وحدة الإحياءدراسات محكمة

الكتابة العربية المعاصرة في السيرة النبوية.. قضايا وملاحظات

ظلت سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، النموذج المثالي للحياة الإنسانية الحقة بكل أبعادها، والمعين العذب الذي لا ينضب على مر العصور والأجيال، ونالت من عناية العلماء قديما وحديثا مسلمين وغير مسلمين ما لم تنله سيرة نبي ولا زعيم، وتفنن المسلمون في كتابتها والتصنيف في جزئياتها أيما تفنن، كيف لا وهي سيرة أعظم رسول وأكرم الخلق على الله تعالى.

وهؤلاء الذين كتبوا في السيرة النبوية لم تكن طريقتهم واحدة، بل تفرقوا طرائق قددا. والملاحظ أن السيرة النبوية في عصرنا لم تكتب فيها الأقلام الإسلامية فحسب، بل كتب فيها غير المسلمين أيضا، وفي هؤلاء وأولئك المنصف في البحث المخلص في طلب الحقيقة، وفيهم الحاقد على الإسلام المنحرف عن سواء السبيل.

وهذا الاختلاف مرده إلى ما يدين به كل كاتب من عقيدة وما يعتقده من آراء وأفكار. ومن تم تتعدد النتائج التي يتوصل إليها الكاتبون في السيرة تبعا للمنهج المتبع في دراستها.

وإذا كان عموم الأقدمين يكتفون بسرد أحداث السيرة النبوية ولا يهتمون بالتحليل والاستنباط إلا قليلا منهم، فعلى العكس من ذلك كثير من الكتاب المعاصرين الذين قطعوا أشواطا بعيدة في تحليل أحداث السيرة النبوية واستنباط الدروس والعبر منها، ومناقشة الكثير من قضاياها.

والكتابة المعاصرة في السيرة النبوية قد توزعتها اتجاهات شتى ومناهج مختلفة تبعا لانتماء صاحبها الديني والفكري. ففيها الأصيل الذي حاول مراعاة الأمانة العلمية في الكتابة، وتوثيق الخبر وعدم التعسف في التأويل، والاستفادة من السيرة النبوية للنهوض بالمسلمين. وفيها الدخيل الذي حاول جاهدا تسخير السيرة النبوية لخدمة أهوائه وخلفياته على اختلافها، مادية وعلمانية وتلفيقية وشيعية.. وغيرها. وحسب علمي فالذين اهتموا بهذا الموضوع[1] أفراد قلائل، وكان المفروض أن ينال هذا الموضوع كبير اهتمام الباحثين المسلمين: أولا؛ لأهمية السيرة النبوية في البنيان الإسلامي، وثانيا؛ لاكتساح المناهج الحديثة شرقية وغربية ساحة السيرة النبوية بتحليلاتها المغرضة والتي تشكل خطورة كبيرة على فكر الأمة وثقافتها.

وأوفى كتاب تطرق لهذا الموضوع حسب علمي هو (دراسات في السيرة النبوية) لمؤلفه سرور بن نايف زين العابدين، والذي ركز فيه على كتابات أصحاب المناهج المنحرفة في كتابة السيرة النبوية، وقسمها إلى ثلاثة أقسام:

  1. المستشرقون؛ عرض في هذا القسم كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان، وكتاب الدعوة إلى الإسلام لأرنولد.
  2. دعاة التغريب؛ وعرض فيه لكتاب دروس قرآنية ليوسف إلياس حداد، وكتاب محمد الرسالة والرسول لنظمي لوقا، ولما كتبه جورجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي، وأيضا لما كتبه طه حسين في كتبه: (على هامش السيرة) و(الشيخان) و(الفتنة الكبرى).
  3. المدرسة الإصلاحية؛ تحدث في هذا القسم عن موقف الإصلاحيين محمد عبده والخضري وهيكل.. من المعجزات، ومواقفهم من قضايا أخرى كحديث الآحاد والسحر ونزول القرآن[2].

وكثيرة هي القضايا التي عرضت لها الكتابات المعاصرة في السيرة النبوية، وليس من شأن هذا البحث تتبعها ولا استقصاؤها، فذلك أمر يطول. وإنما مثلت هاهنا بما أراه قضايا رئيسية في هذه الكتابات، والقاسم المشترك بين كثير منها، وحصرتها في ثلاث:

أولا: التشكيك في كتب الحديث والسيرة النبوية.

ثانيا: إنكار الأحاديث الصحيحة.

ثالثا: إنكار المعجزات والتشكيك فيها والتعسف في تأويلها.

أولا: التشكيك في كتب الحديث والسيرة النبوية

وهذا التشكيك تارة يتذرع بكون مرويات هذه الكتب تخالف القرآن الكريم، وتارة باختلافها حول الحدث الواحد، وتارة بزعم تأخر تدوين هذه الكتب، وتارة أخرى باتهام مصنفيها بالكذب والتدليس والعمالة للأمويين!

ولعل من أوائل المحدثين الذين شككوا في كتب السيرة النبوية محمد عزة دروزة في كتابه (سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، صور مقتبسة من القرآن الكريم[3]. والذي حذا به إلى تأليفه هو الاختلاف الحاصل في مصادر السيرة النبوية، بحيث لم تعد تبعث في النفس الطمأنينة والثقة بها، فضلا عن اليقين، ومثل لذلك بسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد! وبناء عليه يشكك دروزة في كثير من مرويات السيرة النبوية، بحجة أن هذه المرويات تختلف حول الحدث الواحد، إضافة إلى كونها تناقض النصوص القرآنية[4].

ونحن نتفق مع الكاتب في اعتبار القرآن الكريم المصدر الأوثق للسيرة النبوية، بحيث يرد كل ما يعارضه مما ورد في مصادر السيرة الأخرى، لكن لا نتفق معه في منهج التشكيك هذا الذي اعتمده بإطلاق، وحاول به نسف مرويات السيرة، لأن ما تذرع به لا يكفي للطعن فيها، إذ إن اختلافها حول الحدث الواحد، والتناقض فيما بينها لا يعني ردها كلها، بل فيها الصحيح والضعيف والراجح والمرجوح، فنقبل الأول ونرد الثاني وفق قواعد المحدثين. هذا إذا تعذر الجمع فيما بينها، بوجه من الوجوه، أما إذا أمكن ذلك فالجمع مقدم على الترجيح كما هو معلوم عند أهل الشأن.

هذا فضلا عن أن القرآن الكريم لم يعرض لكل أحداث السيرة، بل عرض لبعضها فقط، أما تفاصيل الأحداث فمظنتها كتب الحديث والسيرة النبوية. ولو سلمنا بدعوى دروزة، لافتقدنا كثيرا من أحداث السيرة، وكثيرا من تفاصيله.

وبناء على هذا المنهج فالأستاذ دروزة لا يسلم بوقوع أذى بدني على النبي، صلى الله عليه وسلم، في مكة، بحجة اختلاف نصوص الروايات مع وحدة الشخص المعزو إليه ارتكاب الإثم في بعضها، وعدم ذكر القرآن شيئا ما يدل على وقوع الذي فعلا، واستثنى المؤلف من ذلك رواية ما كان من رجمه وجرحه، صلى الله عليه وسلم، من قبل بعض الرعاع في الطائف، وعلل ذلك بأن الظروف التي وقعت فيها الرحلة إلى الطائف، وما وقع له فيها مما يدخل في دائرة الاحتمال كثيرا[5].

وما الذي يمنع أن تدخل روايات إذاية النبي، صلى الله عليه وسلم، الأخرى أيضا في دائرة الاحتمال، وقد وردت بأسانيد صحيحة وتواترت روايتها في كتب السيرة؟ أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: “بينا النبي، صلى الله عليه وسلم، ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة، عليها السلام، فأخذته من ظهره ودعت على من صنع فقال، النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم عليك الملأ من قريش أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف شعبة الشاك، فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر غير أمية بن خلف أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر[6]“. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: “قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا قال فأنزل الله، عز وجل، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: “كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى؛ يعني أبا جهل، ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع نادية سندع الزبانية كلا لا تطعه – زاد عبيد الله في حديثه قال: وأمره بما أمره به. وزاد ابن عبد الأعلى: فليدع ناديه، يعني قومه[7]“.

وقد ختم المشركون أذاهم للنبي، صلى الله عليه وسلم، بمحاولة قتله أواخر المرحلة المكية مما كان سببا في الهجرة نحو المدينة المنورة. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن يمس الأذى أحدا من أتباعه، يقول فيما رواه عنه أنس بن مالك: “لقد أخفت في الله عز وجل وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال[8]“. فما الذي يمنع كون النبي، صلى الله عليه وسلم، قد أوذي في الله وقد أوذي من قبله الأنبياء والرسل، بل منهم من قتل؟ والأستاذ دروزة يعلم أن قريشا قد تجرأت على قتل النبي، صلى الله عليه وسلم، أفلا تجرؤ على ما هو أهون من القتل وهو الأذى البدني؟ وهل لنا أن نلزم القرآن بذكر ما لقيه النبي، صلى الله عليه وسلم، من ذلك حتى نسلم به؟ وهل اختلاف الروايات مبرر للطعن فيها وردها من أصلها؟ أم المطلوب هو الجمع بينها إن أمكن ذلك، أو الترجيح؟

وممن اعتمد منهج التشكيك أيضا، محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد صلى الله عليه وسلم) الذي دندن كثيرا حول ما سماه بالطريقة العلمية الحديثة في كتابة السيرة النبوية، وكان من جملة ما دفعه إلى هذه الطريقة زعمه تأخر تدوين كتب الحديث والسيرة النبوية إلى ما بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بمائة عام أو أكثر، وذلك في ظروف المنازعات السياسية والتي كان اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب[9].

ثم بعد ذلك بصفحات يزعم تأخر كتابة الحديث والسيرة النبوية إلى عهد المأمون، وقد مضى قرابة قرنين على وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد شيوع الأحاديث الموضوعة بكثرة راعت المسلمين، إذ ذاك، يقول هيكل، قام الجامعون بجمع الأحاديث، وتولى كتاب السيرة كتابتها، فقد عاش الواقدي وابن هشام والمدائني وكتبوا كتبهم أيام المأمون، وما كان لهم ولا لغيرهم أن ينازعوا الخليفة في آرائه مخافة ما يحل به، ولذلك لم يطبقوا، بما يجب من الدقة هذا المقياس الذي روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من وجوب عرض ما يروى عنه على القرآن، فما وافق القرآن فمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وما خالف القرآن فليس منه[10].

بل هو يرى أن أكثر كتب السيرة إضاف على حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، مالا يصدقه العقل، ولا حاجة له في ثبوت الرسالة[11]، ويرى أنه قد دس فيها خرافات لا يسيغها العقل، ولا يقبلها الذوق[12].

ثم إن مقاييس المحدثين غير كافية في نظر هيكل لقبول الحديث، وعنده أن “خير مقياس يقاس به الحديث وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، روي عنه عليه السلام أنه قال: “إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فمني، وما خالفه فليس مني”. وهذا مقياس دقيق أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى، وما زال المفكرون يأخذون به إلى يومنا الحاضر[13]. ثم هو مقياس (يتفق مع قواعد النقد العلمي الحديث أدق اتفاق[14]).

ودعوى هيكل تأخر تدوين كتابة الحديث إلى ما بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بمائة عام أو أكثر مردود عليه، ولا أساس له من الصحة، فثمة نصوص كثيرة تثبت كتابة الحديث على عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، كتلك التي أخرجها البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب كتابة العلم. إضافة إلى كتابته، صلى الله عليه وسلم، لصحيفة المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وكتبه ومعاهداته المدونة، صلى الله عليه وسلم، والتي كانت بينه وبين كثير من بطون العرب وطوائف اليهود والنصارى، فضلا عن كتبه، صلى الله عليه وسلم، إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، وإلى عماله وقادة جيشه فيما يتعلق بأحكام الدين وشؤون الدولة[15]. وقد أربت هذه الكتب على ثمانين ومائتي كتاب، كما ذكر الدكتور محمد حميد الله في كتابه (الوثائق السياسية).

وخطأ هيكل جاء من كونه لم يفرق بين الكتابة والجمع والتدوين، فقد كتب الحديث في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وجمع في عهد عمر بن عبد العزيز، ودون في عهد المأمون. ثم إن السيرة النبوية، وهي جزء من الحديث، نجد أعلام الطبقة الأولى ألفوا فيها كتبا في القرن الهجري الأول أمثال عروة بن الزبير (ت 49ﮬ)، وشرحبيل بن سعد (ت 103ﮬ)، وأبان بن عثمان (ت 105ﮬ)، ثم تلتهم طبقة أخرى في القرن الهجري الثاني أبرز أعلامها عبد الله بن أبي بكر بن حزم (ت 105ﮬ)، وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120ﮬ)، ومحمد بن شهاب الزهري (ت 124ﮬ)، فما كتبه هؤلاء الرواد الأوائل في المغازي، والنقول التي وصلتنا عنهم، هي أبلغ رد على هيكل وأمثاله ممن يرجمون بالغيب، ويصادمون حقائق التاريخ.

على أن دعوى هيكل هذه إنما تلقفها من بعض المستشرقين، كما تلقفها غيره أتباع كل ناعق. وإنما أتي هؤلاء من ظنهم أن أول كتاب في الحديث هو كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس (ت 179ﮬ)، وأول كتاب في السيرة كتاب المغازي لابن إسحاق، فاعتبروا العقود الأولى من القرن الثاني بداية تدوين الأخبار والسير، وليس الأمر كذلك، فإن بواكير التدوين بدأت في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفي القرن الأول الهجري[16].

ولست أرى حاجة إلى الإطالة في الرد على هذه الدعوى أكثر من هذا، فقد فصل القول في ذلك علماء أجلاء كالدكتور مصطفى السباعي في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، والدكتور صبحي الصالح في كتابه (علوم الحديث ومصطلحه)، وآخرون.

أما الحديث الذي استدل به هيكل، وهو ما يروى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فمني، وما خالفه فليس مني” لم أقف عليه من هذا اللفظ، وساقه الشافعي بلفظ: “ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله” ورده بقوله: “ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر[17]“.

وعلق الشيخ أحمد محمد شاكر على ذلك قائلا: “هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف، حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاستشهاد، وأقرب رواية لما نقله الشافعي هنا فوهاه وضعفه رواية الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عمرو نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد1701 وقال: “فيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه، وهو منكر الحديث[18]“.

قلت: وخرجه الطبري[19] من وجه آخر عن ثوبان مرفوعا: “ألا إن رحى الإسلام دائرة قال: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو مني وأنا قلته”. وقال الهيثمي: “فيه يزيد ابن ربيعة وهو متروك منكر الحديث[20]“.

وقال الألباني: ضعيف جدا[21].

وقد كتب الإمام ابن حزم في هذا المعنى فصلا قيما في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، وروى بعض ألفاظ هذا الحديث المكذوب، وأبان عن عللها، ومن جملة ما قاله في ذلك: “أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: 80)[22]. وقال أيضا لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلا، وكل خبر في الشريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه مبين لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث[23].

ولما كان هيكل لا يثق بكتب الحديث والسيرة، فهو يرى “أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم، فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبي العربي، صلى الله عليه وسلم، يتخذها الباحث منارا يهتدى به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السيرة المختلفة[24]“. وهي كلمة حق أريد بها باطل، وذلك أنه لا يثق في كتب الحديث والسيرة بدعوى أنها لا توافق القرآن الكريم، وكأن القرآن جاء جامعا لكل تفاصيل السيرة النبوية! ولو جارينا هيكل في هذه الدعوى، لكان من حق كل واحد منا، كما يقول مصطفى صبري، “أن يقوم فيرد كل ما ورد به كتاب حياة محمد تقريبا بحجة أنه لم يرد به القرآن! وكان الواجب على هيكل أن يحجم عن تأليف كتابه هذا الذي أسماه حياة محمد، فمن أي مصدر كتب ما كتب فيه، إن كانت كتب السيرة والحديث غير جديرة بالثقة والتعويل، وأصحابها متهمين بالأغراض السياسية والدينية؟![25]“. بل التشكيك في كتب الحديث والسيرة على الإطلاق يؤدي إلى التشكيك في القرآن أيضا، لأن تلك الكتب هي المرجع أيضا في مسألة جمع القرآن، وما التزم فيه من الدقة في ضبط الأصل، وليس لهيكل بأن يتعزى بأن القرآن جمع قبل طروء الفساد على الروايات، لأن نبأ هذا الجمع أيضا يصل إلينا من طريق رواة الحديث والسيرة المطعون في أماناتهم[26].

والغريب أن هيكل في الوقت الذي يشكك في كتب الحديث والسيرة، نجده يصرح في مقدمة كتابه أن كتب المستشرقين عاونته كما عاونته كتب السيرة والتفسير في الاهتداء إلى غاية يطمئن إليها![27] وأي غاية يمكن الاطمئنان إليها من خلال كتب المستشرقين؟ إنهم ينقلون عن مصادرنا ويحرفون ويؤولون لحاجة في أنفسهم إلا قليلا منهم، فكيف نطمئن إلى كتبهم، ولا نطمئن إلى كتب الحديث والسيرة؟! إن هذا لشيء عجاب!

وفي كتابه (سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، نظرة جديدة) اتهم هاشم معروف الحسيني رواد المغازي الأوائل بأنهم أضافوا إلى السيرة النبوية ما ليس منها إما عن حب وهوى، وإما عن حقد وسوء نية! وذكر منهم عروة بن الزبير، محمد بن شهاب الزهري، وشرحبيل بن سعد، وأبان بن عثمان، وعاصم بن عمر بن قتادة، وموسى بن عقبة وابن إسحاق ، رغم اعترافه في مقدمة الكتاب بفضل سبقهم إلى التأليف في السيرة النبوية.

ونجده يكرر التهمة نفسها في مواضع أخرى من كتابه، حيث يزعم أن هؤلاء الذين دونوا السيرة في مطلع القرن الثاني الهجري قد أدخلوا عليها عشرات القصص والأحاديث إما عن حب وهوى، أو بقصد التشويه والتشويش لسنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسيرته[28]، ويتهمهم بالكذب والتدليس والعمالة للأمويين[29]، ويتهم الإمام الزهري بالعمالة للأمويين[30]. ووضع المرويات التي تسيء إلى الهاشميين لصالح الأمويين[31].

وهؤلاء الذين طعن فيهم الكاتب هم أعلام المغازي، وروادها الأوائل، فعروة بن الزبير (ت 94ﮬ)، تابعي ثقة، روى عنه الستة وهو من فقهاء المدينة السبعة. وأبان بن عثمان (ت 101 أو 105ﮬ)، تابعي ثقة. وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 119ﮬ)، تابعي ثقة. وشرحبيل بن سعد أبو سعد المدني مولى الأنصار (ت 123ﮬ)، صدوق اختلط بأخرة[32]، قال عنه ابن عيينة: “لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه[33]“.

وموسى بن عقبة (ت 140ﮬ) محدث ثقة، وقد أثنى الأئمة على مغازيه واعتبروها من أصح ما ألف في السيرة، يقول الإمام مالك: “عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي[34]” ويقول الإمام الشافعي: “ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره[35]“.

وابن إسحاق (ت 151ﮬ) إمام المغازي، قال الإمام الشافعي: “من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق[36]” وقال ابن سيد الناس: “هو العمدة في هذا الباب لنا ولغيرنا[37]” وقال الذهبي: “كان أحد أوعية العلم حبرا في معرفة المغازي والسير[38]“.

وأما الإمام بن شهاب الزهري (ت 94ﮬ) فقد أجمع الأئمة على جلالته وثقته، وما اتهمه به الكاتب من العمالة للأمويين، فقد سبقه إلى هذه الدعوى الباطلة المستشرق اليهودي جولد تسيهر، وفندها الدكتور مصطفى السباعي في كتابه “السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي[39]“.

أما حسين مؤنس فقد جعل مغازي الواقدي وطبقات ابن سعد في مقدمة مصادر كتابه “دراسات في السيرة النبوية” الأول، لغزارة مادته مع الصحة والإتقان، والثاني لحسن اختياره مع الشمول والفطنة، ولكون كل منهما على طريقة المؤرخين لا على منهج المحدثين[40]. ويقول عنهما مع الطبري: “وهؤلاء الثلاثة كانوا مؤرخين لا يتبعون منهج المحدثين اتباعا دقيقا، ولهذا تعرضوا لنقد شديد من جانب المحدثين واتهموا بالكذب والتدليس![41]“.

وهذا الإطلاق غير صحيح، فالطبري وابن سعد كلاهما ثقة، أما الواقدي فهو متهم فعلا عند أهل الحديث، إلا أن الجميع يسلم بإمامته في المغازي والسير، وكان المفروض على الكاتب وهو المؤرخ الذي يدعي المنهج التاريخي الدقيق أن يتثبت في العبارة ولا يعمم الحكم بهذا الإطلاق. إلا أن الكاتب لا يرى رأي المحدثين، ويقول: “ومعظم إسناد الواقدي من أهل الصدق والأمانة، ولهذا فإننا ننزله منا منزل الثقة![42]“. وهو يعتمد كثيرا مغازي الواقدي ويعتبرها من أصدق مراجع السيرة، ويرى أن الواقدي مظلوم عند رجال الحديث المتأخرين، “ربما لأنه لم يتبع منهجهم في رواية كل خبر بسنده![43]“. وهذا الكلام لا يصح، فليس تضعيف الواقدي فقط لأنه لا يروي كل خبر بسنده، وليس هذا التضعيف حكرا على رجال الحديث المتأخرين، بل تكلم فيه الأولون أيضا. قال البخاري: “متروك الحديث[44]” وكذا قال النسائي[45]، وقال ابن المديني: “ليس بموضع للرواية، وقال إسحاق بن راهويه: هو عندي ممن يضع[46]“. فهؤلاء أهل الحديث المتقدمين وهذا حكمهم فيه.

وفي مقابل ذلك نجد الكاتب شديد التحامل على سيرة ابن هشام كثير النقد لها، ويعتبرها شيئا آخر غير سيرة ابن إسحاق، وصرح بأنه لا يكاد يعتمد عليها إلا قليلا جدا[47]. وذلك لكون ابن هشام أعاد صياغة سيرة ابن إسحاق وأضاف إليها وحذف منها[48]، مما أضر بسيرة ابن إسحاق[49]، وهذا الذي قاله الكاتب ودافع عنه ناشئ عن تأثره بمنهج المستشرقين، يقول الدكتور العمري: “وهناك اتجاه خاطئ عند بعض المستشرقين تابعهم فيه بعض مؤرخينا يعلي من شأن مغازي الواقدي ويقدمها على سيرة ابن إسحاق، والحق أن سيرة ابن إسحاق أدق وأوثق وتتطابق معلوماتها مع معلومات كتب الحديث في كثير من الجوانب[50]“.

ثانيا: إنكار الأحاديث الصحيحة

وإقدامهم على هذا الإنكار وجراءتهم عليه وتسرعهم فيه دليل على جهل فاضح بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبفقه الحديث بأقوال أهل هذا الشأن. ولعل أعظم من تولى كبر ذلك هم رواد المدرسة الإصلاحية، وقد ردوا صحاح الأحاديث بدعوى أنها تعارض عصمة النبوة، أو لأنها تناقض العقل، أو لأنها أحاديث آحاد لا تقوم حجة في مجال العقائد. وهو بهذه السنة السيئة التي سنوها قد فتحوا الباب على مصراعيه لكل من جاء بعدهم ممن هب ودب ليتكلم في سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويرد الأحاديث الصحاح بدعاوى لا تقوم على ساق ولا يسعفها جناح، بل الأدهى من ذلك أن نبتت نابتة من بين المسلمين تنكر السنة النبوية وتنفي عنها صفة الوحي جملة وتفصيلا وتطعن في رجالها، وتزعم بعد ذلك أن مرجعها الأول هو القرآن، وقالوا: حسبنا القرآن، وسموا أنفسهم أو سموا بالقرآنيين، وكذبوا، فما أبعدهم عن القرآن وعن منزلة القرآن، سبحانه وتعالى، الذي أمر في كثير من آياته بأتباع نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وإتباع سنته، وقرن طاعته بطاعته..

وفيما يأتي نماذج من الأحاديث النبوية التي أنكرها بعض المعاصرين الذين كتبوا في السيرة النبوية:

1. حديث سحر النبي “صلى الله عليه وسلم”

إنكار هذا الحديث ليس بدعا في كتابات المعاصرين، بل هو أمر قديم، ومن قبل قال القاضي عياض (ت 544ﮬ): “اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرعت به، لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع[51]“.

والموقف نفسه الذي اتخذه المعتزلة قديما من هذا الحديث، اتخذه أيضا دعاة المدرسة العقلية الحديثة وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده الذي أنكره بدعوى أن القرآن الكريم نفى السحر عنه، صلى الله عليه وسلم، وأن الحديث على فرض صحته حديث آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، وأنه إذا جاز عليه السحر لكان في ذلك إخلالا بالتبليغ[52]. ومن أقطاب هذه المدرسة الذين أنكروا هذا الحديث هيكل في كتابه (حياة محمد) يقول: “وفي هذه الفترة تجري القصة التي تروي أن اليهود سحروا محمدا بفعل لبيد حتى كان يحسب أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، وهي قصة اضطربت فيها الروايات اضطرابا شديدا يؤيد رأي القائل بأنها محض اختراع لا شيء فيها من الحق[53]“.

وحبذا لو سمى لنا هيكل هذا القائل بأنها محض اختراع لنعرفه، وكيف تكون كذلك وهي مروية في أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل؟ ثم أين هو الاضطراب المزعوم في الروايات؟ وكيف ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد قتلت اليهود قبله زكريا ويحيى، وقتلت الأنبياء وطبخهم وعذبتهم أنواع العذاب، وسمت اليهودية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ذراع شاة مشوية. والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب؟[54].

وممن أنكر هذا الحديث من المعاصرين أيضا حسين مؤنس في كتابه (دراسات في السيرة النبوية)، فهو لا يرى ضرورة للقول بأن محمدا قد سحر، ويعتبر الأمر مجرد حالة مرضية لم يشخصها أحد نزلت بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وشفي منها، يقول في ذلك: “وفي معرض الكلام عن صحة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نقول دون أن ندخل في تفاصيل تهم الفقهاء وأهل الحديث وحدهم: إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نزلت به في أوائل السنة السادسة للهجرة نازلة مرض، وقد يكون شكا من بعض الحمى فنسبها الناس إلى السحر ثم أبل من مرضه هذا وعاد يتابع نشاطه المعروف[55]“.

وممن سلك مسلك الإنكار أيضا هاشم معروف الحسيني في كتابه “سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، نظرة جديدة”، وزاد فادعى أن الحديث من موضوعات المنافقين أو الصحابة بقصد التشكيك في رسالة محمد وحتى في القرآن الكريم، لأنه إذا جاز على النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يصبح في مرحلة يخيل إليه أنه يقول ويفعل بدون وعي ولا تفكير يجوز عليه أن يقول ما لم يقله[56]“.

وليس مستغربا من رافضي مثل صاحب الكتاب أن يطعن في صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويتهمهم بوضع الحديث.

والحديث الذي رده هؤلاء مروي في صحيح البخاري[57] من حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: “سحر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما ثم رأسي والآخر ثم رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال مطبوب، قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال في بئر ذروان. فأتاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ناس من أصحابه فجاء فقال: يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته، قال قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت).

أما ما تعلل به هؤلاء لرد الحديث، فهي التعلة نفسها التي تذرع بها منكرو هذا الحديث قديما، وقد أتى عليها بالنقض جلة من العلماء منهم الإمام المازري الذي قال: “أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن توجيز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان، صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة، قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا، ولفظه حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وفي رواية الحميدي أنه يأتي أهله ولا يأتيهم[58]“.ومنهم القاضي عياض (ت 544ﮬ) الذي اعتبر السحر مرضا من الأمراض يجوز على النبي، صلى الله عليه وسلم، كبقية الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبويته. ثم قال: “وأما ما ورد أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه وشريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، وغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان[59]“. وعقب الدكتور البوطي على ذلك بقوله: “وهو كما يحصل للمريض عند شدة الحمى، فمن الأعراض الطبيعية لذلك أن تطوف بالذهن أخيلة وأوهام غير حقيقية لشدة وطأة الحرارة، والأمر في ذلك وأشباهه من الأعراض البشرية التي يستوي فيها الأنبياء والرسل مع غيرهم من الناس[60]“.

2. حديث خوخة أبي بكر “رضي الله عنه”

توقف الأستاذ دروزة في قبول ما رواه المفسرون في قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ (النساء: 43) أنه كان لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبواب مفتوحة على المسجد النبوي، وكان ساكنوها يضطرون إلى العبور منها فرخص لهم، ومال إلى القول بأن الترخيص إنما كان لسكان بيوت النبي، صلى الله عليه وسلم، كما استغرب الحديث[61] الذي أمر فيه، صلى الله عليه وسلم، بإغلاق خوخات المسلمين من المسجد إلا خوخة أبي بكر، وعلل ذلك بكون مسكن أبي بكر كان بعيدا عن المسجد في السنح، ثم قال: “ونخشى أن يكون لما كان من مشادة بين أهل السنة والشيعة حول الخلافة النبوية أثر ما في هذا الخبر، ففي الروايات المروية أسبابا لنزول، بعض الآيات وفي الأحاديث المسندة أو المرفوعة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، كثير من هذا الباب[62]“.

وليس ثمة ما يخشى والحمد لله، وفي الحديث “اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة[63]“. أما التعليل الذي استند إليه دروزة في رد الحديث فهو ضعيف، إذ كون منزل أبي بكر كان في السنح، لا ينفي أن يكون له منزل مجاور للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار[64].

3. حديث أن النبي كان لا يشبع من الطعام

هذا الحديث أنكره حسين مؤنس في كتابه (دراسات في السيرة النبوية)، ورد على القاضي عياض الذي ذكر في كتابه الشفا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير زهدا في الطعام، فكل ذلك يقول الكاتب “يتنافى مع ما ينبغي للنبي من طبع لين لا تشدد ولا تكلف فيه، ولماذا والله لا يشبع رسول الله من خبز؟ وأي حكمة أو فضيلة في ذلك ما دام خبز الشعير ميسورا لأفقر أصحابه يملأ منه بطنه متى أراد؟[65]“.

وهذا مردود على الكاتب، وما ذهب إليه القاضي عياض حق وتشهد له الأحاديث الصحيحة. روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية فدعوه فأبى أن يأكل وقال: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير[66]. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: “ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم[67]. وقد وردت الآيات في هذا المعنى بألفاظ مختلفة، ولمن أراد التوسع في ذلك أن يرجع إلى كتب الشمائل، فقد اشتملت من ذلك على جملة صالحة. ولقد كان من اليسير على النبي لو أراد أن يعيش كما يعيش الأغنياء والمترفون، لكنه آثر الآخرة على الدنيا لعلمه بحقيقة الدنيا، ولذلك لما اشتكت إليه زوجاته، رضي الله عنهن، شظف العيش الذي هن فيه وسألنه النفقة، آلى منهن شهرا لشدة موجدته عليهن، ونزل في ذلك قرآن يتلى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 28-29)[68]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا[69]“، قال ابن بطال: “فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة وإيثارا لما يبقى على ما يفنى فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك[70]“. وهذه هي الحكمة الجليلة التي فاتت الدكتور حسين مؤنس!

4. حديث أن النبي مات ودرعه مرهونة عند يهودي

وهذا الحديث أيضا مما أنكره حسين مؤنس في كتابه المذكور، وعلل ذلك بأن “رسول الله عاش عمره كله قبل النبوة وبعدها ميسور الحال من كسبه أو عمله أو مما أفاء الله عليه من المال الحلال، وكيف يعقل أن رسول الله يرهن درعه وهو المحارب الباسل؟ ولا يجوز للفارس أن يرهن درعه قط. ثم يبالغون في ذلك فيقولون: إن الدرع كانت مرهونة عند يهودي، ومثل هذا الكلام فيه إساءة ومساس إلى المصطفى، ولهذا فنحن لا نقبله ونرفضه من موقع الإيمان والحب للرسول[71]“.

والحديث الذي رده الكاتب خرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة قالت: “توفي النبي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين يعني صاعا من شعير[72]“. ولم يكن الكاتب بدعا في رد هذا الحديث فقد سبقه إلى ذلك أقوام “قالوا رويتم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير. فيا سبحان الله أما كان في المسلمين مواس ولا مؤثر ولا مقرض وقد أكثر الله، عز وجل، الخير وفتح عليهم البلاد.. وهذا كذب وقائله أراد مدحة النبي، صلى الله عليه وسلم، بالزهد وبالفقر وليس هكذا تمدح الرسل. قال ابن قتيبة ردا عليهم: “ونحن نقول إنه ليس في هذا ما يستعظم بل ما ينكر لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلا ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرا ولا يضع درهما فوق درهم.. وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم، وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس، ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء فلا ينشط فيه إلى ولده ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد، وإنما رهن درعه عند يهودي لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار، فما الذي أنكروه من هذا حتى أظهروا التعجب منه وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله[73]“.

5. حديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أغار على بني المصطلق وهم غارون

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين[74]، لكن الشيخ الغزالي رد هذا الحديث بدعوى أنه يشعر بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، باغت القوم على غرة وهذا أمر مستنكر في سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واطمأن الكاتب إلى رواية ابن جرير على ضعفها لأنها تتفق مع قواعد الإسلام أنه لا عدوان إلا على الظالمين، وأول حديث الصحيحين على أنه مرحلة ثانية من مراحل الإسلام[75]. واعتراض الشيخ لا يسلم له، ذلك أن كتب الحديث بحكم عدم تخصصها لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة، بل تقتصر على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث وينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة[76]. وكتب السيرة توضح أنه أنذر بني المصطلق، فلو اقتصرنا على رواية الصحيحين دون أن نتبين حكم الإسلام في إنذار العدو لوقعنا في خطأ ولبس. والشيخ الغزالي نفسه يقول: “إن الحكم الديني لا يؤخذ من حديث واحد مفصول عن غيره وإنما يضم الحديث إلى الحديث ثم نقارن الأحاديث بما دل عليه القرآن الكريم[77]“. فكيف فاته ذلك هاهنا؟ ورواية مسلم تدل على أن الغارة على بني المصطلق وقعت دون إنذار لأنهم ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وقد كانوا يعتبرون في حرب مع المسلمين منذ اشتراكهم مع قريش في غزوة أحد، كما كانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين[78]، فقد أخرج في صحيحه من حديث ابن عون قال: “كتبت إلى نافع أسأله الدعاء قبل القتال؛ أي دعوة الناس إلى الإسلام، قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ، قال يحيى، أحسبه قال جويري[79]“. ويوضح ابن إسحاق سبب الغزوة فيقول رواية عن شيوخه: “بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرة بنت الحارث زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهم، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه[80]“. وذكر ابن سعد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه ذلك “بعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، فاستأذنه أن يقول فأذن له، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، فوجدهم قد جمعوا الجموع، قالوا من الرجل؟ قال: منكم، قد بلغني من جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يدا واحدة حتى نستأصله، قال الحارث: فنحن على ذلك فعجل علينا، فقال بريدة: أركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك ورجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرهم فندب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الناس وخرج مسرعا[81]“.

وتؤكد هاتان الروايتان ما سبق، من أن بني المصطلق قد بيتوا العدوان على النبي، صلى الله عليه وسلم، فكانت المباغتة ردا للعدوان. ومثلهم في ذلك مثل الأحزاب الذين قصدوا القضاء عليه، والفرق أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استطاع أخذ زمام المبادرة قبل وصول بني المصطلق إلى المدينة، فهل كان يوم الأحزاب بحاجة إلى دعوة القوم وقد جاءوا للقضاء عليه؟![82].

ثالثا: إنكار المعجزات والتشكيك فيها والتعسف في تأويلها[83]

وهذا ميدان زلت فيه أقدام كثير ممن كتب في السيرة النبوية في هذا العصر، وكان من أبرز من تولى كبر ذلك رواد المدرسة العقلية الحديثة، أو ما يمكن تسميته بالاتجاه التوفيقي في كتابة السيرة النبوية، وهو الاتجاه الذي حاول التوفيق بين معطيات الدين الإسلامي ومعطيات الحضارة الغربية الحديثة. ولقد كانت مسألة المعجزات من أكثر قضايا السيرة النبوية التي برز فيها هذا الاتجاه، تارة بإنكارها وعدم ذكرها أصلا، وتارة بالتشكيك فيها، وتارة أخرى بتأويلها حتى تصبح من قبيل المألوف. فالطير الأبابيل تؤول بالجراثيم والملائكة التي أمد الله تعالى بها المؤمنين في غزوة بدر تفسر بالمدد المعنوي، ورحلة الإسراء والمعراج تؤول بوحدة الوجود وسياحة الروح، بل إن بعضهم أول المعجزات النبوية كلها على أنها ضرب من الحظ الذي رافق النبي! واعتبر هؤلاء القرآن الكريم المعجزة الوحيدة والقطيعة التي تثبت نبوة محمد، وحتى هذا الاعتبار من هؤلاء فيه نظر، إذ حتى المعجزات والغيبيات التي أوردها القرآن الكريم؛ كالإسراء والمعراج ومدد الملائكة يوم بدر أعملوا فيها التأويل العقلي حتى توافق المألوف، وتساير العقلية الغربية، فهذا الشيخ رشيد رضا وهو من تلاميذ الشيخ محمد عبده ومن رواد هذه المدرسة يرى أنه لولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام لكان إقبال الأحرار عليه أكثر واهتداؤهم به أعم وأسرع! ويرى كذلك أن العجائب الكونية والمقصود بها المعجزات النبوية هي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها، إضافة إلى أنها من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر![84].

وكأن الشيخ يريد من القرآن الكريم أن يجامل أحرار الإفرنج هؤلاء فيذكر ما يرضون ويعرض عما لا تستسيغه عقولهم، حتى ينقادوا لدين الإسلام، والله عز وجل يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ (المؤمنون: 71).

وقد سرت عدوى هذا الإنكار والتعسف في التأويل إلى كثير ممن كتبوا في السيرة النبوية من المحدثين[85]، منهم الشيخ عبد الحليم محمود الذي ترجم كتاب (محمد رسول الله)، للفرنسي المسلم إتين دينيه، وعلق على بعض كلامه قائلا: “على أن بعض المعجزات التي تنسب إلى محمد ليست من نصوص القرآن، وإنما قد نسبها إليه مؤرخو العصور المتأخرة تقليدا للمعجزات التي تنسب إلى المسيح، فهي ليست من الدين في شيء![86]“.

ومنهم عبد المنعم ماجد الذي كتب يقول: “لكن محمدا لم يرض أن ينسب إليه معجزة غير معجزة نزول الوحي عليه من قبل الله فكان يرد عليهم بقوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ (الإسراء: 93)، ومع ذلك لم يحل رفض النبي الإتيان بالمعجزات من أن ينسب إليه صفات خارقة، فبعضهم يؤكد أنه حين ولادته خرج نور أضاء الشام، وأنه وهو صغير شقت الملائكة بطنه وغسلوا قلبه بالثلج.. وأيضا فسروا سورة الإسراء بأن الله رفعه إلى السماء، وأنه قطع رحلة سماوية في بضع ساعات من الليل[87].

ولعل أبرز من يمثل هذا الاتجاه الدكتور هيكل في كتابه (حياة محمد)، وحين صدور هذا الكتاب انبرى الشيخ مصطفى المراغي للثناء عليه والإشادة بالطريقة العلمية التي سار عليها، هذه الطريقة التي تستبعد كل ما أوردته كتب الحديث والسيرة من معجزات، وإنما هو القرآن والقرآن فقط.

ومما جاء في تقديم المراغي قوله: “ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية، وما أبدع قول البوصيري:

لم يمتحنا بما تعيا العقول به        حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم[88]

ونسي الشيخ أو تناسى أن يقف عند كثير من المعجزات التي أشار إليها البوصيري في القصيدة نفسها مثل قوله:

جاءت لدعوته الأشجار ساجدة             تمشي إليه على ساق بلا قدم

وممن وقف مدافعا عن هيكل أيضا الشيخ رشيد رضا الذي يقول: “أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله على ثبوت نبوة محمد بالذات ونبوة غيره من الأنبياء، وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علماءه لا حجة، لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل![89]“.

والعجيب حقا هذا الفصل الذي يقيمه المراغي ورشيد رضا وهيكل وغيرهم بين معجزة القرآن والمعجزات الأخرى، “إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوي النفس ويتفق مع الغرض إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم لا يقدم عليه من كان كريما على نفسه معتزا بعقله[90]“.

وممن سار في ركاب هيكل محمد جميل بيهم في كتابه (تاريخ فلسفة محمد)، وتحت عنوان (هل قام الإسلام على المعجزات)، يقول: “الواقع أن ثقات العلماء من المسلمين كابن رشد في كتابه (مناهج الأدلة) أجمعوا على أن محمدا كان في دعوته إنما يعتمد على الإقناع والإيمان، وكان كما وصفه حسين هيكل في كتابه حياة محمد حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن! وأنكر هؤلاء الثقات على أمثال البيهقي وأبي نعيم والقاضي عياض تكديسهم المعجزات فيما وضعوه من أسفار.. وكان استناد هؤلاء الثقات يقتصر على القرآن الذي بين أيدينا وعلى الحديث الصحيح، وهما وحدهما المرجع في هذا الشأن والحكم[91]“.

وليت هؤلاء والكاتب منهم، يصدقون في هذه الدعوى، فقد تضمن القرآن الكريم الإشارة إلى بعض المعجزات، كالإسراء وانشقاق القمر والإخبار بالمغيبات، وحفلت كتب الصحاح وعلى رأسها البخاري ومسلم بالأحاديث الوفيرة عن معجزاته، فإذا كان القرآن الكريم والحديث الصحيح هما حقا مرجع هؤلاء الثقات في هذا الشأن فلا سبيل إلى إنكار ما ورد فيها من معجزات أو التعسف في تأويلها بما لا يقبله الشرع. وهل صحيح ما ادعاه الكاتب أن الرسول كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة؟ إذن لكان نهى أصحابه عن رواية الأحاديث التي تشير إلى ذلك، ولوصلنا ذلك النهي، كما وصلتنا نواهيه الأخرى، ولما وصلتنا تلك المعجزات إطلاقا، فلما لم يصلنا من ذلك النهي شيء ووصلنا من معجزاته الشيء الكثير، تبين لكل عاقل أن كلام هيكل الذي تبناه الكاتب مجرد دعوى لا تستند إلى دليل.

أما هؤلاء الذين ذكرهم الكاتب وأنكر عليهم تكديس المعجزات فيما وضعوه من أسفار كأبي نعيم والبيهقي والقاضي عياض فهم علماء ثقات مشهود لهم بالعلم والعدالة، وإذا كانت كتبهم التي ألفوها في دلائل النبوة قد شابها الضعيف والموضوع، فإن الصحيح فيها هو الغالب، والمنطق السليم يقضي بأن نميز هذا عن ذاك، لا أن نلغي الكل جملة وتفصيلا.

ولقد حاول الكاتب وضع السيرة النبوية بأسلوب يعتمد على النواميس الطبيعية التي تربط الأسباب بالمسببات وترتب النتائج على المقدمات، وأرجع نجاح دعوة محمد إلى أسباب تتصل بهذه النواميس، لكن ما ينتقد عليه أنه اتخذ هذه النواميس تكأة لإنكار المعجزات، وأغفل أسبابا أخرى تتصل بعالم الغيب كان لها أثر حاسم في هذا النجاح، فهناك عناية الله تعالى ورعايته ونصره الذي يتنزل، وجنوده التي لا ترى.. في الهجرة مثلا اتخذ النبي جميع الاحتياطات الممكنة لتأمين هذه الرحلة المباركة، وتربص المشركون بالرسول ليقتلوه، فخرج من بينهم وقد أعمى الله أبصارهم فلم يروه، وفي الغار هو وصاحبه أبو بكر وقد وقف المشركون على حافته حتى لو أبصر أحدهم موضع قدميه لرآهما، لكنها العناية الإلهية تحوط نبيه الكريم وصاحبه. وفي طريقهما إلى المدينة يطاردهما سراقة فتتدخل العناية الإلهية مرة أخرى، وتغوص قوائم فرسه في الرمال.. وما أكثر الأمثلة في السيرة النبوية التي تبرز فيها هذه الحقيقة واضحة للعيان، ولا يردها إلا معاند مكابر. وكم مرة حاول الكفار قتله واغتياله، وكانت عين الله تحوطه وترعاه، أليس قد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67).

ثم إن الكاتب انفرد برأي لعله لم يسبق إليه، ولم أجد من تابعه فيه من الكاتبين المعاصرين، حيث اعتبر المعجزات التي أكرم الله تعالى بها نبيه الكريم مجرد حظ كان يرافق النبي! يقول: “كان محمد من المحظوظين الذين رافقهم حسن الطالع، فبالإضافة على العناصر الكثيرة الخارجية والداخلية التي خدمته، فقد عرضت في حياته حوادث متعددة رافقها الحظ عفوا على غير انتظار، وكان الحظ وسيلة لسلامته، وكان أيضا وسيلة لخروجه منها منتصرا[92]“. وساق الكاتب أمثلة لهذه الدعوى منها يوم لجأ النبي وأبو بكر على غار ثور، يقول: “وهكذا فإن محمدا وصاحبه ما كانا يسلمان من الغدر لولا أن الحظ أو القدر إن شئت أن تقول، صرف هؤلاء الفتيان عنهما، وحول رائدهم عن دخول الغار”. وبعد ذكره بعض محاولات اغتيال النبي عقب قائلا: “ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل لأن الحظ كان يرافقه:

وإذا العناية لاحظتك عيونها           نم فالمخاوف كلهن أمان[93]

فانظر كيف يتهرب الكاتب من تسمية هذا الذي يحدث معجزة ليسميه حظا، والبيت الذي استشهد به لا يسعفه، إذ مقصود قائله العناية الإلهية، والتي تمثل المعجزات أحد مظاهرها الكبرى.

وأغرب من هذا أن طه حسين يطلع علينا بتعريف غريب للمعجزة لم يسبق إليه، يقول عن معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم: “..ثم لا يخلو أمره من هذه المعجزات التي تبهر العقول وتسحر الألباب دون أن تحدث في طبيعة الأشياء حدثا أو تتجاوز بعادات الناس الجارية طريقها المألوف![94]“. ولا أدري كيف وفق الكاتب بين كون الأمر معجزة أي خارقا للعادة وبين كونه لا يحدث في طبيعة الأشياء حدثا أو يخرج عادات الناس عن المألوف! إن هذا الكلام هو التناقض بعينه.

وممن نحا هذا المنحى أيضا محمد عزة دروزة في كتابه (سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم)، فهو لا يسلم بصحة المعجزات المروية في مصادر السيرة خاصة تلك التي وقعت في مكة بناء على تحدي الكفار، وحجته في ذلك (سكوت القرآن عنها مع فترة تحدي الكفار، واقتصار الأجوبة القرآنية على السلب، هذا إلى أن الروايات غير متواترة ولا وثيقة، وكثير منها إن لم نقل أكثرها لم ترد في المدونات القديمة إلى ما فيها من تخالف كبير في الوقت نفسه![95]).

والعجيب كيف يدعي الكاتب أن هذه المعجزات غير متواترة، وكيف يفهم التواتر، وقد وقع أكثرها في محافل المسلمين وجموعهم ورواها الجماء الغفير، وتواترت رواياتها في كتب الحديث وفي مقدمتها الصحيحان، وأجمعت عليها كتب السيرة؟

ثم إن الكاتب قد سبق له الطعن في مدونات السيرة القديمة، فكيف اطمأن إليها الآن في تأييد رأيه بدعوى أن أكثر هذه المعجزات لم يرد في هذه المدونات! مع أن واقع هذه المدونات واشتمالها على أكثر المعجزات النبوية مفصح بخلاف ما قاله. وإن إسناد دروزة للموقف السلبي للقرآن إزاء تحدي الكفار في إنكار كثير من المعجزات لا يسلم له، فالقرآن الكريم صريح في تعليل ذلك، قال عز وجل: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ (الإسراء: 59)، فلا معنى لإجابة قوم ديدنهم التكذيب والعناد لا التصديق والإيمان.

وممن سار في هذا المسار أيضا محمود عباس العقاد في كتابه (عبقرية محمد)، يقول: “إنما نجحت دعوة محمد لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعية تهيأت له بعناية ربه وموافقة أحواله وصفاته، فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شيء لمن أحب أن يفهم وهي أقوم شيء سبيلا لمن استقام[96]“.

والذي جعل العقاد يركب هذا المركب أنه أراد أن يجلو صور العظمة كما يفهمها البشر، وتوجه بكتابه لا للمؤمنين برسالة محمد فحسب؛ بل وأيضا لغير المؤمنين بها، ولذلك جاء كتابه خلوا من كل أثر للمعجزات. وإذا كان العقاد قد وفق في إبراز جوانب العظمة والعبقرية وملكة التخطيط والتنظيم في شؤون الحرب عند النبي، فإنه أخطأ حين جعل العامل الأساس في ذلك امتيازه الذاتي ومواهبه الفطرية، وتغافل عن عوامل أخرى تتصل بعالم الغيب “فهناك وعد الله ورعايته وتوفيقه وملائكته المقاتلون والنعاس الذي يغشيه الناس أمنة والمطر الذي يطهرهم والرياح التي تقتلع خيام المشركين وتثبيته لأفئدة المقاتلين وقذفه الرعب في قلوب الكافرين وقدره النافذ، مائة عامل وعامل هيأت أسباب النصر فكانت الغلبة لجند الإيمان جند الله[97]“.

وقس على هذا سائر جوانب العبقرية الأخرى التي تحدث عنها العقاد، فقد اكتفى بذكر الأسباب المادية وأظهره مجرد إنسان يعمل بمواهبه النامية وملكاته المتفتحة وأغفل ذكر الأسباب الغيبية التي شكلت مكونا رئيسيا في حياته، صلى الله عليه وسلم.

وقد أعجب الشيخ مصطفى صبري بكتاب العقاد في بعض مباحثه، لكنه عارضه لكونه من دعاة العبقرية ومروجيها بدل النبوة ومعجزاتها. إلا أن مؤلفه في نظر الشيخ مصطفى صبري لم يتورط في السخافات التي تورط فيها غيره من دعاة العبقرية ومنكري المعجزات أمثال زكي مبارك وفريد وجدي ومحمد حسين هيكل والشيخ شلتوت[98].

وحتى يتجلى موقف هؤلاء واضحا من مسألة المعجزات، أسوق هاهنا أمثلة على ذلك، وقسمتها إلى معجزات قبل النبوة وأخرى بعدها:

1. معجزات قبل النبوة

أ. معجزة الطير الأبابيل

وهي معجزة ثابتة بنص القرآن، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ (الفيل: 1-5).

في تفسيره لهذه السورة جوز الشيخ محمد عبده أن تكون الطير الأبابيل هي ما يسمى اليوم بالميكروبات، كما جوز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض، وذلك حتى يجعلها أمرا مألوفا تستسيغه أذهان من لا يؤمنون بالخوارق. وزاد فادعى أن ذلك مما اتفقت عليه الروايات ويصح الاعتقاد به، يقول: “وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبشي داء الجدري والحصبة، قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر في بلاد العرب، وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام.. هذا ما اتفقت عليه الروايات ويصح الاعتقاد به.. فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض وأن تكون هذه الحجارة من الطين اليابس الذي تحمله الريح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وإن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنه، وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها. هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بالتأويل إن صحت روايته[99]“.

وما زعمه الإمام في كون الروايات اتفقت على ما ذكر غريب في باب العلم وعجيب في تفسير القرآن، بل الروايات مختلفة في ذلك، وكذا أمر الجدري لم تتفق الروايات على وقوعه في جيش أبرهة، بل لم تشر أي رواية إشارة صريحة إلى وقوعه فيهم إلا رواية عكرمة. ثم إن القضية ليست وقوع الجدري في جيش أبرهة أو عدم وقوعه، فهذا أمر لم يشر إليه القرآن لا بإثبات ولا نفي، بل القضية هي تأويل الطير على أنه البعوض أو الذباب، وتأويل الحجارة من سجيل بالجراثيم[100]، والحال أن السورة صريحة بإرسال الطير، وهي مكية، والمخاطبون بها، وفيهم كثير من أعداء الرسول، رأوا هذه الطيور، ولو لم يروها لبادروا إلى تكذيب القرآن، (ولا يقبل أن يقال إنهم رأوا المكروب أو الجراثيم لأنهم لا يستطيعون رؤيتها، ولا يقال إنهم رأوا الذباب أو البعوض لأنهم لا يرون الحجارة التي تحملها فكان لابد أن يكونوا رأوا طيرا ورأوا الحجارة التي تحملها، ورأوا الرمي، ولا يهم بعد ذلك أن يكون هلاك الجيش بمجرد وقوع الحجر أو أن تكون هذه الحجارة قد أصابته بمرض من الأمراض، فالقرآن لم يصرح بذلك، بل ذكر هلاكهم بهذا العقاب الشديد[101]“.

هذا فضلا عن أن هذه الجراثيم لا علم للعرب بها وقت نزول القرآن، بل هي من مكتشفات الطب الحديث، و(العربي إذا سمع لفظ الحجارة في هذه السورة “الفيل” لا ينصرف ذهنه على تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب وخاطبهم بما يعهدون ويألفون[102]).

وقد وافق العقاد الشيخ محمد عبده في رأيه لكن على سبيل الجواز لا على سبيل الجزم قائلا: “فإذا قال المفسر إن هزيمة أصحاب الفيل ربما كانت من فعل هذه الجراثيم، فذلك قول مأمون على سبيل الجواز والترجيح، ولكنه غير مأمون على الجزم والتوكيد. لأن الحفريات التاريخية قد تكشف لنا غدا عن حجارة من سجيل أصيب بها أصحاب الفيل فجعلتهم كعصف مأكول[103]“.

وإلى نحو هذا التأويل الذي ذكره الشيخ محمد عبده ذهب الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره[104]، وقال محمد فريد وجدي: “ولا يبعد أن تكون تلك الطيور ميكروبات الطاعون إذ لا مانع من تسميتها طيورا[105]“.

وأما الدكتور هيكل فقال: “..كان وباء الجدري قد تفشى بالجيش وبدأ يفتك به، وكان فتكه ذريعا لم يعهد من قبل قط، ولعل جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر![106]“. والغريب أن هيكل الذي يتكلف هذا التأويل الغريب يأتي بعد ذلك فيسوق سورة الفيل التي تؤرخ لهذا الحدث المعجزة، وهي صريحة في أن هلاك أبرهة وجيشه كان بفعل الطير التي تحمل حجارة من سجيل، فكيف يعدل عن صريح السورة إلى تأويل هذه المعجزة بجراثيم الوباء التي ربما جاءت مع الريح من ناحية البحر!

وممن نحا هذا المنحى أيضا الدكتور جواد علي في كتابه (تاريخ العرب في الإسلام “السيرة النبوية”)[107]. حيث عزا هزيمة الأحباش إلى انتشار وباء خبيث فتك فيهم وأهلك أكثرهم. والغريب أن هذا الذي تبناه الكاتب هو نفسه داخل في جملة ما عابه على من يفسر القرآن بالأهواء أي ما يطلقون عليه الطريقة العصرية للموافقة بينه وبين العلم الحديث.

ب. معجزة شق الصدر

وقد صح بها الحديث، أخرج الإمام مسلم من حديث أنس (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتاه جبريل، عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره[108]“.

لكن هذه المعجزة لم تصح عند نفر من كتاب السيرة في العصر الحديث أمثال طه حسين وهيكل. يقول طه حسين: (وأي بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن نفرا من الملائكة أقبلوا إلى النبي وهو يلعب فأضجعوه وشقوا عن قلبه وغسلوه حتى طهروه ثم ردوه كما كان، وأقاموه كأنه لم يصبه مكروه؟ لم يصح الحديث بهذا! ولكن المسلمين يتحدثون به ويستمعون له منذ أكثر من اثني عشر قرنا لم يفسد لذلك ذوقهم ولم يضعف إيمانهم[109]).

وأما هيكل فساق هذه القصة، وذكر احتياط ابن إسحاق والطبري في روايتها، ثم شكك في صحتها ورآها ضعيفة السند، اعتمادا على المستشرقين، وذكر منهم سير وليم موير ودرمنجم، ثم برر مواقفهم قائلا: “وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق، وهم يجدون في هذا من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربي كل ما لا يدخل في معروف العقل ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دع إليه القرآن من النظر في خلق الله، وأن سنة الله لن تجد لها تبديلا[110]“. وليس غريبا أن ينكر هيكل هذه المعجزة، لكن الغريب حقا أن يعتمد على ابن إسحاق والطبري في التشكيك فيها، وهو الذي أعلن من قبل تشكيكه في كتب الحديث والسيرة، وأغرب من ذلك اعتماده على المستشرقين في رد هذه المعجزة، مع أنها مروية في الصحاح وغيرها من كتب الحديث. وكم كان الدكتور حسين مؤنس موفقا في إثبات هذه المعجزة، على خلاف كثير من المحدثين الذين أنكروا المعجزات وظنوا ذلك حصافة ونفاذ فكر، قال: (ولم يعجبنا أن يتعالم بعض المحدثين ممن ظنوا أن إنكار حادثة شق الصدر حصافة ونفاذ فكر. ونقول لهؤلاء: يا قوم ما دمتم قد سلمتم بأن رسول الله نبي الله الذي اصطفاه ربه ليوحي إليه قرآنه ليبينه للناس ويفتح به للإنسانية عصرا جديدا، فما معنى إنكارهم لشق الصدر وحنين الجذع؟ أليس هذا من ذاك؟ وإذا لم يدخل دماغك شق الصدر لأنه خارج عن المعهود، فكيف يدخل دماغك وحي الله لرسوله في الغار بقرآن عربي مبين، وهو أيضا خارج عن المعهود[111]؟!).

ج. معجزة تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم

وإنكاره هذه المعجزة من المزالق التي وقع فيها الدكتور حسين مؤنس، وعلل ذلك بأن الشجر والحجر إذا كان يناديه قبل مشهد الغار أنه رسول الله فما معنى فزعه وخوفه على نفسه بعد أن نزل عليه الملك أول مرة؟ وخطأ ابن إسحاق في الخبر الذي ساقه بخصوص ذلك[112]. وقد فات الكاتب أن الخبر رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، “إنني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن[113]“.

2. معجزات بعد النبوة

أ. معجزة الإسراء والمعراج

وهي معجزة ثابتة بنص القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، لكن نفرا من الكاتبين المحدثين أنكروها على حقيقتها، وتأولوها على أنها رؤيا منام ليس إلا! من هؤلاء الشيخ محمد الخضري في كتابه (محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية)، حيث مال إلى القول بأن الإسراء كان رؤيا صادقة وكان بالروح لا بالجسد، يقول: (وإطلاع نبيه في النوم على ما يريد إطلاعه عليه لا يختلف شيئا عن إطلاعه إياه في يقظته، لأن رؤيا الأنبياء حق تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلا يمنع هؤلاء من رأيهم إضافة الإسراء إلى عبده، والروح إذا جلي لها المسجد الأقصى تتمكن من رؤيته ومعرفة تفاصيله ومشاهدة آيات عجائبه أكثر من الرؤية العينية ليلا[114]).

والغريب أن هذا الموقف الذي تبناه الشيخ مخالف لما سطره من قبل في كتابه السابق (نور اليقين) حيث ذكر قول جمهور أهل السنة من أن الإسراء كان بجسمه الشريف، وساق حديث أنس عند الشيخين الدال على ذلك[115]. بل ورد على الذين ينكرون المعجزات، فقال بعد سياق معجزة شق الصدر: “وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر لا يعرف من قوة الله شيئا، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب[116]“.

ولعل السبب في هذا الاختلاف أن الشيخ ألف كتابه (نور اليقين) في المنصورة ولم تكن علاقته قد توطدت مع الإصلاحيين، ولذا أورد عددا من المعجزات كشق الصدر والإسراء وانشقاق القمر.. بل وأورد جملة منها في آخر كتابه. أما كتابه (محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية) فقد ألفه عندما انتقل إلى القاهرة وأصبح مدرسا للتاريخ الإسلامي، وتوثقت صلاته بالشيخ محمد عبده وغيره من رواد المدرسة الإصلاحية، ومن ثم لم يشر فيه إلى عدد من المعجزات النبوية كحادث الفيل وشق الصدر ومعجزات الهجرة[117].

وأما زعم الكاتب بأن الإسراء كان بروح لا بالجسد فهو مخالف لما عليه جمهور السلف والخلف من أن الإسراء كان ببدنه وروحه، صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض بعد أن ساق مقالات أهل العلم في ذلك: “والحق من هذا والصحيح إن شاء الله تعالى أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال (بروح عبده) ولم يقل (بعبده) وقوله تعالى (وما زاغ البصر وما طغى). ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ولا ارتد به الضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته[118]).

ثم إن ظاهر السياقات يدل على ذلك من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك، ولهذا قال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ (الإسراء: 1). والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة، فدل على أنه بالروح والجسد، والعبد عبارة عنهما[119].

أما هيكل فساق هذه القصة من رواية المستشرق درمنغم كما قال، والذي استخلصها من كتب السيرة، وكان المفروض والذي يحتمه المنهج العلمي أن يرجع إلى كتب الحديث والسيرة التي تروي هذه الحادثة لا إلى كتب المتشرقين، لكنه لا يطمئن على تلك الكتب إلا بقدر ما ينقل عنها هؤلاء، وهذا عجيب في ميدان البحث العلمي وغريب، بل يطالعنا الدكتور هيكل برأي غريب وتساءل هل سبق إليه أم لا، وخلاصته أن في الإسراء والمعراج تحققت وحدة الوجود في شخص محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول: “فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها… تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد واجتمع الكون كله في روحه فوعاه منذ أزله إلى أبده، والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سموا وجلالا وجمالا، فهو تصوير قوي للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده[120]).

واضح أن هيكل تأول هذه المعجزة على أنها إسراء بالروح فحسب، ولو وقف عند هذا الحد لهان الأمر، لكن أن يتأولها بوحدة الوجود فهذا غاية الضلال ومنتهى الخبال. يقول الشيخ مصطفى صبري: “وإني جد متعجب من أن كاتبا كبيرا في طليعة الأدباء والعقلاء في مصر مثل الدكتور هيكل باشا يأبى عقله أن يؤمن بمعجزات أنبياء الله الكونية فينكرها، في حين أنه يقبل خرافة الوجود المستحيلة حتى يفسر بها معجزة الإسراء، ومعناه أنه لا يؤمن بالمعجزة حالة كونها ممكنة، ويؤمن بها عند تصويرها في صورة المحال[121]“.

قلت: وهذا غاية الجهل والضلال وطمس البصيرة، ولو كان هيكل يحترم عقله ويلتزم المنهج العلمي كما يدعي، لما سمح لنفسه أن يذهب في تأويل هذه المعجزة الباهرة هذا المذهب البعيد، ويفتخر بذلك ويتساءل هل سبق إليه أم لا، بل حتى منطق العلم الذي يدعي هيكل أنه لا يقر المعجزات، أصبح اليوم يؤكد هذه الحقيقة، حقيقة الإسراء والمعراج بعد غزو الفضاء وتفتيت الذرة وتحويل المادة إلى طاقة وتحويل الطاقة إلى مادة[122]، علما بأن هذه المعجزات لا تتوقف صحتها على ما تتمخض عنه الاكتشافات العلمية الحديثة، وإنما المقياس المعتبر في ذلك أن تصلنا عن طريق صحيح، أما هذه الاكتشافات فتأتي لتؤكد الحقائق الدينية لا لتثبتها من الأصل. وإذا كنا نسلم اليوم بارتياد الإنسان للفضاء مع ضعفه وجهله وقصوره، فكيف نستبعد على الله عز وجل العليم القدير أن يسري بنبيه محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويعرج به إلى السماوات العلى؟ إن التسليم بالأول واستبعاد الثاني دليل على جهل الإنسان بربه، وعدم إدراكه لطلاقة القدرة الإلهية ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر: 67).

ب. معجزة انشقاق القمر

وهي معجزة ثابتة بنص القرآن، وبالأحاديث الصحيحة، أما القرآن فقوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر: 1). وأما الأحاديث فقد صحت عند الشيخين من حديث عبد الله بن مسعود[123] وأنس بن مالك[124] وعبد الله بن عباس[125]، ومن حديث عبد الله بن عمر عند مسلم والترمذي[126]، وغيرهم.

وقد أنكر هذه المعجزة جمهور الفلاسفة قديما ومتمسكهم أن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الخرق والالتئام، وهو جهل منهم بقدرة الله عز وجل في هذا الكون، ومطلق تصرفه في مخلوقاته، قال الزجاج في معاني القرآن: “أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه[127]“.

وحديثا أنكر بعض رواد المدرسة العقلية الحديثة هذه المعجزة جريا على نهجهم في إنكار المعجزات، وفي مقدمتهم رشيد رضا الذي شكك في تواتر روايات هذه الحادثة، واعتبر القول به زعما باطلا، وأنه لو وقع لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر لشدة غرابته، ولنقله جميع من شاهده[128]. ورد رواية الشيخين لها بدعوى أن حديث أنس وابن عباس من مراسيل الصحابة، وأن حديث ابن عمر ليس فيه أنه حدث عن رؤية، ثم لاختلاف هذه الروايات وتعذر الجمع بينها[129]، فضلا عما فيها من خبر بوقوع تغير في النظام الكوني العام، وهو ما لا يصدق إلا بخبر قطعي ثابت[130]. كما أن الموقف القرآني من عدم إجابة الكفار على ما طالبوا به من الآيات يرد حديث أنس الذي فيه أن هذه المعجزة وقعت جوابا على سؤال المشركين[131].

هذه جملة الدعاوى التي استند إليها رشيد رضا لإنكار هذه المعجزة، وشاركه القول في عدم تواترها الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره، وزعم أنه ما ادعى أحد من المسلمين تواترها إلا من شذ! وقال: “إن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلغ حدا لا يمكن أحدا أن ينكره[132]“.

أما تواتر هذه المعجزة الباهرة فهذا مما قد قال به جماهير العلماء قديما وحديثا، قال القاضي عياض: “أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه[133]“.وقال ابن كثير: “وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة[134]“. وقال عنه أيضا: “وهذا متواتر عنه عند أهل العلم بالأخبار، وقد رواه غير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم[135]. وممن نص على تواتره من المتأخرين الشوكاني[136] ومحمد بن جعفر الكتاني[137] فكيف يكون القول بتواتره زعما باطلا كما يدعي رشيد رضا؟ ألا إن ما زعمه هو الباطل حقا. وكيف يزعم الشيخ المراغي أنه ما ادعى أحد من المسلمين تواترها إلا من شذ. ألا إن قوله هذا هو الشذوذ بعينه!

وأما ما استندوا إليه لنفي تواتره بأنه لو وقع لرآه من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلغ حدا لا يمكن أحدا أن ينكره، ولنقله جميع من شاهده، فقد أحسن في الرد على ذلك ثلة من العلماء، وأحكموا الاستدلال له، منهم أبو إسحاق الزجاج في كتابه (معاني القرآن) قال: “أما قول بعضهم لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم[138]“. وبنحوه قال القاضي عياض، وزاد: “وكثيرا ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار ونجوم وطوالع عظام تظهر في الأحيان بالليل في السماء ولا علم عند أحد بها[139]“.

وأما رد رواياته بدعوى أنها من مراسيل الصحابة، وأن رواتها لم تحصل لهم رؤية هذا الانشقاق باستثناء عبد الله بن مسعود فليس على إطلاقه، لأن من رواته جبير بن مطعم[140] وحذيفة بن اليمان[141]، وقد حصلت لهم المشاهدة كما حصلت لعبد الله بن مسعود[142].

وأما الدعوى بأن هذا مما لا يصدق إلا بخبر قطعي ثابت إذ فيه خبرا بوقوع تغيير في النظام الكوني العام، فأي خبر أقطع من القرآن وقد أخبر بوقوعه؟ وتواترت على ذلك الأحاديث عند الشيخين وغيرهما. وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا. ألا يكفي هذا كله لإفادة القطع واليقين؟!

وممن أنكر أيضا هذه المعجزة الباهرة الشيخ دروزة، ومستنده في ذلك الموقف السلبي للقرآن إزاء تحدي الكفار؛ أي عدم إجابة القرآن مطالبة الكفار بالآيات. ورد ما رواه كثير من المفسرين من أن هذه المعجزة وقعت جوابا على تحدي الكفار كما رد ما ذهب إليه جمهورهم من كون الآيات الأولى من سورة القمر تشير على هذه المعجزة، ورأى هذا القول موضع نظر لأمرين: لكون السورة من المبكرات الأولى للنزول، وثانيا لم يحك في السور النازلة قبلها عن الكفار تحد وطلب بإتيان معجزة. ورجح ما ذهب إليه بعض المفسرين من حمل قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر: 1) على معنى أنه مقترب، أي أنه من أشراط الساعة، واعتبر هذا المذهب وجيها وينسجم مع الموقف السلبي للقرآن الكريم[143].

أما دعوى أن الانشقاق ما كان جوابا على سؤال المشركين فباطلة، والمعتمد ما في الصحيح، أخرج البخاري من حديث أنس بن مالك “أن أهل مكة سألوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما[144]“. والحديث صريح في أن انشقاق القمر كان جوابا على تحدي الكفار. قال ابن حجر: “ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس فلعله سمعه من النبي، صلى الله عليه وسلم[145].

وأما ما رجحه دروزة من حمل بعض المفسرين الآية على أنه من أشراط الساعة، فمرجوح، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من وقوع الانشقاق حقيقة على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، بدليل ما بعده من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ (القمر: 2). فإنه ظاهر في أن المراد بقوله تعالى: (انشق القمر) وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإنما قالوه في الدنيا بعد وقوعه إعراضا عن الآية وزعما منهم بأنها سحر[146].

يقول الشوكاني: “والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ واستيعاب من استبعد[147]“. ويقول الشيخ مصطفى صبري: “لو لم ينشق القمر في عصر نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، ولم يشاهده أعداؤه المشركون في مكة لكذبوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية وصار تكذيبهم المؤدي إلى تبين كذبهم حادثة هامة أدعى إلى تناقل الأسنة والأقوام لها من تناقل حادثة الانشقاق نفسه التي ربما لا يطلع عليها غير أهل مكة لإهمال ترصدها في وقتها أو لغيم يسترها أو لحسبانها حادثة من الحوادث العجيبة التي تدرك أسبابها ولا تضبط في ذلك الحين[148]“.

ج. معجزات الهجرة

كإخبار الله عز وجل رسوله بمؤامرة قتله، وخروجه على الملأ الذين تربصوا به، وقصة سراقة.. لكن عبد الرحمان الشرقاوي في كتابه (محمد رسول الحرية)، تغافل عن ذكر هذه المعجزات، كما تغافل عن غيرها، وذلك لأنه يكتب عن محمد الإنسان وليس عن محمد النبي[149]! وتساءل قائلا: (أين محمد إذن؟ كيف خرج وإلى أين مضى، أيكون قد تسلل من كوة في ظهر بيته؟ أيكون قد عبر من سطح إلى سطح حتى بيت أبي بكر؟ وكيف عرف ما أعدوا له؟ أيكون أحد الذين اتفقوا بالمسجد قد رق لمحمد فأبلغه[150]؟

ولحاجة في نفسه يطرح الكاتب السؤال بهذا الشكل، ذلك أنه أقصى عنصر الوحي من حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وجعله يتصرف من عنده كما يتصرف سائر البشر، وليس نبيا أوحي إليه. وما كان لمحمد، صلى الله عليه وسلم، وهو بشر لا يعلم الغيب أن يعلم بما يدبره المشركون لولا أن أعلمه الله إياه، كما هو صريح القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).

وعن قصة سراقة في مطاردته للنبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: “وفرح قائد الفرسان، واندفع بحصانه إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، عبر صخور جرداء وعرة منحدرا إلى الأخدود، ولكن الحصان تعثر به، وأوشك أن يطرحه على الصخور فيدق عنقه، وتشاءم قائد الفرسان فعاد من فوره دون أن يخبر أحدا ممن كانوا معه بما رأى[151]!.

فانظر كيف لوى عنق هذه المعجزة، وكيف جعل الأمر مجرد حصان تعثر، ولا شيء بعد ذلك! وقريب من هذا ما ذهب إليه هيكل في شأن هذه المعجزة إذ اعتبر الأمر مجرد إجهاد لحق الفرس، وخطأ ارتكبه الفارس، يقول: “وكان جواد سراقة قد كبا به قبل ذلك مرتين لشدة ما جهده، فلما رأى الفارس أنه وشك النجاح وأنه مدرك الرجلين فرادهما إلى مكة أو قاتلهما إن حاولا عن نفسيهما دفاعا نسي كبوتي جواده ولزه ليمسك به ساعة الظفر، لكن الجواد في قوته كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه[152]“.

فانظر رعاك الله شأن معجزات النبوة عند هؤلاء الكاتبين الذين لمعت أسماؤهم في سماء مصر وبلاد العرب، وكيف يتكلفون الكلام وينقمونه ويتمحلون في محاولة يائسة للتلبيس على القارئ وإيهامه أن الأمر في هذه القصة وأضرابها لا يعدو ما جرت به العادة في حياة الناس، ويألفه العقل، وأن لا مكان لشيء اسمه المعجزة حتى ولو نطق بذلك القرآن الكريم وصحت به الأحاديث! ألم يقل سراقة، بعد أن حكى محاولته اليائسة اللحاق بالنبي، صلى الله عليه وسلم: “..ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم[153]“. لقد أيقن سراقة بعدما لقي ما لقي أن في الأمر سرا، وأنه فوق طاقة البشر، وأن هذا الذي يطارده ليس بشرا عاديا، بل هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه ممنوع منه، فلم يتمالك أن نادى بالأمان، أفيكون الشرقاوي وهيكل وأضرابهما أدرى بأمر سراقة من سراقة نفسه؟!

تلكم كانت نماذج من موقف بعض المعاصرين من المعجزات النبوية، وهي مواقف تعبر عن ضعف الإيمان وجهل بالدين وبالنبوات، كما تعبر عن انهزام مؤسف وانصياع ذليل للعقلية الغربية. وإن إنكار المعجزات بدعوى خروجها عن المألوف، أو كونها لا تتفق والمعقول، أمر غير منطقي، لأن المعجزة أصلا ما سميت كذلك إلا لخروجها عن المألوف، وعدم خضوعها لمقاييس العقل. يقول الدكتور محمد محمد حسين: “من الواضح أن الذي ينكر المعجزة لغرابتها عن المألوف خليق أن ينكر الوحي نفسه لأنه أمعن في الغرابة وفي الشذوذ عن المألوف، والذي يعتقد حقا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ينزل جبريل، عليه السلام، مرسلا من عند الله سبحانه وتعالى كيف يكبر عليه أن يسلم بما يجري الله على يديه من غرائب وما يحفه من أسباب الرعاية التي تخالف مألوف العادة؟[154]“.

خاتمة

نخلص من هذه الدراسة إلى الملاحظات الآتية:

  1. إن الكتابة العربية المعاصرة في السيرة النبوية قد توزعتها اتجاهات شتى، وحاول كل اتجاه توظيف السيرة النبوية لخدمة أغراضه وأهدافه، وهذه الكتابة بحاجة إلى مزيد اهتمام من قبل الباحثين والدارسين تحليلا ونقدا لبيان مالها وما عليها خدمة للسيرة النبوية، وبيانا للحق.
  2. اقتصرت هذه الدراسة على ثلاث قضايا رئيسية في هذه الكتابات، وتمثل قاسما مشتركا بينها وهي: التشكيك في كتب الحديث والسيرة وإنكار الأحاديث الصحيحة وإنكار المعجزات والتعسف في تأويلها. وحاولت تتبعها عند أصحابها بإيراد أقوالهم، والرد عليها من غير تطويل.
  3. إن الجهل بحقائق الدين والنبوات، والانصياع الذليل للغرب ولمناهج المستشرقين واتباع خطواتهم، هي إبراز العوامل وراء هذا التشكيك وهذا الإنكار. وليس غريبا بعد هذا أن تجد ثلة من المعاصرين الكاتبين في السيرة النبوية يلتقون في مثل هذه القضايا على اختلاف توجهاتهم، سواء أكانت مادية أم علمانية أم عقلانية أم غيرها. وقد ضرب أصحاب المدرسة الإصلاحية أو المدرسة العقلية الحديثة بسهم وافر في هذا الباب، وسنوا سنة سيئة تبعهم فيها من بعدهم. والله تعالى المستعان.

الهوامش

  1. ممن أشار إلى ذلك إشارة مختصرة الدكتور محمد ياسين مظهر صديقي في كتابه: “الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي”، تحت عنوان: “الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ”. والدكتور عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي في كتابه: “السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة”، ص 49-56. كما عرض الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في مقدمة كتابه: “فقه السيرة”، ص 9-14، وفي “كبرى اليقينيات الكونية”، ص 221-228، للحديث عن نشأة المدرسة الجديدة في كتابة السيرة النبوية. وتحدث الدكتور فاروق حمادة عن بعض الكتب المعاصرة في السيرة النبوية “مصادر السيرة النبوية وتقويمها” ص 110-123. وكتب الدكتور عبد الرزاق هرماس بحثا بعنوان “الاتجاهات المعاصرة في كتابة السيرة النبوية” بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، السنة 1424-2003، مجلد 18، العدد 55.
  2. ملاحظتي على الكتاب أنه استطرد إلى قضايا ليست من صميم السيرة النبوية، بل هي داخلة في موضوع التاريخ الإسلامي، وذلك حين عرضه لكتاب تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان وكتابي الشيخان والفتنة الكبرى لطه حسين، كما أن حديثه عن هذه الكتابات جاء موجزا جدا، وكان المقام يقتضي أن يتوسع بعض الشيء بإيراد الأدلة العلمية لدحض الشبهات والأباطيل، وهو ما أخفق فيه الكاتب فكانت ردوده في كثير من الأحيان لا تكاد تروي غلة أو تشفي علة. وأحيانا أخرى يكتفي بعرض الأقوال دون تعقيب! والملاحظة الثالثة هي تركيزه على المناهج المنحرفة في كتابة السيرة وعدم عرضه للمناهج الأصيلة.
  3. صدرت طبعته الأولى عام 1948 عن مطبعة الاستقامة القاهرة ويقع في مجلدين.
  4. أنظر 1/7-8.
  5. انظر 1/265-267.
  6. كتاب مناقب الأنصار باب ما لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من المشركين بمكة، رقم 3854. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، من أذى المشركين والمنافقين 3/1419.
  7. كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾، رقم 2797.
  8. مسند أحمد 3/286.
  9. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 49.
  10. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 52.
  11. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 14.
  12. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 17.
  13. ص 50.
  14. ص 51.
  15. أنظر أصول الحديث، علومه ومصطلحه، عجاج الخطيب، ص 189.
  16. أنظر الرسالة المحمدية، لسليمان الندوي، ص 78.
  17. الرسالة، ص 224-225.
  18. الرسالة، ص 224، بالهامش.
  19. المعجم الكبير، 2/97.
  20. مجمع الزوائد، 1/170.
  21. ضعيف الجامع الصغير، رقم 938.
  22. 2/97.
  23. الإحكام في أصول الأحكام، 2/81.
  24. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 18.
  25. موقف العقل، 80-84.
  26. انظر موقف العقل، 4/92 بالهامش، و4/183.
  27. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 20.
  28. سيرة المصطفى، ص 309-462..
  29. سيرة المصطفى، ص 206 وما بعدها.
  30. سيرة المصطفى، ص 217.
  31. سيرة المصطفى، ص 317.
  32. تقريب التهذيب، ص 265.
  33. تهذيب التهذيب، ص4/282.
  34. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 2/195.
  35. المصدر نفسه، 2/164.
  36. سير أعلام النبلاء، 7/36.
  37. مقدمة عيون الأثر، 1/7.
  38. أنظر تذكرة الحفاظ، 1/173.
  39. أنظر ص 213 وما بعدها.
  40. ص 120.
  41. ص 221
  42. ص 121.
  43. ص 233.
  44. الضعفاء الصغير، ص 104.
  45. الضعفاء والمتروكون، ص 92.
  46. أنظر تهذيب التهذيب، 9/363. ولخص ابن حجر الحكم فيه بقوله: (متروك مع سعة علمه)، تقريب التهذيب، 2/194.
  47. ص 79.
  48. ص 118.
  49. ص 121.
  50. السيرة النبوية الصحيحة، 1/42.
  51. الشفا، 2/181.
  52. انظر الأعمال الكاملة، للإمام محمد عبده، 5/ تفسير سورة الفلق، وأيده في هذه الدعوى الشيخ محمد الغزالي قائلا: “هنالك قضايا لا يجوز فيها التساهل لخطورتها، وقد شعرت بالغيظ والحرج وأنا أقرأ أن يهوديا وغدا سحر النبي، صلى الله عليه وسلم، وأعجزه عن مباشرة نسائه مدة قدرها ابن حجر ستة شهور أكذلك تنال القمم؟ قالوا؛ كما يستطيع سفيه أن يحذفه بحجر أو كما يستطيع مجرم أن يصيبه بجرح! وهذا اعتذار مرفوض، فإن السحر تسلط على الإرادة والفكر. وهذا مستحيل، لاسيما والوسيلة تسليط أرواح شريرة أو بعض الجن على الجهاز العصبي للإنسان فيوقعه في اضطراب وحيرة. وقد سرني أن الشيخ محمد عبده رفض هذا الحديث وساءني أن الرجل الضخم هوجم في دينه لمثل هذا الموقف الغيور! (أنظر ندوة) السنة النبوية ومنهجها في بناء المعرفة والحضارة”، عمان، الأردن 1409-1989، 2/119.
  53. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 274. وانظر ص 253 و306.
  54. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، ص 180-181.
  55. دراسات في السيرة النبوية، ص 212.
  56. ص 290.
  57. كتاب الطب، باب السحر، رقم 5766.
  58. فتح الباري، 10/237.
  59. الشفا، 2/181. وانظر نفس المعنى في أضواء البيان، الشنقيطي، 4/468.
  60. فقه السيرة، ص 465.
  61. أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: (خطب النبي صلى، الله عليه وسلم، فقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر، رضي الله عنه، فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبكي، إن أمن الناس على صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، رقم 466.
  62. سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، 1/29-39.
  63. الفتح، 7/18.
  64. الفتح، 7/18.
  65. ص229.
  66. كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي وأصحابه يأكلون، رقم 5414.
  67. كتاب الزهد والرقائق، رقم 2970.
  68. انظر تفسير ابن كثير 3/410-411.
  69. كتاب الرقاق باب كيف كان عيش النبي وأصحابه وتخليه عن الدنيا، رقم 6460.
  70. فتح الباري، 11/299.
  71. ص 202.
  72. كتاب المغازي، رقم 4467.
  73. تأويل مختلف الحديث، ص 142-146.
  74. البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا، رقم 2541، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة، رقم 1730.
  75. فقه السيرة ص 10-11.
  76. أنظر المجتمع المدني في عهد النبوة، خصائصه وتنظيماته الأولى، د. أكرم ضياء العمري ص36-37.
  77. السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص118.
  78. السيرة النبوية الصحيحة، 2/407.
  79. كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة، رقم 1730.
  80. السيرة النبوية، لابن هشام، 3/334.
  81. الطبقات الكبرى، 2/63.
  82. أنظر أضواء على دراسة السيرة، ص46.
  83. للتوسع في هذه المسألة ينظر (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير)، للدكتور فهد الرومي، ص545-596.
  84. أنظر تفسير المنار، 11/155.
  85. وإني لأعجب من رجل في مقام الشيخ محمد الغزالي يدعي أن لا صلة للعقيدة ولا للعمل بمسألة المعجزات، فالرجل الفاسد -يقول- لا يغفر له فساده إيمانه بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق!. فقه السيرة، ص48.

قلت: بل للعقيدة صلة بهذه البحوث، إذ من مقتضيات الإيمان بنبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، الإيمان بما أكرمه الله تعالى به من معجزات، وكيف يستقيم إيمان الرجل الصالح إذا هو أنكر ما ثبت قطعا من معجزاته، صلى الله عليه وسلم، وهي أكثر من أن تعد وتحصى. فالمطلوب هاهنا الثبوت فقط، فمتى صحت نسبة معجزة ما إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وجب الإيمان بها، ولا معنى لإنكارها، وإلا فهو إنكار لسنة ثابتة، وفي ذلك من الخطورة ما فيه.

  1. ص 63، بالهامش.
  2. التاريخ السياسي للدولة العربية، ص 1/101.
  3. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص (ك-ل).
  4. أنظر منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، ص 558، نقلا عن مجلة المنار، مجلد 34، الجزء 10/793.
  5. فقه السيرة، للبوطي، ص 10.
  6. ص 225-226.
  7. ص 198.
  8. ص 199.
  9. على هامش السيرة، 3/558.
  10. 1/032.
  11. ص 27.
  12. الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم، غازي التوبة، ص 145.
  13. موقف العقل، 4/11 وما بعدها.
  14. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة، 5/528-529.

[100]. أنظر منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، ص 724-725.

  1. المرجع نفسه، ص 726.
  2. التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي، 2/569.
  3. مقال “في البيان القرآني والطير الأبابيل”، الدكتور محمد رجب البيومي، مجلة الأزهر، العدد 62، سنة 1410-1989، ص 115.
  4. تفسير المراغي، 30/243.
  5. المصحف المفسر، ص 811.
  6. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 102.
  7. ص 1/73.
  8. كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله، 1471.
  9. مقال “السيرة النبوية بين الخيال والتاريخ الشعبي”، نبيلة إبراهيم سالم، مجلة عالم الفكر، المجلد 12، العدد4، السنة 1982، ص 367-368. وهذا الكلام قاله ردا على وزير الأوقاف المصري آنذاك محمد نجيب الغرابلي الذي أحب تخليص المسلمين من كتب السيرة المعروفة بالمواليد لما فيها من أكاذيب، ودعا سنة 1353ﮬ إلى وضع صيغة جديدة للمولد تراعى فيها الصحة، فقوبلت دعوته بالترحيب من الهيئات العلمية والأدبية، ولم يعارضه من رجال الأدب إلا طه حسين، فكتب يرد على الوزير! أنظر (طه حسين في ميزان العلماء والأدباء)، لمحمود مهدي الإستانبولي، ص 236.
  10. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 112.
  11. دراسات في السيرة النبوية، ص 199-200. وإن كان قد وقع هو الآخر في مثل ما عابه حين أنكر معجزة تسليم الحجر على النبي، صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي بيانه بعد هذا.
  12. أنظر المرجع السابق، 86-87-97-98.
  13. كتاب الفضائل، باب فضائل النبي وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، رقم 2277.
  14. ص 1/09-19.
  15. ص 70، ط. دار المروج، 1408-1987.
  16. ص 18، ط. دار الفكر، بدون تاريخ.
  17. أنظر دراسات في السيرة النبوية، محمد سرور بن نايف، ص 281.
  18. الشفا 1/189.
  19. السيرة النبوية، لابن كثير، 2/104.
  20. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 193-194.
  21. موقف العقل، 4/197 بالهامش.
  22. أنظر مقال (المعراج وصداه في التراث الإنساني)، مجلة عالم الفكر أحمد مختار عبادي، مجلد 12، عدد4، السنة 1982، ص 264.
  23. البخاري كتاب الأنبياء، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي آية فأراهم انشقاق القمر، رقم 3636. ومسلم كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، رقم 2800.
  24. كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر، رقم 3868. ومسلم كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، رقم 2802(46).
  25. البخاري في تفسير سورة القمر، باب وانشق القمر، رقم 4866. ومسلم كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، رقم 2803.
  26. مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، رقم 2801. والترمذي كتاب التفسير، باب ومن سورة القمر، رقم 3299.
  27. الفتح، 7/224.
  28. أنظر منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، ص 584، نقلا عن مجلة المنار، مجلد 30، الجزء 4، ص 266-267.
  29. أنظر المرجع السابق، ص 581-583، نقلا عن مجلة المنار، مجلد 30، الجزء 4، ص 267-268.
  30. أنظر المرجع السابق، ص 585، نقلا عن مجلة المنار، مجلد 30، الجزء 5، ص 363.
  31. أنظر المرجع السابق، ص 585-586، نقلا عن مجلة المنار، مجلد 30، الجزء 5، ص 364-368. وهذا الاستدلال الأخير هو نفسه الذي اعتمده الشيخ دروزة كما سيأتي.
  32. أنظر تفسير المراغي، 27/77.
  33. الشفا: 1/281.
  34. البداية والنهاية، 6/74.
  35. فصول من السيرة، ص 206.
  36. فتح القدير، 5/120.
  37. نظم المتناثر من الحديث المتواتر، ص 222-223.
  38. فتح الباري، 7/224.
  39. الشفا 1/283، وانظر أيضا رد الخطابي في الفتح، 7/224-225.
  40. أخرجه حديثه أحمد، 4/81-82، والترمذي 3300 في التفسير، باب ومن سورة القمر، والبيهقي في الدلائل 2/268.
  41. أخرج حديثه ابن أبي شيبة في المصنف، 1/450، والطبري في جامع البيان، 27/86.
  42. أنظر فتح الباري، 7/221.
  43. أنظر 1/226 وما بعدها.
  44. كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر، رقم 3868.
  45. فتح الباري، 7/221.
  46. أنظر الفتح، 7/225.
  47. فتح القدير، 5/120.
  48. موقف العقل، 4/171.
  49. أنظر مقدمة الكتاب، ص 5-6.
  50. ص 142.
  51. ص 145.
  52. حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، ص 214-215.
  53. صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه إلى المدينة، رقم 3906.
  54. اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر، ص 24.
Science
الوسوم

د. أحمد بن محمد فكير

كلية الآداب-أكادير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق