مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

القرآن والكون من منظور منهجية القرآن المعرفية

تقوم المنهجية المعرفية القرآنية على تأصيل المعرفة العلمية والإنسانية وتخليقها، وأول أهداف هذا التأصيل هو الكشف عن حقيقة النظام الكوني باعتباره المعادل الطبيعي للنص، وإبراز وحدة الحقيقة والتطابق بين الوحي والكون، فكل معرفة تتوافق مع قوانين الكون- التي تتوافق بدورها مع القرآن- هي معرفة قرآنية إسلامية بدلالة اللزوم.

القرآن معادل للكون:

تناول بعض المعاصرين العلاقة بين القرآن والكون من أوجه متفاوتة من حيث الدقة والعمق والقصد، ذلك أن “المعرفة الإسلامية من حيث الأصل تقوم على مبدأ التناصر بين الوحي والكون كمصدرين أساسين لها، فكما أن الكون يحتوي على معلومات تشهد على وحدانية الله وعلى فناء الوجود، فإن الوحي أيضاً يحمل معلومات عن الكون المادي تهدي مسار العقل وتصوبه، فلا مناص حينئذ لمن يخطط للنهضة العلمية من إعادة ربط العلم الطبيعي بالوحي”[1]

إلا أن فكرتنا عن التعادل بين القرآن والكون أعمق من هذا، ذلك أن القرآن والكون كتابين؛ كتاب تدويني وكتاب تكويني، “فالكتاب التدويني (القرآن) يتجلى فيه الكتاب التكويني (العالم) بدقة، مثلما يتجلى الكتاب التدويني في التكويني، وهما وجهان لحقيقة واحدة… بل إن معرفة أيا منهما معرفة حقة لا تكتمل إلا بالاستعانة بالكتاب الآخر” [2]

لهذا لابد من تضافر تلاوة آيات الكون وقوانينه وسننه مع تلاوات آيات الكتاب وسوره للكشف عن منهجية معرفية كونية لا يمكن الكشف عنها إلا بذلك، ذلك أن “الجمع بين القراءتين يكشف عن قوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية والسنن الإلهية في الكون والإنسان، في الأفراد والجماعات، في النظم والعلاقات، في الثقافات والحضارات، وذلك لأن الجمع بين القراءتين يعتمد اعتمادا تاما على الربط المنهجي بين القرآن المجيد باعتباره الكتاب المطلق المتضمن للوعي المعادل المستوعب للوجود الكوني وحركته، وكذلك ما يتمثل في هذا الوجود من أشياء ودلالات لها، فالقرآن المنزل والكون المنشأ يكمل كل منهما الآخر في الكشف عن دلالات الوجود الكوني وقوانينه وسننه، يحقق القرآن ذلك بالوحي المقروء المنطوق، ويحقق الكون ذلك بحركته القائمة على قوانينه وسننه، وبذلك تصبح القراءة في كل منهما متممة للقراءة في الآخر ومبينة لدلالاتها [3]

تلك هي العلاقة بين القرآن والكون، والتراث الإسلامي مليء بالتنظير لهذه العلاقة، ولابن تيمية كتاب نفيس عن التوافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول [4] أي بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية، والبحث عن هذا التوافق والحفاظ عليه هو سر النهوض الحضاري للمسلمين، وهو محور فلسفة الحضارة الإسلامية عموما، إذ هناك العديد من الآيات التي تجعل الإحكام والإتقان والتوازن والتناسق في كلامه عز وجل وفي خلقه على حد سواء: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان/6).

ولأن “القرآن معرفة معادلة للوجود الكوني وحركته، وصف الله الكون الطبيعي وما فيه من كائنات بالكتاب، لأن فيه يقرأ الإنسان آيات الله، والقراءة تعبير يتسع لمعرفة الأشياء وفحصها واختبارها وملاحظتها، والكون الطبيعي كتاب؛ فيه تقرأ آيات الله؛ وهؤلاء الذين لا يقرؤون آيات الله في الكتاب الطبيعي هم من أشارت إليهم الآية: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام/34) فهنا جحود بالآيات الطبيعية المنظورة في تكوين الخلق والكائنات”[5].

وتتجلى الأهمية القصوى لفكرة الجمع بين القراءتين : الكتاب المسطور والكتاب المنظور في النسق المعرفي الإسلامي في كونها “بناء لنظرية المعرفة التوحيدية التي تؤمن بأن للكون خالقا واحدا أحدا…وجعل الوحي مصدرا أساسيا لمعرفته، والوجود مصدرا موازيا بقراءتها في إطار التوحيد الخالص”[6]، أو اعتبارها “الصلة بين كتاب “الوحي” القرآن الكريم وبيانه النبوي، وبين كتاب “الوجود”، ومعارف الإنسان في علوم الوجود الإنسانية منها والطبيعية”[7].

وقد مثل المفكر السوداني حاج حمد لهذا التعادل، بالعلاقة بين القرآن والسماوات والأرضين فقال: “تكون المنة الإلهية بقرآن عظيم، يقابل بالوعي الخلق السباعي العظيم، فالمثاني هي المتقابلات، ومثنى الشيء ثنيه أو زوجه….فالسبع المثاني هي السماوات السبع، وفي مقابلها السبع أرضين، والقرآن هو المعادل بالوعي لهذا الخلق الكوني، أي أنه الحق الذي يعادل الخلق، فهو المحتوى للمنهج الكامل… ولهذا فإن الأمر بالقراءة في سورة العلق ﴿اقْرَأْ﴾ تشمل قراءة الكتاب الطبيعي وليس فقط كتاب الوحي، فالذين أشارت إليهم الآية 34 من سورة الأنعام هم من لا يقرأ آيات الله في الكتاب الطبيعي[8].

وقد بين الدكتور أحمد عبادي كيف أن هذه المواءمة بين القراءتين؛ قراءة الوحي وقراءة الكون “تقوم على مجموعة من الأسس أبرزها البنائية  ففي الجانب المنظور “الجانب الكوني”، إذ نجد أن هذا الكون بناء عضوي ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات/47)، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ (النازعات/27-28)، وهذا البناء له مقصديَّة هي التسخير ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (لقمان/19)، أما في الجانب المسطور “الوحي”، فنجد أنه هو أيضًا بناء؛ فاللٰه سبحانه وتعالى يتحدث عن القرآن المجيد فيقول: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان/32)؛ والشيء الرَّتل هو الحسن البناء والنَّضد، وهو بناء له مستويات: أولها: المستوى الصوتي القائم على نضد الحروف، ونضد الكلمات، ونضد الأصوات؛ أي بنائها. ثانيها: المستوى المفاهيمي، وثالثها: المستوى النسقي، ورابعها: المستوى التنزيلي، وخامسها: المستوى التقويمي” [9]

القرآن بين منهجيته المعرفية والقراءات المعاصرة:

ولابد – في هذا السياق- من التنبيه إلى أمر مهم وهو أن التعادل بين القرآن والكون لا يعني التطابق والتماثل بينهما حتى لا نقع في منزلق القراءات المعاصرة التي قررت التعامل مع القرآن الكريم بالمناهج العلمية البشرية  بما لا يتوافق معه كنص مقدس، فالتعادل المقصود إنما هو “باعتباره كتابا كونيا معادلا في إطلاقيته للوجود الكوني وحركته”[10]،  فالقرآن الكريم هو كلام الله الأزلي الذي هو صفة من صفاته، فهو الحقيقة المطلقة والثابتة، والكون حادث وكل حادث متغير، والقرآن “يحتوي الكون كله، وليس المكان الأرضي فقط، ويحتوي الزمان مع المكان أيضا[11].

ولأن الكون ليس مقدسا فيمكن استغلاله والانتفاع به من طرف البر والفاجر، ولا يمس القرآن إلا المطهرون، ولا يستنبط كنوزه إلا المؤمنون، بل إن الكون قد يعبث به العابثون، ويسيء التعامل بخيراته المفسدون، أما في القرآن فقد قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر/9).

ولما كان  الكون مخلوقا فهو يفنى[12]، أما الكلمات فلا تفنى، القرآن فاعل والكون منفعل، لأنه مجال الحركة والعمل وفق مقررات القرآن[13] ، فكل منهما معجزة لا كصاحبتها؛ معجزة مسطورة ومعجزة منظورة، وحيث أن مصدرهما واحد فهناك توافق وتعادل بينهما، فكما أن آيات القرآن آيات محكمات مفصلات: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود/1)، فكذلك الكون آيات متوازنة في غاية الدقة والإحكام ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (الفرقان/2)، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر فالاستغناء بالقرآن يؤدي إلى الانزواء وعدم تحقيق مفهوم الاستخلاف، والاستغناء بالكون يعني العلمنة وإقصاء توجيهات السماء للأرض.

بهذا لن ننجرف في تيار القراءات المعاصرة بل نقر الاختلاف بين القرآن والكون حيث هو، ونقر التعادل حيث هو، ولا نقول بالتماثل والتطابق بينهما، ولا نقول بالمفارقة في منهج التعاطي بين الكون والقرآن، بل هناك وحدة منهجية عامة يجب الالتزام بها، قلنا وحدة منهجية عامة لأن للقرآن خصوصيات تميزه عن المادة، وهو ما جعل البعض يتعامل معه  بمنهج أقل علمية من المنهج المتعامل به مع الكون…

من هنا نقول إن تصوير النص والواقع كثنائية متناقضة  كما في كثير من كتابات الحداثة[14] يطرح غالبا في سياق خلفية مادية ماركسية، لأن علاقة النص بالواقع هي علاقة القرآن بالكون، علاقة تعادل وطيدة وليست علاقة تدابر وتناقض، ولا يضر هذه العلاقة التعادلية اختلاف آليات قراءة الآية الكونـية الحسية بالاجتهاد البشري مع توجيه عام من القرآن[15]، وقراءة الآية القرآنية المقدسة ليس كقطعة مادية من الكون تدخل المختبر.

النتائج المعرفية لفكرة المعادلة بين القرآن والكون:

لقد نشأ حول القرآن الكريم تراث علمي لم ينشأ حول كتاب في الدنيا قط مثله، تراث تعددت منابعه المعرفية من شتى الثقافات، وتنوعت مناهجه بحسب المنطلقات والغايات، يُحترم كله باعتباره اجتهادا، والاجتهاد مطلوب في ذاته بنصوص الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، إلا أن الواقع يعتريه ما يعتري الحوادث من التغير والتبدل -والتاريخ شاهد على ذلك-تتطور المعارف وترتقي مناهج الاستمداد، ومن ثمة يحتاج أي إنتاج بشري إلى وقفة مراجعة وتقويم… وعلى رأس العلوم التي صورت العناية الفائقة التي حظي بها القرآن الكريم، ما اصطلح عليه ب”علوم القرآن”[16]، بتقسيماته البديعة ومباحثه الدقيقة.

إلا أن هذا العلم  على ما فيه من دقة وإبداع؛ تحتاج بعض مباحثه إلا مراجعات وتقويمات،  من منطلق اعتبار القرآن الكريم مصدر المنهجية الكونية، مما يقتضي إلغاء الكثير من الأقوال وتعديل عميق لمنهجية التفكير والتناول ؛ من ذلك كل ما يدعو ويؤول إلى تجزئة النص القرآني ، أو تجاوز شيء منه بحجة أنه “حمال أوجه”، أو تصنيفه إلى محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وقراءات شاذة وأخرى متواترة، لأن ذلك مخل بإطلاقيته مناف لوحدته البنائية عائد على إعجازه بالنقض [17] ، لهذا وجب تخصيص جهد مهم في  مشروعنا القرآني الراهن  لمراجعة مجموعة من القضايا في علوم القرآن والتفسير.

الهوامش:

[1] نظرات في تأصيل المعرفة، تجاني عبد القادر وآخرون،  المركز القومي للإنتاج الإعلامي، الخرطوم، السودان، 1425هـ – 1995م، ص 12.

[2] مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد”، عبد الجبار الرفاعي، ص66.

[3] “نحو منهجية معرفية قرآنية”، طه جابر العلواني،  ص104.

[4] انظر كتابه: “درء تعارض النقل والعقل، أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول”، والذي يعتبر بحق موسوعة معرفية سبقت زمانها بحقب كثيرة.

[5] “منهجية القرآن المعرفية”، أبو القاسم حاج حمد، ص85.

[6] “إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم”، طه جابر العلواني، ص12 بتصرف.

[7] “منهجية القرآن المعرفية”، أبو القاسم حاج حمد، ص86.

[8] نفسه.

[9] ثبت أن كل شيء في الكون في تقلص دائم، وهو دليل على أنه يسير إلى النهاية، إلى يوم القيامة يوم الفناء.

[10] القرآن يحتوي القوانين العامة للكون: انظر: كتاب “رؤية قرآنية لقوانين الكون” لأسامة علي خضر تقديم مصطفى محمود، فلا ينبغي افتعال خصومة بين القرآن والكون والتقوقع في تصوف سلبي، كما لا نسقط في شراك  العلمنة بإخراج القرآن من دائرة التفاعل في الكون، وممن تحدث عن عدم صحة القول: إن القرآن معادل للكون، عبد الكريم سروش في كتابه: “القبض والبسط في الشريعة”.

[11] مثل”جدلية الخطاب والواقع” ليحيى محمد، و”القرآن بين اللغة والواقع” لسامر اسلامبولي.

[12] أما جزئيات العلم فلا يتدخل فيها القرآن إنما يقتصر على التوجيه الأخلاقي.

 [13] القرآن يحتوي القوانين العامة للكون: انظر: كتاب “رؤية قرآنية لقوانين الكون” لأسامة علي خضر تقديم مصطفى محمود، فلا ينبغي افتعال خصومة بين القرآن والكون والتقوقع في تصوف سلبي، كما لا نسقط في شراك  العلمنة بإخراج القرآن من دائرة التفاعل في الكون، وممن تحدث عن عدم صحة القول: إن القرآن معادل للكون، عبد الكريم سروش في كتابه: “القبض والبسط في الشريعة”.

[14] مثل”جدلية الخطاب والواقع” ليحيى محمد، و”القرآن بين اللغة والواقع” لسامر اسلامبولي.

 [15] أما جزئيات العلم فلا يتدخل فيها القرآن إنما يقتصر على التوجيه الأخلاقي.

[16] من أهم ما صنف فيه: “المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالكتاب العزيز”، لشهاب الدين عبد الرحمن المعروف بأبي شامة (665هـ)، “البرهان في علوم القرآن”، لبدر الدين الزركشي (794هـ)، “الإتقان في علوم القرآن”، لجلال الدين السيوطي (911هـ)، “مناهل العرفان في علوم القرآن”، لمحمد عبد العظيم الزُّرقاني (1367هـ)، “النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم”، لمحمد بن عبد الله دراز (1958م)…

 [17] انظر “معالم المنهج القرآني”، طه جابر العلواني، ص86 بتصرف.

دة. فاطمة الزهراء الناصري

أستاذة باحثة بمركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق