مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

“الفمنزم”، فهم للتاريخ والتيارات

إلياس بوزغاية.

هذه المقالة تتناول موضوع المرأة وقضية تحريرها من منطلق كونها محور نقاش قامت على أساسه مجموعة كبيرة من النظريات والمقاربات التي تروم الوصول إلى هدف مشترك هو الدفاع عن حقوق المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل.

من المفيد ابتداء أن نتوقف عند مفهوم “الفمنزم”، أو بالعربية الحركات النسائية، أو بعبارة الدكتور عبد الوهاب المسيري: “حركات التمركز حول الأنثى”[1]. إذا أردنا أن نفهم الفمنزم في أبسط تعريفاتها يمكن القول أنها جميع الحركات والمقاربات السياسية والفكرية والثقافية التي تهدف إلى الدفاع عن حقوق المرأة من أجل خلق مساواة بينها وبين الرجل. رغم أن هذا التعريف يبدو عاما وشاملا إلا أنه يبقى محل نقاش عميق جعل مفكري ما بعد الحداثة يلجؤون إلى تعريف صغير وفضفاض يحتمل كل الإعتبارات فقالوا أن “الفمنزم” هي في آخر المطاف “الإلتفات إلى المرأة / paying attention to women”[2]

الإلتفات إلى المرأة والدفاع عن حقوقها أنتج عدة حركات ونظريات شملت جميع الميادين ونهلت من مختلف العلوم لتقدم نموذجا تفسيريا للقضية ومحاولة معالجتها. وعلى العموم، إذا تتبعنا مسارها التاريخي سنجد أنها بدأت كمطالب اجتماعية –خاصة في بداية القرن العشرين- تسعى للإجابة عن أسئلة المساواة مع الرجل كالحق في التعلم والعمل والإنتخاب. لكن مع تطور الفكر والثقافة في الغرب تطورت هذه الأسئلة لتأخذ منحى أعمق وأشمل فبدأ منظروا هذه الحركة يتسائلون ويشككون في طبيعة العلاقة القائمة بين الجنسين، وعن مدى شرعية السيطرة الذكورية وتبعية الأنثى.

هذه التساؤلات أظهرت إلى الوجود مفهوم “الجندر”(Gender) أو النوع الإجتماعي الذي يرى أن الصفات والأدوار الإجتماعية التي يقوم بها الجنسين هي أدوار تؤدى بدافع الثقاقة المتجدرة وليس بدافع البيولوجيا أو الطبيعة الأولية[3]. وبهذا تحولت الأسئلة من الطابع الإجتماعي إلى الطابع الفلسفي ليتسائل أصحابها: هل الأعمال التي تقوم بها المرأة و الصفات المرتبطة بها هي قدر محتوم عليها انطلاقا من فيزيولوجيتها؟[4] أم أنها مسألة تقافة ذكورية مسيطرة أنتجت هذه “الهندسة الإجتماعية” تكريسا للمجتمع “الباترياركي” الذي يخشى أن تكون المرأة منافسا حقيقيا له في المجال العام كما تقول فاطمة المرنيسي[5].

بهذه الطريقة تشكل ذلك الوعي النسائي بقضية المرأة وضرورة تحريرها، لكن هذا التحرير أخذ مناحي ومقاربات متعددة تتراوح بين كونها متهمة تارة بالضعف إزاء القبول بواقع السيطرة الذكورية، و تارة بالتطرف وخلق صراع بين الجنسين بدعوى التحرير والمساواة. وأيا كان الحال، فالوعي بالقضية النسائية يبقى له الفضل في إنتاج كتابات ومقاربات ونظريات -تحت مسمى “الفمنزم”- كل مقاربة تسعى للإحاطة بجانب من جوانب القضية لكنها تظل قاصرة على الإحاطة بجوانب أخرى أولا لأنها نتيجة اجتهادات إنسانية محكومة بالنسبية، ولأنها نادرا ما تجد طريقها إلى التطبيق في الواقع.

في هذه المقالة سيتم تسليط الضوء على تاريخ وتطور الحركة النسائية ومفهوم “الفمنزم” وذلك من خلال التحقيب الزمني لهذه الحركة ومن خلال كتابات أشهر المنظرين لحقوق المرأة منذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا. وسنعتمد في مقالنا هذا كتابات لثلاث نسائيات غربيات بارزات (Simon de Beauvoir و Helene Cixous و Judith Butler) ثم سنعرض أحد أبرز الرؤى الإسلامية لقضية المرأة لصاحبتها أمينة ودود، التي أثارت جدلا كبيرا يستحق أن يستمر فيه النقاش حاليا.

إذا كانت كل الحركات الإجتماعية وليدة الأوضاع والتحديات التي تواجهها في منطقتها، فالحركات النسائية لا تخرج عن هذه القاعدة. فمفهوم “الفمنزم” ظهر في بدايته عام 1881 بفرنسا في مجلة La Citoyenne”” لصاحبته Hubertine Auclert  نتيجة ملاحظة الكاتبة التناقض الصارخ بين ما أفرزته الثورة الفرنسية من شعار Egalité, Fraternité, Liberté وواقع المرأة المضطهدة أنذاك. فشكلت كتاباتHubertine Auclert  وغيرها تلك الشرارة التي أطلقت الموجة الأولى “للفمنزم” (first wave feminism) والتي ركزت على ضرورة تحصيل المساواة والأخوة والحرية للمرأة كما هي مكفولة للرجل. بتحقيق معظم أهداف هذه الموجة، دخلت “الفمنزم” مرحلة الموجة الثانية في عقد الستينات لتناضل من أجل مطالب أكثر تقدما كالمساواة في الأجرة بين الرجل والمرأة والحق في التجنيد للمرأة ونبذ التفرقة بين الجنسين. ثم في عقد السبعينات دخلت “الفمنزم” مرحلة جديدة تأثرت بالثورة العلمية وسهولة انتشار المعلومة، حيث انبرى عدد كبير من المفكرين إلى الجمع بين الأفكار والنظريات الجديدة وتنزيلها على قضية المرأة، فتولد لدينا مصطلحات جديدة ذات صبغة إديولوجية أو جغرافية أو عرقية مرتبطة ب”الفمنزم” ك””Marxist Feminism وLiberal Feminism”” و “”American Feminism …“Black Feminism” وأصبحت هذه الحركات تنهل من شتى العلوم والإكتشافات لدعم أطروحاتها إلى يومنا هذا.

هذا العرض التاريخي يحيلنا إلى الإنتباه إلى أن هذه الحركات ربما بالغت في نقل معركتها من المطالب الإجتماعية والضغط من أجل تحقيقها سياسيا إلى الإنصراف إلى التفكير والتنظير العلمي قبل الإقدام على أي خطوة في طريق “التحرير”، رافعين في ذلك شعار “ليس هناك شيء أكثر عملية من التوفر على نظرية جيدة”[6] “There is nothing so practical as a good theory”. وقد يكون رأي الدكتور عبد الوهاب المسيري معبرا عن الحال الذي وصلت إليه حينما وصفها بأنها تحولت من “حركات لتحرير المرأة” إلى “حركات للتمركز حول الإنثى” وذلك بعدما حاذت عن هدفها في تحصيل الحقوق الإجتماعية والطبيعية للمرأة وانصرفت إلى التنظير للفروق بين الجنسين والصراع بينهما بعيدا عن إطار العيش الإنساني المشترك.[7] وفيما يلي عرض لأبرز الأفكار النسائية التي رسمت ملامح الفكر الغربي فيما يخص قضية المرأة، ثم بالمقابل سأعرض أفكار الدكتورة أمينة ودود كممثل لأفكار الحركة النسائية الإسلامية.

Simon de Beauvoir 

كانت Simon de Beauvoir في طليعة من بشر بالفكر النسائي في الغرب من خلال كتاب The Second Sex (الجنس الثاني)  1949 حيث ركزت فيه -باعتبارها فيلسوفة عاصرت وصاحبت جون بول سارتر- على البعد الوجودي Existential و الماهيتي Ontology  للجنسين. فالوجودية والأونطولوجيا أداتان للتفكير تدعوان إلى تحديد ماهية وكينونة الأشياء وكيفية تشكلها، ثم التأكيد على أن الانسان هو فرد مسؤول قادر على تشكيل ماهيته و معنى لحياته خارجاً عن اي ثقافة سابقة. وتطبيقا لهذا على واقع النساء، تؤكد “بوفوار” على أن الرجل وعلى مر التاريخ هو الذي شكل صورة وأنماط عيش المرأة وجعلها تبدوا ذلك (الجنس الثاني) الأقل درجة من الرجل. ولهذا فمنذ لحظة وعي النساء بهذا عليهن البحث عن كينونتهن وهويتهن خارج ما حدده الرجل، ثم العمل على منافسة ومزاحمة هذا الرجل الذي استبد بالمرأة تاريخيا واحتكر المرتبة الأولى دائما.[8]

Hélène Cixous 

مثلت أفكار هيلين سيكسو ذلك الإنتباه العميق للقضية النسائية في اللغة وعلم اللغويات، فمقالتها “The Laugh of the Medusa”  (ضحكة ميدوسا[9]) و كتابها “The Newly Born Woman” (المرأة المولودة حديثا) سلطا الضوء على مدى الدور الذي تلعبه اللغة في تحديد وتكريس الدور الثانوي للمرأة في مجتمعها. واعتمدت على نظرية Jack Derrida  حول التضاد الثنائي (binary oppositions) لتأكد أن اللغة تعمل على حبسنا في منطق التضاد بين الرجل والمرأة وبالتالي عدم الخروج من أوصاف وأدوار ثقافية لا تقبل التداخل. الشيء الذي يدعوا إلى تفكيك وإعادة تركيب الدال والمدلول في اللغة لكي تتحرر المرأة من الأوصاف والأدوار اللصيقة بها[10]. وكخطوة أولى تقترح سيكسو أن تبدأ المرأة في كتابة أدبياتها الخاصة Ecriture Féminine خارج دائرة المنطق الذكوري في اللغة Logocentrism””  رافعة شعار “”Write yourself. Your body must be heard (اكتبي نفسك. جسدك سوف يسمع). وتؤكد في الأخير على اعتقادها بأن اللغة هي التي شكلت عبر الأزمان وعي وسلوك المرأة في مجتمعها رغم أن الأصل في الإنسان هو الطبيعة الذكورية والأنثوية في نفس الوقت بدون تعارض بينهما. [11]

Judith Butler

شكلت سنة 1990 نقطة تحول في مسارالفكر النسائي بمجيء Judith Butler . بكتابيها Gender Trouble  )مشكلة الجندر( وبعده Bodies that Matter  )الجسد هو الذي يهم( الذين أسسا لمنهج يتسم بقمة النقد والتفكيك لأي معرفة مسبقة، فباعتمادها على مفهوم الجينيالوجي Genealogy، والتفكيكية Deconstruction  شككت حتى بأن الجنس شيء فزيولوجي طبيعي، بل رأت أنه في حد ذاته جندر يقوم على أساس التمثيل الإجتماعي (Performativity) حيث أننا نفعل جنسنا ولسنا نحن جنسنا “gender is doing not being” فبالنسبة لها أفعالنا المرتبطة بجنسنا ما هي إلا تأدية لأدوار تابثة دأب آبائنا وأجدادنا على تأديتها وكأنها أدوار في مسرحية كبيرة “”Masquerade. ولهذا فقد آن الأوان للبحث عن هويات جنسية أخرى تتضمن الحرية والإنعتاق من التمثيل الذي نقوم به. وهذا ما يتأتى عن طريق “the Free Floating Identity” أوالهوية الحرة المتنقلة، بمعنى أن يعيش الإنسان بدون هوية جنسية مفروضة أوتابثة، بل أن يعييش متنقلا بين الهويات والأدوار الجنسية والإجتماعية المتنوعة (المثلية، الغيرية، السحاقية… أدوار نسائية، رجالية…).[12]

أمينة ودود

إذا كانت المساواة بين الجنسين قد تعني التخلي عن كل ما له علاقة بالثقافة والماضي وبناء نموذج المساواة الندية _ Beauvoir_ أو الهوياة المتنوعة _Butler_، فإن المساواة في إطار الدين الإسلامي بالنسبة للدكتورة أمينة ودود مكفولة في القرآن الكريم ومنذ بدإ الخلق. في كتابها Quran and Women  (القرآن والمرأة). تعتمد ودود على الآية “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا”(النساء.1) لكي تشير إلى أن الله تعالى خلق النوع البشري من ذكر وأنثى ولم يفضل أحدهماعلى الأخر حتى في الخلق. فكلمة النفس محايدة لا تفيد التحيز لا للذكر ولا للأنثى، وهذه النفس الواحدة خلق منها زوجها (بمعنى شريكها) من أجل التكاثر (بث منهما رجالا كثيرا ونساء). لذلك وبهذا الفهم تأكد لدى ودود الطبيعة التكاملية للجنسين في جميع المجالات وليس الإختلافية. بناء على هذا تنتقل لإثبات المساواة بين الجنسين في الحياة العامة، حيث ترى أن الله تعالى لم يفرض على المرأة ولا على الرجل أدوارا تابثة يلتزمان بتأديتها طوال حياتهما،و قد أعطت أمثلة على ذلك بابنتي شعيب اللتين كانتا تقومان بالسقي، وبالملكة بلقيس ملكة سبأ، ثم مساعدة الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجاته.[13] وفي الأخير تشدد أمينة ودود على أنه رغم كون الأدوار الإجتماعية مختلفة  بين الرجال والنساء فإن الجزاء عند الله يبقى عادلا وبمعيار واحد. ألا وهو التقوى: ” يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا  إن أكرمكم عند الله أتقاكم والله عليم خبير.” الذاريات 13.  “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون” النحل 97 [14]

كخاتمة لما تم ذكره يمكن الإستنتاج أن الحركة النسائية، أو مساعي تحقيق المساواة بين الجنسين، تبقى مسألة اجتهادات إنسانية مرت عبر عدة مراحل في التاريخ الإنساني فراكمت مجموعة من التصورات والنظريات التي عبرت عن فلسفات عصرها. وإذا كانت هذه التصورات والنظريات نتاج مجهودات إنسانية قاصرة، فإن التصورات الدينية للمساواة هي الأخرى تبقى نتاج اجتهادات فقهية تقرأ وتأول النصوص الدينية. وإذا ما رجعنا لأنفسنا كمسلمين إزاء التعامل مع قضية المراة بالمقارنة مع الغرب فإن السؤال الذي يبقى مؤرقا هو: كيف يمكن توفير فهم وتطبيق صحيحين للإسلام يراعي الإختلاف بين الجنسين ولا يوفر غطاء لأحدهما أن يمارس اضطهادا على الأخر لا بدعوى التدين المتزمت ولا العصرنة المنحلة؟


[1]  انظر مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان: النسوية: التمركز حول الأنثى! . http://www.nashiri.net/articles/intellect-and-philosophy/2582–.html

[2] Gayle Austi. “FEMINIST THEORIES: Paying attention to women” in Feminist Theories for Dramatic Criticism (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1990. P.163

[3]  تعريف الجندر Gender في معجم أكسفورد: http://oxforddictionaries.com/definition/gender

[4]  اعتمادا على النظرية البيولوجية لتفسير الأدوار الإجتماعية للجنسين

[5]  Fatima Mernissi. Dreams of Trespass: Tales of a Harem Girlhood. New York: Perseus Books (1995)

[6] Kanter, 1977, p. 295. In Theories of Women’s Studies.  Ed. Gloria Bowles and Renate Duelli-Klein. Routledge & kegan paul plc. 1983. P. 14

[7]  انظر مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان: النسوية: التمركز حول الأنثى! . http://www.nashiri.net/articles/intellect-and-philosophy/2582–.html

[8] De Beauvoir, Simone. The Second Sex. Vintage Books, New York. 1973

[9] في الأساطير الإغريقية ميدوسا كانت في البدء بنتا جميلة حولتها أثينا إلى امرأة بشعة المظهر كما حولت شعرها إلى ثعابين وكان كل من ينظر إلى عينيها يتحول إلى حجر.

[10] Cixous, Hélène. The Newly Born Woman. Trans. Betsy Wing, Manchester, Manchester University Press, 1986

[11] Cixous, Hélène. “The Laugh of the Medusa.” in: Signs. Vol. 1, No. 4, Cixous, Hélène. p. 875-893, Summer 1976 (English).

[12] Butler, Judith. Gender Trouble, Feminism and the Subversion of Identity. Routledge. Newyork. 1990 

[13] انطلاقا من هذا الفهم نستطيع أن نفسر إقدام أمينة ودود سنة 2005 في أمريكا على إمامة الرجال والنساء يوم الجمعة

[14] Wadud, Amina. Qur’an and Woman: Rereading the Sacred Text from a Woman’s Perspective. Oxford University Press. Newyork. 1992

نشر بتاريخ 09/10/2012

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق