مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 21

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

المذهب الثالث : مذهب العلامة صدر الشريعة

ذهب صدر الشريعة في “التوضيح” إلى أن الفعل يتضمن أمرين ويطلق على معنيين:

   الأول: المعنى المصدري :وهو أمر اعتباري انتزاعي غير موجود في الخارج، وهو من الأحوال عند القائلين بها، وكونه أمراً اعتباريا لا ينافي كونه صادرا عن الفاعل المختار، غايته أنه تابع في الكون والتحقق لغيره، وهو الحاصل بالمصدر، وإن لم يوجد في الخارج إلا وهما.

   الثاني: المعنى الحاصل بالمصدر:  وهو من الموجودات الخارجية متعلق للفعل بالمعنى المصدري، ومتوقف وجوده في الخارج على تحقق المعنى المصدري، إذ الوجود بدون الإيجاد محال.

مثاله: الحركة إن أريد بها الصفة والحالة التي تعتري المتحرك في كل جزء من أجزاء المسافة فهو المعنى الحاصل بالمصدر. وإن أريد بها إيقاع الحركة بالمعنى المذكور فهو المعنى المصدري.

فإن أثر قدرة العبد هو الفعل بالمعنى المصدري  ويعبر عنه بـ(الإيجاد والتأثير)، وهو صرف القدرة الكلية نحو الحاصل بالمصدر قال: “الفعل بالمعنى المصدري يتحقق باختيار الفاعل، وهو أثر الفاعل المختار[1] صادر عنه، لا بمعنى أنه أوجده في الخارج لأنه من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج، ولا بمعنى أنه جعل التعلق تعلقا موجودا أو متعلقا بالفعل، بل بمعنى أنه -أي الفاعل المختار- جعل القدرة متعلقة بالأثر الذي هو الحاصل بالمصدر.

وصدور الفعل بهذا المعنى عن الفاعل المختار بنفسه بلا واسطة تأثير آخر، بمعنى أن إيجاد الإيجاد نفس الإيجاد، كما قيل: إن وجود الوجود عين الوجود، بمعنى أن وجود الوجود بنفسه لا بوجود آخر. وهنا نقول: إن الإيجاد صادر عن الفاعل بنفسه لا بواسطة تأثير إيجاد آخر وإيجاده، وإلا لزم أن يصدر منا حال صدور الأثر تأثيرات غير متناهية، كما يلزم نظيره في الوجود. والوجدان يكذب ذلك”[2].

وقد اعترض الأستاذ مصطفى صبري على هذا المذهب بقوله:” إن صدور الفعل بالمعنى المصدري من العباد مع صدوره بالمعنى الحاصل بالمصدر من الله غير معقول جدا؛ إذ لا إمكان عندنا للتفريق بين مصدري[3] الفعلين بالمعنيين، لأن الفعل بالمعنى المصدري أعني الإيقاع مستلزم للفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر ومحصل له. فإذا كان الأول من العباد فلا جرم أن يكون الثاني أيضا منهم، بل المعنى الأول عبارة عن إصدار المعنى الثاني وإيقاعه، ولا معنى لإيقاع العباد ما يخلقه الله. ويدل على ما قلنا دلالة باهرة تعبيرهم عن الفعل الثاني بالحاصل بالمصدر، والمصدر هو الفعل الأول. فمقتضى هذا أن الفعل بالمعنى الثاني حاصل بالفعل بالمعنى الأول؛ وإلا كان الحاصل بالمصدر حاصلا بغير المصدر (و) هذا خلف[4]. فصدور الإيقاع من العباد وهو الفعل بالمعنى الأول حال كون الثاني منفكا عنه بأن يكون غير صادر منهم محال مثل تصور الإيقاع بلا وقوع فهذا القول إما أن يكون ملؤه المحال أو ينتهي إلى مذهب الاعتزال أعني كون تمام الفعل من العباد بالرغم من ادعاء أنه الوسط بين الجبر والاعتزال.”[5]اهـ

قال:” ألا يرى أن المعروف من مذهب أهل السنة ترتب خلق الله على كسب العبد ترتبا عاديا مهما اطرد، بمعنى أن عادة الله جرت مع إمكان أن لا يترتب. والحال أن ترتب خلق الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر على إيقاعه من العبد ترتب عقلي..ولا يمكن تصور حصول الإيقاع بلا وقوع[6]؛ فإيقاع العبد يستلزم خلق الفعل بحيث يكون عدم ترتبه عليه من أجلى المحالات.بل الحق الذي لا شبهة فيه تسليم العقل أن لا معنى لإيقاع إلا إيجاده وكون مُوقعه خالقه. فتمليك العباد الفعل بالمعنى المصدري بظن أنه يمكن فصل المعنى الحاصل بالمصدر عنه اعتراف بمذهب الاعتزال من غير شعور به[7]اهـ

 

 

 


[1] – فما دام أن الفاعل مختار قد سلم من مفسدة كونه خالقا لشيء من الأشياء، فإنه لا يحتاج صدور الفعل منه- بالمعنى المصدري- إلى أي مرجح يكون أمره بيده حتى يلزم التسلسل بالانتقال من مرجح إلى مرجح أو ينتهي إلى مرجح يخلقه الله فيعود محذور الجبر الذي يُفر منه. وبعبارة أخرى يمكن أن يكون صدور مثله من الإنسان بلا سبب ومن قبيل الترجيح بلا مرجح وهو جائز –والحالة هذه-لأن صدور الإيقاع اللاموجود واللامعدوم من العبد المختار بلا مرجح لا ينطبق على معنى الإيجاد بلا موجد.

[2] – بواسطة رسالة في” خلق الأفعال”للغرسي، لم تطبع.

[3] – فالمصدر يطلق بالاشتراك، وقيل بالحقيقة والمجاز على أمرين:

         الأول: تعلق القدرة وهو الإيجاد والتأثير وهو متعلق بالفاعل ووصف له  ويسمى بالمعنى المصدري .

        الثاني: الأثر الناشئ عنه كالحركات والسكنات في الضرب وهو متعلق بالفاعل باعتبار الصدور عنه، وبالمفعول باعتبار الوقوع عليه،ويسمى بالحاصل بالمصدر.

[4] – أي تناقض

[5] – صبري”موقف البشر”ص:65-66

[6]– يندفع اعتراض الأستاذ في هذه الحيثية بما قاله الشيخ الغرسي في رسالته”خلق الأفعال” أن صدر الشريعة إنما أراد بـ(أثر قدرة العبد )هو( تعليق قدرته). وتعليق القدرة لا يستلزم وجود ما تعلقت به كما في تعليق العبد قدرته بما هو فوق طاقته كتعليقها برفع متاع ثقيل، فهو يرى أن هذا التعليق غير مؤثر بحسب التحقيق فيما هو تحت طاقته أيضا مع وجوده عند تعليق قدرته به، وإنما هو أثر قدرة الله تعالى لتعلق قدرة الله تعالى به حال تعلق قدرة العبد، فتختطفه قدرة الله تعالى، وتستبد به لقوتها، ولعدم قبولها الشريك، ولم تبق لقدرة العبد شيئا من التأثير.

وأما تسمية هذا التعليق إيقاعا وإيجادا وفعلا بالمعنى المصدري، وتسمية متعلقه حاصلا بالمصدر، فغير منظور فيه إلى التحقيق؛ بل هي تسمية له بما يسمى به بحسب الظاهر وفي العرف، كما يسمى العبد فاعلا للحاصل بالمصدر عرفا مع أنه ليس بفاعل له بحسب التحقيق.

قلت: لكن صدر الشريعة نفسه قد اعترف بأن الإيقاع يستلزم الوقوع، إلا أنه اعتذر بأنه لولا كون الله خلق العبد الذي هو صاحب هذا الإيقاع وقدرته عليه، لما تصور منه الإيقاع ولا استلزامه الوقوع.

وبناء على هذا لا يعد إيقاعه علة موجبة لوقوع الفعل ولا العبد موجدا الفعل، بل الله خالق الفعل بواسطة كونه خالق العبد وقدرته على الإيقاع وإن كان الإيقاع فعلا من العبد ولزم وقوع الفعل منه. وهذا لا يكفي في تمييز ما ذهب إليه عن شوب الاعتزال لجريانه بعينه في مذهب المعتزلة لأنهم لا ينكرون أن الله خالق العباد وخالق قدرتهم على أفعالهم. فلا استقلال في أفعالهم بهذا المعنى عند المعتزلة أيضا. فإذا جاز أن يكون الإيقاع من العبد مع استلزامه وقوع الفعل ولم يعد هذا الاستلزام كون العبد خالق الفعل وموجده بناء على أن الله خالق العبد وقدرته على الإيقاع ، فليكن الإيقاع وما يستلزمه من الفعل معا من العبد وليكن الله خالق الفعل بواسطة خلق فاعله وقدرته عليه !!

[7] – صبري”موقف البشر”ص:66-67

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق