر مسؤولا عنها وهو لم يفعلها لأنه “لا فاعل إلا الله؟ وفي هذا تناقض بين! ومن هنا قيل في الأمور التي يجمع قائلها بين النقيضين: أخفى من كسب الأشعرية“. اهـ كلامه؛ قلت: لو كان الأمر هينا-كما هو ظاهرُ كلام الدكتور- لم يكن القدر سرا مازالت تعيى دون حله عقول العقلاء ولم يقلق علماء الإسلام من قديم ولم يأرقوا لوجدان أمر بين أمرين يثبت الحقيقتين معا دون التضحية بإحداهما. ثم إن أكثر علماء الغرب من فلاسفة وعلماء نفس يثبتون أن الإنسان مسير لا مخير.فهل حمل هذا هؤلاء العلماء  على لزوم التعديل في قوانين العقوبات وفق ما انتهى إليه علمهم؟ !!

[9] – سورة النحل،الآية:93

[10] – فكان من وراء ذلك أن ألف بعضهم كتابا سماه: “علم القضاء والقدر أو سر تأخر المسلمين“فحمل فيه عقيدة الإيمان بالقدر تبعة تخلف المسلمين عن ركب التطور الذي شهده الغرب. مع أن علماء الغرب القدامى والمتأخرين من علماء النفس  والفلسفة وغيرهم يعتبرون الإنسان مسيرا لا مخيرا فينفون اختياره كما في الجبر المحض، مع الاختلاف في المجبر بين الإلهيين والملحدين:الله تعالى أوالطبيعة. فلم يمنعهم ذلك من البحث عن الرقي في شتى المجالات كما أنهم لم ينبزوا علماءهم بالتخلف والرجعية والظلامية كما يفعله المتفرنجة عندنا، لذلك ذكر الأستاذ أحمد نعيم بك في ترجمته لكتاب”مبادئ الفلسفة” لمؤلفه الفرنسي( ج.ل. فونس غوريو) أن أعزة النصارى الأولى -وفيهم “سانت أوغستن” أشهر حامل للواء الدعاية النصرانية- جبريون، والبروتستانت جبريون ، وقد ألف “لوثر” دفاعا عن الجبر كتابا  سماه”الاختيار الأسير” والفلاسفة القدماء الرواقيون جبريون. ومن المتأخرين: هوبز واسبينوزا ودافيد هيوم وكولنس وبيل ولايبينج وكانط واستوارت ميل، كلهم جبريون!!! وأساطين العلوم المثبتة اليوم المعروفون جبريون متسترين بستار الإيجاب.

[11] -فكان وراء صياح اللادينيين بالدعاية ضد عقائد الإسلام أن تأثر بذلك بعض علماء الدين الكبار ومال من غير ما حاجة إلى مذهب الاعتزال كما فعل الشيخ مفتي الديار المصرية سابقا الشيخ بخيت المطيعي ومن قبله وأكثر الشيخ محمد عبده حتى سمي بفيلسوف الحرية.

[12] -ابن عساكر”تبيين كذب المفتري”ص:81

[13] – فالنهي الوارد عنه  عن بعض الأيمة كالشافعي إنما المقصود به علم الكلام الباطل الذي اشتغل به أهل الأهواء والبدع. يقول ابن تيمية:” إن الكلام المذموم الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول””المجموع”(12/212) وانظر في ذلك رسالة للإمام الأشعري موسومة بـ”استحسان الخوض في علم الكلام” أو “البحث والمناظرة”.

[14]قـال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: “كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرة في جنب بحر، وسمعت الباهلي يقول: كنت في جنب الأشعري كقطرة في جنب البحر”، وقال لسان الأمة القاضي أبو بكر الباقلاني: “أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن “.“المسامرة” لابن أبي شريف.

[15] – السنوسي “شرح الوسطى” ص:235

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق