مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات وأبحاث

القرآنُ حَاكِمٌ على اللغةِ

القراءات موضوعها القرآن، والقرآن حاكم على اللغة لظرفها في كَونه، وَسِعَهَا مُستقرا وقياما، وترتلت أصواتُها  فيه نَبْرا وتَنغيما، ولقد حسُنت هذه اللغة واصطُفيت نسقا لهذا النبإ القويم، وتنوعت طرائقها على النثير والنظيم، بسطا وتركيبا، نأيا وتقريبا، موغلةً في الإغراب، ودانيةَ المآخذ والأسباب؛ لتذليل قطوف هذا التنزيل، وتقريب ما نَأَى بجانبه عن التزييل؛ فهي إذاً مستوفزة بين يديه، جاثية عنده ولديه، تسامت فكانت منه وبه وإليه، يعلو بها تحسينا، ويُدنيها تلقينا، ويحوطُها تهذيبا، ويسُوسُها تشذيبا، فأخرج طَيِّبَها الجَنِيّ، وأسماها عن أسماء سمَّتها الآباءُ إيباءً على الوطيِّ الدنيِّ، ما نُزِّل بها من سلطان، ولا أقيم على صدقها عدلان؛ حتى غدت لغةً لا كاللغات، مهذبةَ الأسماء والصفات، مرصوصةَ الأجراس والأصوات.

ويربو على هذا وذاك، أنه أَكْسبها الخلود، وحفِظها في الحقب والعهود، وصيَّرها تَشِبُّ كلما تنفَّس صبحٌ في الوجود، فكلما ضاقت بالْحـَاجِ ذَرْعا، وعُيِّرت بالحُوجِ أصلا وفرعا، أبدى ما وُورِيَ من غائر جَذرها، ليُجرى مَعينا في مُشتقِّ تصريفها.

فكيف بلغةٍ هذه صفتها، يُحنَى على بدْئِها، ثم تُقاوي لدى عَوْدِها، فتمسي صَلَفا على واقعها، تُكاثِر حافظَها ومُنشيها! .

ثم مالهؤلاء الواضعين من بائد العهود، تنكَّبوا المهيْعَ بدعوى الحدود، واتخذوا مما ألفَوْا سندا ومِهادا، دفعوا به عِدله مخاتلةً وعنادا، فَقَعَّدوا على ما توهموا كفايتَه، وحققوا غايته، حتى إذا أظهرتْهم القراءةُ على وجه – قعد بهم العِيُّ عن وَمِيضِه – نقَّبوا له فيما نصُّوا، فَلَمَّا لم يلوُوا منه على قِطمير ولا نَقير فيما رصُّوا؛ ذهبوا مغاضِبين، ظانِّين أن لن يُقدَرَ على زعمهم ونادَوا نواديَهم: إن هذا لحنٌ مبين، فهم في وهمهم يَعْمهون.

 حتى إذا فتحنا عليهم بابَ وجهٍ آواهُ جزء من كليات ما رَضُوا به شاهدا؛ إذ هو في رَوض ما أُمر به أن يوصل؛ ولا يجوز أن يفصل، تولوا عنه وقالوا هذا عارض مُخِلٌ بضوابط نحونا، ولا تسعه أقيسةُ صرفِنا.

قلنا: حتى ولو سِيق له مسموع وشاهد ؟!

قالوا: ولو جيء يومئذ بمسموع ومشهود وأُذنين قائمٍ وقاعد.

ولا يحلُّ في شَرعنا، أن يُرانَ على رسْمنا.

وإيـماؤهم إلى أن لا سماع، إنما هو تزيُّد ومتاع.

قلنا:  أوليس بين أيدينا قرأةٌ حفظةٌ، يَروُون ما لا تَرَوْن ولا تَرْوُون!

قالوا: أولئك هماليلُ القرأة، عُنوا بالرواية، وصدُّوا عن سواء الدراية.

قلنا: أو ليس فيهم أمثال الكسائي وابن العلا؟

قالوا: أولئك أمشاج في الملا، لم يُسقوا ماء غَدَقا، وزادهم من روى عنهم رَهَقا. ثم مالوا عِزِين، فمنهم من آمن، ومنهم من غابن.

وكأن النجاة، فيما يرى بعض أولئك السراة.

إن يتَّبعون إلا الظن، وما الظنُّ بمُغْنٍ عن الحق شيئا!.

فإذا سُقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد اضطُرُّوا إلى شفا جرفٍ هارٍ؛ قال أمثلُهم طريقة: يحفظُ لا لقياس جارٍ، محظورا على عامِّ الشهود، وإنما محلُّه حيِّز الوُرود.

فوا عجبا لها قضية !وهل معرفة أسماء الأشياء إلا حيث وردَت!؟ وهل هي إلا كما جرَت!؟

وإنما يأخذ أنفسُنا على لفظه بالتمثيلِ والمثالِ، وهل تسنَّى لواضع المعيار، سماعُ صِيَغِ كلِّ الأسماء والأفعال؟

وهل ما تُكُلِّم به بعد حِينِه، إلا شبَه لما تكلم به في حينه!

فكل الأنماط لم تعدُ ورودَها قِيسَ شِبر، ولا قِيدَ فِتْرٍ، وإنما قيس عليها صور الألفاظ، ليجري الكلام بعد الكلام تترا، جري الـمُماثل على المثال سِرّا وجهْرا، على نسَقٍ بطْنا وظهْرا.

فهل نعدِل عن سَنَن جارية، إلى أخرى عارية، لا نتبيَّن وجها لها من  قَفا، ولا رخوا من صَفا، فنخلط بين مُثُل الأمثال، وتماثيل الـمُثُل.

فرضي الله عن الموقنين؛ إذ لم يركنوا إلى الضنين، وهدوا إلى طيّبِ الوِفاق، فشَدّوا من السِياق جَادَّ المَسَاق.

ملحوظة: هذه تأملات سيقت على نمط الحوار الجدلي ؛ تقدمةً لكتاب موسوم ب:

“سياق شاذ القراءة وما إليه، في مآخذ كتاب سيبويه “؛

 لمؤلفه: د.عبد الرحيم نبولسي؛ صاحب هذا الحوار الجدلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق