مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 13

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

فبعد أن تبين أن الله خلق معمولات العباد التي منها الأصنام كما خلقهم أنفسهم، يثبت أنه خلق أعمالهم أيضا لأن خلق الله لمعمولات العباد مع كونها معمولاتهم لا معمولاته معناه أنه يتدخل في أعمالهم فيخلقها أيضا. وإلا فلا سبيل لخلق وإيجاد معمولات غيره من غير تدخل في عمله[1].”[2]اهـ

ولأهل السنة أدلة كثيرة على خلق الأفعال منها: قوله تعالى: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق  ﴾[3]، أي الذي يصدر منه  حقيقة الخلق ليس كمن لا يصدر منه ذلك في شيء، وهذا في مقام التمدح بالخالقية وكونها سببا لاستحقاق العبادة[4]. ولأن العبد لوكان خالقا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها[5] كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾[6] ، وقوله تعالى: ﴿هل من خالق غير الله ﴾[7]و غيرها من الآيات التي تتبعها مع تعليقات نفيسة ابن الحاج القفطي في رسالة وسمها بـ”حز الغلاصم في إفحام المخاصم”، فلتراجع[8].

أما من السنة فمنها :قوله :”إن الله صانع كل صانع وصنعته”[9] ،قال القرطبي:”وهذا مذهب أهل السنة أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي هذا إبطال مذهب الجبرية والقدرية”[10]اهـ

أما عقلا فـ:”إن القدرة تتعلق بالوجود عندهم، والوجود هو وجود لا يختلف، وإنما تختلف الأشياء بالأحوال، فلو كان العبد خالقا للأفعال للزم أن يكون خالقا للأجسام والأعراض جميعها، واتصف بصفة الربوبية وهو باطل”[11]

تنبيه: وينبه هنا إلى أمر ذي بال وهو يتعلق بالآيات و الأحاديث التي فيها إسناد الخلق إلى العباد[12] كقوله تعالى: ﴿أتخلقون إفكا﴾[13] وقوله سبحانه: ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ﴾[14] .وقوله  :”إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم”[15]، فإنه ليس بمعنى الإبداع الذي هو خاص بالله جل وعز لذلك قال الراغب:” ليس الخلق بمعنى الإبداع إلا لله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله  تعالى: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾[16]..والخلق في حق غير الله يقع بمعنى التقدير والكذب”[17] ،وقال الكرماني:”فأطلق لفظ الخلق عليهم استهزاء أو ضمن (خلقتم) معنى صورتهم تشبيها بالخلق، أو أطلق بناء على زعمهم فيه”[18].

 وأختم مناقشة مذهب المعتزلة بما قاله الإمام الأعظم أبو حنيفة: يقال له-أي للقدري- هل علم الله في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء من طاعات العباد ومعاصيهم الصادرة عنهم باختيارهم وسائر أفعالهم أن تكون على ما هي عليه أم لا؟ فإن قال:لا، فقد كفر. وإن قال: نعم،قيل له أراد الله أن تكون كما علم، أو أراد أن تكون بخلاف ما علم؟ فإن قال: أراد أن تكون كما علم، فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان ومن الكافر الكفر، وإن قال: أراد أن تكون بخلاف ما علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا، لأن من أراد أن لا يكون فكان، أو أراد أن يكون فلم يكن فهو متمن متحسر. ومن وصف ربه متمنيا متحسرا فهو كافر[19].

و بهذه المناظرة : دخل القاضي عبد الجبار الهمذاني، أحد شيوخ المعتزلة، على الصاحب بن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، من علماء السنة. فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء!!،فقال القاضي: سبحان من لا يقع في ملكه إلا مايشاء!!فقال القاضي:أيشاء ربنا أن يعصى؟فقال الأستاذ:أيعصى ربنا قهرا؟فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى،أحسن إلي أم أساء؟ فقال الأستاذ:إن منعنك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ماهو له، فهو يختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي[20].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


[1] – وبهذا التحقيق تكون نتيجة احتمالي المصدرية والموصولية في(ما) واحدة وهي أن الله تعالى خالق أعمال العباد ومعمولاتهم جميعا. وبيانه بإيجاز: أنها إن كانت مصدرية فالمعنى أن الله تعالى خالق أعمال عباده صراحة وخالق معمولاتهم استلزاما، وإن كانت موصولة فالمعنى أنه خالق معمولاتهم صراحة وخالق أعمالهم استلزاما؛ إذ أن المعمولات لا تختلف عن أعمالهم في الخلق والإيجاد. ولا يقال كيف يكون الله موجد أعمالهم وهي أعمالهم لا أعماله؟!، لأنه يقال: وكيف يكون الله موجد معمولاتهم وخالقها وهي معمولاتهم لا معمولاته؟!

[2] – مصطفى صبري”موقف العقل”(3/54-56)

[3] -سورة النحل، الآية:17

[4] – ملا علي القاري”شرح الفقه الأكبر”ص:154

[5] – قال السيالكوتي في “حاشيته على شرح العقائد النسفية” ص:245: “إن الخلق إفاضة الوجود فهو موقوف على العلم التفصيلي، لأن الأزيد والأنقص مما أتى به ممكن، وكذلك كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، فوقوع ذلك المعين لأجل القصد إليه بخصوصه. والقصد إليه بخصوصه موقوف على العلم به كذلك لأن القصد الجزئي لا ينبعث عن العلم الكلي كما تشهد به البديهة، والخلق إعطاء الوجود لأمر جزئي، فما لم يتصور بوجه جزئي لا تتعلق الإرادة به، بخلاف الكسب فإنه عبارة عن صرف الإرادة والقدرة نحو المقدور من غير أن يكون له تأثير في إيجاده فيكفيه العلم الإجمالي“. انتهى.

[6] – سورة الملك،الآية:14

[7] – سورة فاطر،الآية:38

[8] – وكتاب “اللمع “للإمام الأشعري أصل في بابه.ص:69 وما بعدها، و كتاب” الإنصاف” للعلامة الباقلاني ص:137 وما بعدها

[9] – رواه البخاري في”خلق الأفعال”وابن حبان والبيهقي وقال فيه الحافظ “الفتح”(13/565):”وهو حديث صحيح”

[10] – “تفسير القرطبي”(15/96)

[11] – سيدي أحمد زروق”شرح عقيدة الإمام الغزالي”ص:127-128

[12] – راجع أجوبة الإمام الباقلاني عنها في “الإنصاف”ص:142وما بعدها

[13] – سورة العكبوت،الآية:16

[14] – سورة المائدة،الآية:112

[15] – رواه البخاري (7557)

[16]سورة النحل ،الآية: 17

[17] – بواسطة”استحالة المعية بالذات”ص:41

[18] – بواسطة”الفتح”(13/607)

[19] – كمال الدين البياضي”إشارات المرام”ص:304-305

[20] – ملا علي القاري”شرح الفقه الأكبر”ص:123 وابن حجر”الفتح”(13/108) وكمال الدين البياضي”إشارات المرام”ص:142

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق