مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 2

محمد كرماط

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

    قبل الدخول في ذكر اختلاف السادة في “الكسب” وما فيه من النزاع بينهم بالإيجاب والسلب، بجمع ما فيها من الأقوال التي تزيل اللبس والإشكال ، لابد من توضيح لمذهبي الجبرية والقدرية في المسألة، وذلك لعلتين:

الأولى: لمعرفة حقيقة الجبرية الخالصة ،لأن خصوم الأشعرية يصمونهم ب”المجبرة” أي “الجبرية المحضة[1]. فبعد أن تولى كبر هذه التهمة المعتزلة، وقد تواردوا على ذكرها في مصنفاتهم، جاء ابن تيمية الحراني بعدهم ليحيي ما قد انقرض[2]،فقال:”فإنه رأس الجبرية(أي الجهم بن صفوان) يقول ليس للعبد فعل ألبتة والأشعري يوافقه على أن العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل[3]اهـ

 و يقول ابن القيم  في “نونيته”:

والعبد عندهم ليس بفاعل

 

بل فعله كتحرك الرجفان

 

فقال السبكي الكبير في رده عليه :” وقوله: “كتحرك الرجفان “جهل منه، فإنه لم يفرق بين الجبر ومذهب الأشعري[4]اهـ

ويقول يوسف احنانة:”وهذه النظرية هي التي عرفت في قاموس الفكر الأشعري بنظرية الكسب، وهي كما ترى لا تعدو أن تكون جبرا مغلفا ومقنعا بقناع من المراوغات الكلامية، ولا ترقى أن تكون بالفعل موقفا وسطيا بين موقف المعتزلة، وموقف الجبرية. إنما هي تكريس لنظرية الجبر وإخفاؤها في قوالب نظرية غير قوية، على الرغم من التعديلات[5] التي قام بها كل من الباقلاني والجويني لهذه النظرية”[6]اهـ

ويقول سفر الحوالي:”أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب وهي في مآلها جبرية خالصة لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير[7][8]اهـ

مع أن الأشاعرة قد نفوا ذلك نصا بدءا من إمامهم أبي الحسن-رحمه الله- إلى آخر محققيهم في الوقت الحاضر، وفي ذلك ينقل عنه الإمام ابن فورك في “مجرد المقالات” قوله :”فأما الإجبار بمعنى الإكراه:”أجبرت فلانا على هذا الأمر، إذا أكرهته عليه”، فإن ذلك إنما يستعمل فيما يحدث من الأفعال مع كراهية من يحدث فيه، وهو أن يكون محمولا على فعل يكرهه. ولو أراد التخلص منه لم يجد إليه سبيلا.”

قال ابن فورك:”وكان يقول: إن تسمية مخالفينا لنا بذلك خطأ. إذ ليس في مذاهبنا، وأقوالنا ما يوجب ذلك. ولا نحن معترفون بأمر يقتضيه كما أنهم معترفون بأنهم مقدرون لأفعالهم[9] من دون الله تعالى ومدبرون لها من دون خالقهم. وذلك أنا لا نقول: إن الله أكره أحدا منا على أمر أمره به، أو نهاه عنه أو حمله عليه أو اضطره إليه، فأما خلق صلاح الأبدان وفسادها فلا خلاف فيه”[10]اهـ

وقال أبو الحسن الآمدي:” الجبرية تنقسم إلى: جبرية خالصة وهي التي لا تنسب للعبد فعلا ولا كسبا كالجهمية، وإلى جبرية متوسطة وهي التي لا تثبت للعبد فعلا لكن تثبت له كسبا كالأشعرية والضرارية والحفصية”[11]اهـ

قال سيدي زروق:”طائفة أهل السنة وعصابة الحق قالت: إن العبد مجبور في عين اختياره، بل إن له قدرة تقترن بالمقدور [12]اهـ.

 


[1] – لا الجبرية المتوسطة، ولا شك أن الجبر لا تنفك عنه طائفة حتى إن  مذهب  التفويض الذي اشتهر به المعتزلة يرجع إلى الجبر بتأثير الدواعي التي يخلقها الله في القلوب وعدم تجويزهم الترجيح بلا مرجح. انظر” الأربعين في أصول الدين”(1/319-320) و “محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين”ص:199،لذلك قال بعض أذكيائهم :”الداعي الموجب، ودليل العلم الأزلي هما العدوان للاعتزال” (انظر “إشارات المرام”ص:300-301).

إلا أننا لا يمكننا نعته بالجبر المحض الذي هو بمعنى الإكراه وكذا نعت المذهب الأشعري به لذلك قال شيخ الإسلام مصطفى صبري في “موقف العقل”(3/419):”حتى لو قلنا إنه لا جبر في مذهبنا لصح ذلك، إذ الإنسان يفعل ما يفعله عندنا بإرادته واختياره، إلا أنه لا يريد ولا يختار إلا ما يريد الله ويختاره فكأنه مجبور من غير جبر“اهـ

[2] – لعل ابن تيمية وقف على كلام الرازي في نسبته الجبر للأشاعرة، لأنه قدوة المتأخرين في تصوير الجبر في مذهب الأشعري كما قال الكوثري، فظن أنه الجبر المحض. 

[3] –  وهي مغالطة لأن الأشعري يثبت الإرادة والقدرة الحادثتين بخلاف الجبرية الخالصة،وليس من شرط أن يكون الإنسان مريدا قادرا ومسؤولا أن يكون خالقا لأفعاله كما سنبينه وإنما خالف ابن تيمية الأشاعرة هنا لأنه يقول بقول المعتزلة من أن الله خلق في الأشياء قوى تستقل بالتأثير في الأشياء إذ يقول في “مجموع الفتاوي”(9/287):”ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى و الطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد“اهـ ،

[4] – عبد الكافي السبكي”السيف الصقيل”ص:433

[5] – كلمة”التعديلات” لا محل لها هنا كما ستعرفه مفتشا بعد.

[6] -يوسف احنانة “تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي”ص:30، وللمؤلف مقال بعنوان”رهان تطوير الفكر الأشعري في المغرب” نشر بمجلة الفرقان عدد63/1430-2009 قال فيه:”إذا كانت نظرية الكسب قد شكلت في تاريخ الفكر العقدي نقطة إبهام، فإن ما طبعها هو ميلها إلى الجبر حتى قال بعضهم إن نظرية الكسب هي جبر مبطن“اهـ ثم أردفه بكلام آخر:”لكن ما نلاحظه على نظرية الكسب هو الخوف من أن يفهم منها العامة أن المسؤولية الإنسانية غير موجودة في نظرية الكسب فينتشر التواكل والاتكال والتقاعس” قلت:وهوكلام في غير محل النزاع إذ أن افعال العباد تتعلق بالأفعال الواقعة منهم اختيارا، ولا دخل للتقاعس والتواكل والاتكال إذ أنها ليست أفعالا أصلا. فالمذاهب اختلفت في كيفية وقوع الفعل لا في وقوعه ولا وقوعه. يقول عبد الغني النابلسي في”الكوكب الساري في حقيقة الجزء الاختياري”ص:3:”وأما الأفعال الصادرة  من العباد بطريق الاختيار منهم والإرادة وقصد القلب فهي التي وقع الكلام فيها بين العلماء واختلفت فيها المذاهب وكثرت الأقوال والحق فيها واحد”اهـ،فالمذاهب المختلفة لم يدرس أصحابها المسألة ولم يتنازعوا فيها تحت تهمة أنها تمانع سعي البشر أو أنها تنشر التواكل والاتكال والتقاعس. فما أعقل علماء السلف فلو كان صحيحا ما ذهب إليه الأستاذ ما تركه المعتزلة- وهم من هم- كمغمز وملمز في مذهب الأشعرية.

[7] – الكسب لا ينفي القدرة الحادثة وإنما ينفي التأثير الذي هو بمعنى الخلق لأنه لا مؤثر إلا الله.

[8] – سفر الحوالي”رسالة منهج الأشاعرة في العقيدة” الباب السادس:القدر ،وهي كأصل لكتابه الجديد”الأشاعرة الكبير” يقول في ص:124 منه:”وتلك نظرية الكسب التي هي جبر مغلف بالغموض” اهـ المراد منه.

[9] – أي لذلك سمى المعتزلة بـ”القدرية”، فصح إلزامه لهم ولم يصح إلزامهم له.

[10] – ابن فورك”مجرد مقالات الأشعري”ص:107-108

[11] – الآمدي “أبكار الأقكار”(2/256)

[12] – سيدي زروق”شرح عقيدة الإمام الغزالي”ص:128

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق