مركز الدراسات القرآنيةشذور

القرآن الكريم منبع العلوم وملهِم المعارف القرآن الكريم منبع العلوم وملهِم المعارف

تحدث العديد من العلماء عن العلوم التي انبثقت من القرآن وانبعثت منه، ولم يكن لها وجود قبل نزول القرآن؛ كعلوم اللغة العربية والشرعية، خدمة للدين الإسلامي الحنيف فهما واستنباطا، كما تحدثوا عن دور القرآن الكريم في تطوير العلوم الموجودة قبل نزوله وتسديدها؛ كالعلوم الرياضية والعقلية والطبيعية، أم ما يسمى بعلوم الآوائل؛ مثل الطّب، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والمنطق؛ بفضل حض القرآن الكريم عليها، والترغيب فيها، وتنقيتها مما خالطها من الشعوذة والخرافات، والاعتقادات الباطلة، والغايات الفاسدة، وتوجيهها الوجهة الصحيحة النافعة للإنسان في بدنه وعقله، وفي معارفه ومداركه؛ فالقرآن الكريم منبع العلم والمعرفة التى لا تنقطع ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [الكهف: 109] قال ابن برجان: «مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ، وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ قَضَى بِهِ؛ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ، وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَمِقْدَارِ فَهْمِهِ»‏[1] وقد أولى علماء الإسلام كبير العناية والاهتمام ببيان العلوم التي تضمنها القرآن ودل عليها؛ استنباطا، أو إلهاما، أو إيحاء، أو إشارة، أو غير ذلك من أنواع الدلالات، ووجوه الاستنباط؛ عن طريق إعمال عميق التأمل والتفكير، وإحكام صحيح النظر والاعتبار.
ومن هؤلاء العلماء ابن الفضل المرسي الذي قال في تفسيره: ««جمع القرآن علومَ الأولين والآخرين؛ بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث ذلك عنه معظم سادات الصحابة وأعلامهم؛ مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، حتى قال لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته، وسوره وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه؛ فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد، ولفظا يدل على معنيين، ولفظا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية؛ مثل قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ﴾ [الأنبياء: 22]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وبقائه وقدمه، وقدرته وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة؛ من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار، والنص والظاهر، والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضا.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر والحساب والعقاب، والجنة والنار، فصولا من المواعظ، وأصولا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير؛ مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فمن الحكم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ [الأعراف: 199].
وأخذ قوم مما في آية المواريث؛ من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، علمَ الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج وغير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص، والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز وغير ذلك؛ فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات، وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق، جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها؛ مثل الفناء والبقاء والحضور، والخوف والهيبة، والأنس والوحشة، والقبض والبسط وما أشبه ذلك، هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل؛ مثل: الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر والمقابلة، والنجامة وغير ذلك.
أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة، واستحكام القوة،؛ وذلك إنما باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله، في قوله تعالى: ﴿شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ﴾ [النحل: 69]، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السماوات والأرض، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ففي قوله: ﴿انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات: 30].
وأما الجدل، فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول بالموجب والمعارضة، وغير ذلك شيئا كثيرا. ومناظرة إبراهيم نمرود ومحاجته قومه أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة، فقد قيل إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.
وأما النجامة، ففي قوله: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: 4] فقد فسره بذلك ابن عباس.
وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها…»».
والحاصل أن القرآن الكريم حض على تعلم العلوم وامتلاك المعارف بمختلف أنواعها، ونبه إلى طرق اكتسابها، وأهمها قراءة الكتاب؛ سواء أكان مسطورا وهو آيات القرآن الكريم، أم كان منظورا وهو آيات الكون والطبيعة؛ برا وبحرا، سماء وأرضا، فضاء وجوا، إنسانا وحيوانا، نباتا وجمادا…، ودعا إلى اكتشاف ما تضمنتها هذه العناصر من الأسرار والقوانين والمنافع للإنسانية جمعاء ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 15-] [1] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن السيوطي، ضبط وتصحيح محمد سالم هاشم (بيروت: دار الكتب العلمية، 2012م)(495/496).
[2] المرجع نفسه.

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق