مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 22

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

  المذهب الرابع : مذهب إمام الحرمين الجويني

نشير في البداية إلى أن للإمام الجويني مذهبين في المسألة أحدهما ذكره في “الإرشاد”[1] وهو موافق لمشهور مذهب الأشعري، وآخرهما هو ما نص عليه الأستاذ إبراهيم الحلبي بقوله:” القول السادس عشر: لإمام الحرمين وهو أن المؤثر فيفعل العبد قدرته التابعة لمشيئته إن وافقتها المشيئة القديمة وإلا فلا .وهو آخر قوليه رجع إليه في آخر عمره وذكر في آخر كتابه المسمى بـ”النظامية” الذي هو آخر تصانيفه. وإن هذا التأثير بالاختيار على التحقيق من مذهبه”[2]اهـ المراد منه.

وقد بين إمام الحرمين مذهبه هذا بكلام طويل في “النظامية”[3] نذكر محل الشاهد منه؛ قال:”. فإن به لزم المصير إلى أن القدرة الحادثة تؤثر في مقدورها، واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله، فإن فيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال، ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة، والقدرة القديمة. فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين إذ الواحد لا ينقسم، فإن وقع بقدرة الله سبحانه استقل بها وسقط أثر الحادثة ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله جل وعز. فإن الفعل الواحد لا بعض له. وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين: أن يدعي الاستبداد بالخلق[4]، وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالبا بالشرائع، وفيه إبطال دعوة الأنبياء عليهم السلام[5]؛ وبين أن يثبت نفسه شريكا لله تبارك وتعالى في إيجاد الفعل الواحد[6]. وهذه الأقسام بجملتها باطلة. ولا ينجى من هذا البحر الملتطم ذكر اسم مختص، ولقب مجرد من غير تحصيل معنى[7]“.

ثم قال:”ما ذكرتموه إبطال منكم لأقسام الكلام وتتبع المذاهب، ولم توضحوا ما هو الحق بعد. قلنا: ليس بمدرك الحق خفاء لمن وفق له، وها نحن نبديه بالحرية من غير تعريض وتعريج على تقليد، فنقول:قدرة العبد مخلوقة لله تبارك وتعالى باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعا. ولكنه مضاف إلى الله تبارك وتعالى تقديرا وخلقا، فإن وقع بفعل الله تبارك وتعالى وهو القدرة، وليست القدرة فعلا للعبد، وإنما هي صفته، وهي ملك لله تبارك وتعالى وخلق له. وإذا كان موقع الفعل خلقا لله، فالواقع به مضافا خلقه الرب خلقا تبارك وتعالى وتقديرا.

وقد ملك الله العبد اختيارا يصرف به القدرة، وإذا وقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم الله من حيث أنه وقع بفعل الله تعالى، ولو اهتدت لهذا الفرقة الضالة لما كان بيننا وبينهم خلاف. ولكنهم ادعوا استبدادا بالاختراع وانفرادا بالخلق والابتداع، فضلوا وأضلوا، ونبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين. فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله، قلنا: أحدث الله تبارك وتعالى القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه، وهيأ أسباب الفعل وسلب الله العلم بالتفاصيل، وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواعي مستحثة وخير وإرادة، وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم، فوقعت بالقدرة التي اخترعها للعبد على ما علم وأراد. وللعباد اختيارهم واتصافهم بالاقتدار، والقدرة خلق الله ابتداء، ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا وبقاء، من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة ولو لم يرد وقوع مقدوره لما أقدره عليه، ولما هيأ له أسباب وقوعه.

ومن هدي لهذا ، استمر له الحق المبين، فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور منهى، وفعله تقدير لله مرادا له..فهذا -والله- الحق الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه، لمن وعاه حق وعيه، ولا يكابر فيه”اهـ

 هذا هو مذهب الإمام الجويني المتأخر، وحاصله: أن فعل العبد واقع بقدرته قطعا وقدرته منفردة بالتأثير فيه، إلا أنه-أي فعل العبد-يضاف إلى الله تقديرا وخلقا من حيث كونه واقعا بفعل الله، أعني قدرة العبد لأنها خلق الله وملكه وصفة العبد. ففعل العبد يقع بقدرة العبد، وقدرته فعل الله وخلقه، ففعل العبد يقع بفعل الله وخلقه. فالله –الذي هو خالق- موقع فعل العبد ،أي قدرته، يعد خلق الفعل الواقع به.

 

 


[1] – انظر “الإرشاد”ص:178 و 210

[2] – الحلبي “اللمعة”ص:54

[3] – ص:42 وما بعدها

[4] – الإشارة إلى مذهب المعتزلة

[5] – الإشارة إلى مذهب الجبرية

[6] – الإشارة إلى مذهب الأستاذ

[7] – فيه الرد على من اكتفى بالاعتراف بـ(الكسب) دون الدخول في بيان حقيقته، ولعل التاج السبكي قصده بكلامه: “ومن أصحابنا من أخذ يحقق الكسب فوقع في معضل أرب لا قبل له به” كما في “شرح مختصر ابن الحاجب”(1/462)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق