مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الأشاعرة 12

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

الجانب الثاني : وهو متعلق بخلق أفعال العباد الاختيارية؛ فلكي تصح مسؤولية العباد عن أعمالهم فلا بد-عندهم- أن يكونوا خالقين لها بقوة[1] أودعها الله فيهم اختيارا. فما ذكره الزمخشري -مما أشير إليه- تقوية لمذهبه، قد تعقبه ابن خليل السكوني بقوله:” في كلامه صرف للآية عن دلالتها الحقيقية إلى ضرب من التأويل لغير ضرورة بل لنصرة مذهبه أن العباد يخلقون أكسابهم، فإذا حملها على الأصنام لم تتناول الحركات، وأما أهل السنة فيقولون:القرآن نزل بلسان العرب وأئمة العربية على أن الفعل الوارد بعد “ما” يتأول بالمصدر، نحو أعجبني ما صنعت:أي صنعك، وعلى هذا فمعنى الآية -عندهم-خلقكم وخلق أعمالكم، والأعمال ليست هي جواهر الأصنام اتفاقا، فمعنى الآية –عندهم- إذا كان الله خلق أعمالكم التي تتوهم القدرية أنهم خالقون لها فأولى أن يكون خالقا لما لم يدع فيه أحد الخالقية وهي الأصنام،قال: ومدار هذه المسألة على أن الحقيقة مقدمة على المجاز ولا أثر للمرجوح مع الراجح وذلك أن الخشب، التي منها الأصنام والصور التي للأصنام، ليست بعمل لنا وإنما عملنا ما أقدرنا الله عليه من المعاني المكسوبة التي عليها ثواب العباد وعقابهم، فإذا قلت عمل النجار السرير فالمعنى حركات في محل أظهر الله لنا عندها التشكل في السرير، فلما قال تعالى﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ وجب حمله على الحقيقة وهي معمولكم، وأما ما يطالب به المعتزلي من الرد على المشركين من الآية فهو أبين شيء لأنه تعالى إذا أخبر أنه خلقنا وخلق أعمالنا التي يظهر بها التأثير بين أشكال الأصنام وغيرها، فأولى أن يكون خالقا للمتأثر الذي لم يدع فيه أحد لا سني ولا معتزلي..ولم لا تكون الآية مخبرة عن أن كل عمل للعبد فهو خلق الرب ،فيندرج فيه الرد على المشركين مع مراعاة النظم، ومن قيد الآية بعمل للعبد دون عمل فعليه الدليل[2] والأصل عدمه ،وبالله التوفيق”[3].

وقال ابن المنير[4] ناقدا كلامه أيضا :” إذا جاء سيل اللّه ذهب سيل معقل ، فنقول : يتعين حملها على المصدرية، وذلك أنهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة ، فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ، ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر ، فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم ، ففي الحقيقة أنهم عبدوا عملهم ، وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله ، مع أن المعبود كسب العابد وعمله ، فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون (ما) مصدرية أوضح قيام وأبلغه ، فإذا أثبت ذلك فليتتبع كلامه بالإبطال. أما قوله أنها موصولة ، وأن المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر ، فانه مفتقر إلى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره : واللّه خلقكم وما تعملون شكله وصورته ، بخلاف توجيه أهل السنة فانه غير مفتقر إلى حذف البتة ، ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر ، فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد ، مع موافقته على أن جواهر الأصنام ليست من عملهم؟ فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل ، وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم ، فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد ، وعلى ما قررناه يتضح.[5]اهـ

وما ذهب إليه ابن الوزير رده الأستاذ صبري في كتابه الخالد”موقف العقل والعلم والعالم” حيث قال:”ونحن نقول الاحتمال الأول من الاحتمالات الثلاثة أي احتمال كون (ما) مصدرية لا يحتاج إلى تقدير ضمير والاحتمال الثاني يحتاج إلى تقدير ضمير منصوب يعود إلى (ما) وهو جائز[6]. والاحتمال الثالث يحتاج إلى تقدير ضمير مجرور مع حرف الجر وهو غير جائز إلا إذا كان الموصول الذي يعود إليه الضمير مجرورا بمثل تلك الحرف، فلا محل إذن للاحتمال الثالث. ولو جاز هذا الاحتمال كان أنفع لمنكري كون الله هو خالق أعمال العباد لدلالته على أن الله يخلق أحجار الأصنام لا الأصنام ولا عملها. ومع هذا فلم يستطع ابن الوزير ترجيح هذا الاحتمال الذي ذكره رغما لعدم جوازه، ولا تصويره على وجه يستفيد منه لمذهبه حيث قال:”الثالث خلق الحجارة التي فيها عملهم وتصويرهم. والسر في ذلك أن صراحة الآية إن لم تضطره إلى جعل المعطوف على مفعول فعل الخلق عبارة عن أعمال العباد كما هو مدلول كون (ما) مصدرية، تضطره على الأقل إلى أن يجعله عبارة عن معمولاتهم وهي الأصنام لا الحجارة. فمنطوق الآية على الاحتمال الراجح عنده في (ما) أن الله خلق معمولات العباد مثل الأصنام كما خلقهم أنفسهم، ولا محل لأن يكون المراد من مخلوق الله في الآية الحجارة التي يصنعون منها الأصنام، لكن الرجل المسكين الذي تولى الجواب عن دليل الإمام أبي حنيفة ضد مذهب الاعتزال[7]، لا يريد أن يتخلى عن الصورة الوحيدة التي يتوقف نجاحه في جوابه على التمسك بها وهي أن يستخرج من الآية أن الله خلق حجارة الأصنام لا الأصنام نفسها. وهذا على الرغم من أن الآية تنطق بعكس ما يريد أن يستخرجه، وعلى الرغم من أن الرجل نفسه صرح عند تفسير كلا الاحتمالين الأخيرين الملائمين لمنحاه بأن الله خلق الأصنام. والدليل على أنه لا يريد أن يتخلى عن استخراج ذلك المعنى المنافي لصراحة الآية ولتصريح الرجل نفسه قوله قبل تعداد الاحتمالات وهو يسعى لمنع احتمال المصدرية في (ما):”لكن هنا وجوها ترجح أنها بمعنى الذي تعملون وهو الأصنام التي خلقها الله حجارة وعملوها أصناما” وهذا آية في التخليط والتشويش قصدا لعدم الاعتراف بالحق فهو يخالف صراحة الآية حتى على الاحتمال المختار عنده في (ما) فيضطر إلى أن يقول مرتين إن الله خلق الأصنام ومع هذا لا يتخلى عن المعنى الذي يرهق الآية عليه فيقول في تفسير (ما تعملون):”الأصنام التي خلقها الله حجارة وعملوها أصناما” فيجعل الحجارة مخلوقة والأصنام معمولة مع أن المخلوق بالنظر إلى الآية هو المعمول، فجل همه التفريق بين المعمول والمخلوق لأنه يعرف عدم إمكان الجواب عن الآية إذا كان معمول العباد بعينه مخلوق الله وهو كذلك رغم أنف الرجل لأن الآية تقول: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ ومعمولهم الأصنام لا الحجارة فهي –أي الأصنام-مخلوقات الله ومعمولاتهم.

الهوامش:

 

 


[1] – وهذه القوة لن تكون عالمة بما سيترتب عن الفعل من أثر فالضرب باليد مثلا لا يعلم ما سبنى عليه من آثار وكذلك قل في الأشياء كلها  كالقنبلة إن جعلت فيها هذه القوة فتؤثر استقلالا  فلا يعلم مقدار ما ستدمره ، لذلك قال متكلمو أهل السنة  أن كل شيء في العالم مستند إلى الله تعالى من غير واسطة.

[2] – وفيه الرد على ما ذكره ابن الوزير في قوله السابق: ” فجعل ما عملته أيديهم  مأكولا وكل مأكول مخلوق لله وحده لا عمل للعبد فيه ألبتة”

[3] – انظر”الفتح”(13/600)

[4] – وابن المنير المالكي إمام أشعري جمع بين الفقه والتفسير والحديث  كما قال التقي السبكي في “السيف الصقيل” وغيره ،وقد  تتبع اعتزاليات الزمخشري في كتاب سماه”الانتصاف” مطبوع بهامش “الكشاف” ولا يضره قول من قال  من متفيهقة الزمان في مذهبه في الأفعال:” فلم يأت بطائل بل كانت ردوده تحمل الكثير من الضعف والتناقض“اهـ من “المسائل الاعتزالية في تفسير الكشاف للزمخشري”(1/122).

 و يقول في(2/832):”أما ابن المنير فقد كان غرضه من ترجيح(ما) المصدرية ظاهر، فإنه يرى أنها دليل على مذهبه الجبري في أن الله هو الخالق والفاعل لأفعال العباد”اهـ فلاحظ  تخبطه وتخليطه وهو في كتابه كله معتمد على كلام ابن تيمية وتلميذه الزرعي في نقد مذهب الأشاعرة، ويكفي في رد تخرصه هذا ما ذكره التقي السبكي في “السيف الصقيل”ص:432″كذب هذا الجاهل في قوله:(إن العبد عندهم ليس بفاعل). ولكن مراده بذلك قولهم :إنه لا يخلق فعله، وليس بخالق والله سبحانه هو خالق أفعال العباد. فاعتقد هذا الجاهل بسبب ذلك أنهم يقولون إنه ليس بفاعل، وكون العبد ليس بخالق حق وكونه ليس بفاعل باطل، والفاعل من قام به الفعل، والفعل قائم بذات العبد، والخالق من أوجد الفعل ولا يوجده إلا الله”اهـ. 

[5] – أحمد بن محمد المعروف بابن المنير في “الانتصاف”(4/50)

[6] – قال السعد التفتازاني في “شرح العقائد”ص:93″قوله تعالى: “والله خلقكم وما تعملون” أي (عملكم )على أن ما مصدرية لئلا يحتاج إلى حذف الضمير أو (معمولكم) على أن (ما) موصولة ويشمل الأفعال، لأنا إذا قلنا إن أفعال العباد مخلوقة لله  تعالى أو للعبد. لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد  والإيقاع أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلا. وللذهول عن هذه النكتة قد يتوهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون (ما) مصدرية “اهـ والذي ذكره  هو مذهب الأحناف الماتريدية إذ أن الفعل عندهم بالمعنى المصدري هو أمر اعتباري ليس بموجود بالخارج فيكون غير مخلوق .وهو غير مسلم كما يأتي بيانه في محله.

[7] – المقصود أن الآية قد احتج بها الإمام الأعظم على رأس الاعتزال عمرو بن عبيد فأفحمه. فلو علم الإمام أن للخصوم متمسكا فيها ما استدل بها رأسا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق