الرابطة المحمدية للعلماء

الفقه الإسلامي.. وتحقيق القيم الدينية على أرض الواقع

د.الدكتور محمد عاكف آيدن
رئيس مركز الأبحاث الإسلامية (isam) باسطنبول، تركيا

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة الأعزاء والأساتذة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

وبعد،

أوّد أن أبدأ كلامي بتقديم شكري وامتناني لسعادة الأستاذ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، ولجميع الإخوة الأفاضل المسؤولين بالرابطة وذلك للدعوة الكريمة التي وجهوها إليّ، وأتاحوا لي بذلك فرصة اللقاء بكم في هذه المناسبة السعيدة. أنا أريد أن أتحدث في هذه الندوة عن الملاحظات حول تجربة تجديد الفقه الإسلامي في الدولة العثمانية. وعن العلاقة بين القانون والدين من جهة، وبين القانون والبنية الاجتماعية من جهة أخرى.

 فمن المعلوم أن القانون يلعب دورا مهما في تحقيق القيم الدينية على أرض الواقع في المجتمع الذي يُطبق فيه إن كان يحتوي على أحكام موازية لتلك القيم. ومن الطبيعي أن التزام الأفراد وتمسكهم  بالقيم الدينية له أهمية بالغة في حياة تلك القيم في المجتمع، ولكن يجب أنْ لا يُنسى ما للقوانين والتشريعات من دور لا يمكن إنكاره في تحقيق تلك القيم على أرض الواقع، ولذلك فقد قامت الديانتان اليهودية والمسيحية بجانب الدين الإسلامي بالاستفادة من القانون اليهودي والكنيسي لتحقيق ومراعاة قيمهما الدينية والحفاظ عليها. من جهة أخرى فإن القانون له علاقة وثيقة بالبنية الاجتماعية للمجتمع الذي يُطبَّق فيه، وهو يؤثر في تلك البنية ويوجهها إلى حد ما، كما أنه يتأثر بها و بالتغيرات التي تحدث داخل البنية الاجتماعية، فلا يمكن تصور ميزان قانوني لا يُبالي بالتطورات والتغيرات الحاصلة في البنية الاجتماعية، وأي ميزان تشريعي بهذه الصفة فإنه يُهمَل تطبيقه مع الزمن من قبل المجتمع رسميا أو فعليا.

 بعد هذا المدخل الآن ننتقل إلى العلاقة بين القانون والقيم الدينية، وبين القانون والبنية الاجتماعية في الدولة العثمانية، والصورة التي اتخذتها في القرن التاسع عشر، ونقوم بتخطيط النقاط التالية:

لعب الفقه الإسلامي الذي طُبِّق منذ البداية في مجالات القانون في الدولة العثمانية دورا مهما في تحقيق القيم الدينية على أرض الواقع، كما أثر الفقه الإسلامي في البنية الاجتماعية العثمانية، وتأثر أيضا من التغيرات الحادثة في تلك البنية، وقام الفقهاء العثمانيون بتغييرات جزئية في القوانين المطبقة إذ اقتضت تلك التغيرات والحاجات الاجتماعية الاستفادة من طرق الاجتهاد التي وضعها أمامهم الفقه الإسلامي. ولكن لم تظهر حاجة إلى تغييرات هامة في الاجتهادات وتجديد الفقه لعدم ظهور تغيرات اجتماعية جذرية في البنية الاجتماعية حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ولنفس هذا السبب لا نشاهد تغيرات قانونية أساسية وجذرية في قوانين أوربا الغربية، أو القوانين الأنجلوسكسونية حتى الثورة الصناعية؛ فبعد تلك الثورة انتعشت الحياة الصناعية والاجتماعية  بصورة لا تقاس بالعهود السابقة، وأدى ذلك إلى زيادة أعداد المعاملات القانونية والتجارية، كما أدت إلى تنوعها.

  ومن جانب آخر تسببت الثورة الصناعية في حركة تمدن واسعة النطاق، حيث انتقل الناس من الأرياف والقرى إلى المدن سعيا وراء فرص العمل، وكان لهذا التطور أثره البالغ على العلاقات الأسرية الاجتماعية، ولا نكن مخطئين إذا قلنا بأنَّ هذه التغيرات تعتبر من أهم أسباب ظهور الحركات التشريعية  التي شاهدناها في أوربا طوال القرن التاسع عشر. وهذه العوامل بعينها بالإضافة إلى تأثيرات الدول الأوربية بل وضغوطها على الدولة العثمانية لعبت دورا أساسيا في تغير التشريعات العثمانية تغيرا جذريا بعد مرحلة التنظيمات؛ والتنظيمات هي الاِسم العثماني لعمليات تحديث الأنظمة والمؤسسات العثمانية التي استهدفت إعادة بناء الدولة العثمانية على الأسس العصرية المدنية لمنافسة التطور الحضاري والاقتصادي للدول الأوربية في القرن التاسع عشر، وخلال مرحلة التغيير هذه ظهرت المحافظة على الفقه الإسلامي في مجالات معينة من التشريع، إلا أنه بسبب بعض الأخطاء المرتكبة في هذا الصدد ـ تحت تأثير القوى الخارجية على الجمهورية التركية الحديثة ـ تم إلغاء التشريع الإسلامي وتركه بالكلية.

  وكل ما حدث من التطورات منذ إعلان التنظيمات في عهد السلطان عبد المجيد، وحتى قبول القانون المدني السويسري في عام 1926م، وإلغاء تطبيق الفقه الإسلامي كلية كان من الأهمية بمكان من حيث تسليط الأضواء على جهود تجديد الفقه الإسلامي. ومن المفيد أن نؤكد بأن الفقه الإسلامي وإن كان ظهوره الأولي معتمدا على المصادر الإسلامية الأساسية أعني بها الكتاب والسنّة، إلاَّ أنّ الفقهاء الذين نشأوا في الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة منذ القرن الأول حتى القرن الرابع والخامس الهجري، كان لاجتهاداتهم وآرائهم الفقهية دور مهم في تشكل الفقه الإسلامي وتطوره.

  ولا نكون مجانبين للصواب إذا قلنا بأن الفقه الإسلامي يشابك تلك التفسيرات والاجتهادات، بعبارة أخرى لقد تأثر الفقه الإسلامي بالبيئات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية التي كانت تسود طوال تلك القرون، ولو كان من الممكن قيام أولئك الفقهاء الأجلاّء بتفسيراتهم الفقهية في الظروف السياسية، والاجتماعية والثقافية التي نعايشها اليوم، لكان مما لابد منه توصلهم إلى نتائج مغايرة من نواحي متعددة، ولا يعني هذا استسلام الفقه الإسلامي للمتغيرات الاجتماعية وانجرافه السلبي والعاجز وراءها، بل يدل على تحقيق التوازن بين القيم الدينية والضرورات والحاجات الاجتماعية في صورة متميزة.

 وتعتبر مجلة الأحكام العدلية التي تم إعدادها في فترة ما بين 1868م و1876م، أول صياغة جديدة للفقه الإسلامي بعد مرحلة التنظيمات، ولها مكانة لا يمكن الاستهانة بها كصفحة جديدة في تاريخ الفقه الإسلامي. وقد اشتركت السلطة السياسية بهذه المجموعة القانونية لأول مرة في تاريخ التشريع الإسلامي في تشكيل وتكوين المنظومة الفقهية الذي كان حكرا على الفقهاء واجتهاداتهم، حيث أصبحت مجموعة القواعد المدونة من اجتهادات الفقهاء قانونا ملزما بموافقة السلطة السياسية ومصادقتها عليها، ونتيجة لهذا التصرف تحول الفقه الإسلامي الذي نشأ وتطور من تشريع اجتهادي إلى تشريع قانوني نوعا ما، ولا يمكن إنكار ما لهذا التحول من أهمية؛ لأن الفقه الإسلامي نجد فيه ظهورا بينا للاختلاف بين المذاهب،  بل وأحيانا داخل المذهب الواحد حول مسألة من المسائل.

  وقد صارت محاولات تقنين الفقه الإسلامي بعد المجلة في الدولة العثمانية، والجهود المعاصرة في بعض الدول الإسلامية على نفس هذا المنهج، وسيتم تجديد الفقه الإسلامي بعد اليوم أيضا بهذه الصورة في كثير من الأحيان؛ أي عن طريق قيام السلطة السياسية بتقنين الفقه الإسلامي الغني بالاجتهادات القديمة والمعاصرة، وخاصة في الأحكام الخارجة عن مجال العبادات والتوقيف، إذن ينبغي علينا التركيز على مشكلة تحقيق دور السلطة السياسية في تكييف الفقه الإسلامي مستقبلا، وكيفية الحفاظ على أصالة هذا الفقه.

  لقد اعتبر  تقنين الشريعة الإسلامية في مجلة الأحكام العدلية منهجا ضروريا كما هو الحال في البنية التقليدية للفقه، لهذا السبب فلا يوجد في الأحكام العامة المتعلقة بالالتزامات أو العقود، بل تناولت المجلة القواعد المتعلقة بكل نوع من الالتزامات أو العقود على حدة، وهذا أدى إلى وقوع بعض التكرار الذي لا مفر منه عند اتباع هذا المنهج؛ فعلى سبيل المثال بدلا من حكم عام يبين أنّ العقود تتم بالإيجاب والقبول فقد وقع في كل كتاب بعقد معين أن ذلك العقد يتم بالإيجاب والقبول، وتكرر ذلك في كل عقد. لكن الهيئة التحضيرية للمجلة وبالاستفادة عن الجهود المبذولة في هذا المجال مقدما لم  تدرج بعض الأحكام العامة المتعلقة بالشريعة الإسلامية في المواطن المائة الأولى من المجلة، ومن أهم المبادئ الحقوق العامة الجالبة للانتباه من بين هذه المواد: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، الأصل براءة الذمة، لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، لا ضرر ولا ضرار، الضرورات تبيح المحظورات، الضرورات تقدر بقدرها، يُتحمل الضرر الخاص بدفع الضرر العام، درء المفاسد أولى من جلب المصالح، الاضطرار لا يبطل حق القيد، المعروف عرفا كالمشروط شرطا.

 إنَّ التوجه نحو أسلوب في تنظيم الفقه يعتمد على منهج التجديد النظري في مؤلفات الفقه الإسلامي مهم من ناحية إحالة الحقوقيين ورجال القانون بالفقه الإسلامي، بطريقة أيسر على الرغم من المكانة المهمة التي تحتلها مجلة الأحكام العدلية في الدور الأخير من تاريخ التشريع الإسلامي، فإن كونها لا تجدد كما ينبغي بناء على الاجتهادات القانونية لزمانها من بعض النواحي حقيقة مسلمة، والسبب الرئيسي لهذا هو تدوين المجلة الذي كان يعتمد الرأي الراجح في المذهب الحنفي، ومع ذلك قد تمّ الترجيح قول الأقليّة للقول المرجوح في المذهب الحنفي في بعض الأحيان مراعية التطورات في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والاحتياجات الجديدة، ولم يتم اتباع غير الراجح في المذهب دائما. لكن هذا الوضع لم يؤهل المجلة لتصبح قانونا يقضي جميع احتياجات ذلك العصر.

  فعلى سبيل المثال: لم تتم مراعاة ظروف العصر في تعريف المال كما جاء في مجلة الأحكام؛ فمن المعلوم أنَّ مصطلح المال في المذهب الحنفي لا يشمل إلاَّ الأشياء المادية، ولا تعتبر الحقوق والمنافع مالا، وهذا الوضع يمنع المنافع من أن تكون موضوعا بمفردها للتصرفات القانونية للحقوق، كما يؤدي إلى عدم حماية المنافع ضد الأفعال الضارة، ولا يجوز عند الأحناف جعل المنافع مستقلة، ولا يمكن تأسيس عقد الاتفاق بعقد مستقل على العقارات، كذلك حسب هذا الفهم فإنه لا يُضمَّن بسبب قذف الأموال المنقولة وغير المنقولة إلى الأضرار الحاصلة في الجانب المادي لهذه الأموال، وإذا استعملت هذه الأموال المغصوبة لمدة سنين مثلا فلا يمكن الحديث عن تضمين ناشئ عن هذا الاستعمال، أو بعبارة أخرى لا يمكن الحديث عن دفع أجر المسك.

  ويشكل عدم القول بأنَّ الأموال المنقولة تكون موضوعا للقذف التزاما باجتهادات المذهب الحنفي مثالا آخر؛ فتبعا لما تمليه المجلة إذا كان المال المغصوب منقولا فإن الغاصب يكون مسؤولا مسؤولية ثقيلة عن المال المغصوب حتى أنه لو تلف المال بسبب لا يمكن إسناده إلى الغاصب يكون الضّمان واجبا أيضا، لكن في حالة كون المال المغصوب غير منقول فإنه لا يمكن الحديث عن المسؤولية الثقيلة للغاصب، بل يُضمِّن الغاصب فقط في حالة وجود  ضرر تعدِّي أو إهمال في الحفاظ على ذلك المال؛ فينبغي الحديث هنا عن المسؤولية بسبب الإتلاف، لا عن المسؤولية بسبب الغصب؛ فقد أدى هذا إلى ظهور مشاكل مهمة في تاريخ التشريع العثماني، وإلى عدم إمكانية حماية منافع أصحاب المال ضد الغاصبين في بعض الأحيان، وقد اضطر الفقهاء الأحناف إلى وضع استثناءات مختلفة من هذا الحكم مثل استثناء أموال الأوقاف والأيتام والأنظار المعدة للاستغلال؛ وفي الحقيقة  كان من الممكن حلّ هذه المشكلة بالطريقة الأيسر بالاستفادة من اجتهادات المذاهب الأخرى بدلا من سلك مثل هذه الطرق الملتوية؛ لأنه حسب اجتهادات المذاهب الأخرى غير الأحناف فإن كل شيء يحمل قيمة اقتصادية سواء كان شيئا ماديا، أو حقا، أو منفعة، فهو داخل في شمول مفهوم المال، وقد كان في حيِّز الإمكان القبول بكامل الحقوق والمنافع موضوعا للتصرفات القانونية أو حمايتها ضد الأفعال الضارة، وكذلك حماية الأفعال الغير المنقولة في مواجهة الغصب، كما ينبغي إذا اتبع الطريق الذي اتبعته المذاهب الأخرى في تاريخ المال أو الغصب.

 

إنّ السبب الذي يمكن  قراءته هو عدم خروج هيئة المجلة، وأحمد جودة باشا رئيس هذه الهيئة الذي لا يمكن إنكار دوره في إعداد المجلة، عن اجتهادات المذهب الحنفي في نظرنا هو تجنبه لمخالفة بعض العلماء الأحناف في زمانه، ولكن يجب أنْ لا نغض من حق الهيئة التي أعدت المجلة وخصوصا أحمد جودة باشا، فإنه من الممكن رؤية جهات تشكل هروب أفضل من احتياجات ذلك العهد في الكتابة الأولية لبعض المواد، فمثلا تأثير موت المؤجِّر أو المستأجر على العقد قد لُزِّم في النص الأولي، كذلك مسألة كون حقوق الالتفاف موضوعا للبيع استقلالا توجد في الكتابة الأولية في النص، كما نجد في النص الأولي ما يسمح بإضافة شرط إلى عقد الاستثناء يوسِّع من دائرة المسؤولية المستثمر، لكن هذه التنظيمات الإيجابية قد خُيرت من قبل هيئة الاستشارة التي راجعت هذه النصوص قبل التقنين.

 لقد واجهت جودة باشا أثناء إعداده مجلة الأحكام العدلية معارضة من اتجاهين:

الاتجاه الأول: هو معارضة السفارة الفرنسية؛ لأن جودة باشا بمحاولته لتأليف المجلة قد خال دون قبول القانون المدني الفرنسي (كود نابليون)، ولذلك فإن السفارة الفرنسية كانت معارضة لجودة باشا باستمرار. والاتجاه الثاني: هو أن بعض العلماء الموجودين في مؤسسة المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية كانوا غير مستريحين، بسبب القيام بهذه المحاولة في وزارة العدالة ليس في مؤسستهم في المشيخة الإسلامية.

  وقد كان أحمد جودة باشا في هذا العهد وزيرا عدليا، وقد ظهرت عدم الاستراحة هذه إلى العيان تماما، بواسطة مادة متعلقة بالحوالة المقيدة والتي توجد في كتاب الحوالة، مادة: (692)، وكان جودة باشا قد نظم هذه المادة على وفق رأي الإمام زفر، آخذا بعين الاعتبار ظروف العصر. وليس على وفق الرأي الراجح  في المذهب الحنفي، وهكذا كان قد أصبح من الممكن تمليك الدَّين للدائن عن طريق الحوالة المقيدة، ولكن تنظيم المادة المذكورة على هذا الشكل قد قُوبل بمعارضة كبيرة من قبل العلماء الأحناف المحافظين حتى أن ذلك كان سببا في إبعاد جودة باشا عن مشروع المجلة لمدَّة معينة.

 وفي نفس العهد تقريبا كان قد تم فحص قانون التجارة لما يقرب من كامله من فرنسا، كما كان قد تم تهيئة قسم كبير من قانون العقوبات بالاستفادة من قوانين الغرب. ومن اللافت للنظر أن نفس الأوساط العلمية لم تقم بمعارضة هذا التصور الذي أدى إلى الابتعاد تماما عن الشريعة الإسلامية بنفس الشِّدة التي عارضت بها الاستفادة من رأي الإمام زفر مع أن كانت الرغبة موجودة دائما في إتمام النقص الموجود في مجلة الأحكام العدلية وتحويره إلى حالة تستطيع فيها تلبية حاجات العصر. إلا أنه لم تقم المحاولة الجدية في هذا الموضوع حتى عام 1916م، الاستثناء الوحيد في ذلك هو التغيير الحاصل بتاريخ 1332 هـ ، من مادة: 64 من قانون أصول المحاكمات الحقوقية والذي بموجبه قُبل مادة حرية التعاقد، وغُيِّر تعريف المادة فأصبحت الحقوق إلى المنافع داخلة في ما يشمله مصطلحا ما.

والتنظيم الثاني المهم في هذه الفترة في مجال الشريعة الإسلامية هو قانون الأسرة العثماني بتاريخ 1917م، وكانت الفترة التي ورد فيها هذا القانون تناقش فيها مواضيع الزواج والطلاق وحقوق المرأة بكافة في المجتمع العثماني.

  ينبغي أن نذكر أنَّه تشكّلت ثلاث اتجاهات في الدولة العثمانية: اتجاه العلماء والإسلاميين الذين يريدون الالتزام الكامل بالشريعة الإسلامية، واتجاه المستغربين الذين يريدون إيجاد قانون على طراز التفكير والتطبيق الغربي تماما، واتجاه القوميين الأتراك الذين يقفون في منزلة الوسطية بين الاتجاهين المذكورين، طبعا لكون أحكام الأسرة من أكثر المجالات التي تهتم بها الشريعة الإسلامية، وتوقَّف عندها؛ فإن قانون الأسرة لم يخرج خارج نطاق الفقه الإسلامي، لكن مورست فيها طريقة التلفيق للاستفادة من آراء المذاهب السنية الأربعة، مع التزام المنهج المتحرِّر جدًّا إذا قورن بما صُنع في تحضير مجلة الأحكام العدلية، وقد استفيد من المذاهب الأخرى قبل المذهب الحنفي في مواضيع كثيرة ،وعلى رأسها عدم صيحة الزواج قبل الحد الأدنى للبلوغ، التعقيدات الواردة على زواج المجانين، الشروط الممكن اشتراطها في عقد الزواج، بطلان الزواج والطلاق، وكذلك طلاق السكران، فتح الباب أمام الطلاق للمرأة عن طريق القضاء، المدة القُصوى للعدة التي تنتظرها المرأة في بعض الحالات.

 إنَّ المنظرين لهذا القانون قد رغبوا في وضع تحفيظ لتعاقد الزوجات في إطار الشريعة الإسلامية ، متجهين إلى تغيير جذري في الاجتهاد في الشروط التي يمكن اشتراطها أثناء عقد النكاح، ولذلك تم قبول رأي الحنابلة الذي يسمح بوضع شرط في عقد النكاح يحدّ من هوية قيام الزوج بالزواج من امرأة ثانية، وترك العمل برأي المذهب الحنفي الذي لا يسمح ذلك. غير أنَّ هذا القانون الذي يجيب على احتياجات ذلك الأصل بصورة كبيرة عندما تم إعلانه قد لقي معارضة شديدة من قبل الطرفين. ومن ناحية أخرى قام بمعارضة هذا القانون بشدة البؤساء الروحانيون لغير المسلمين الذين سُلبت صلاحيتهم القضائية في مجال حقوق الإسلام، والذين أورقت محاكم الجماعات محاكم غير المسلمين التي كانت تحت إدارتهم. ومن ناحية أخرى قد أغضبت الآراء الفقهية المختارة من المذاهب الفقهية الأخرى خارج المذهب الحنفي بعض علماء الأحناف بشدة، ويأتي في مقدمة العلماء المناوئين لقانون الأسرة العثماني شيخ الإسلام مصطفى صابر أفندي المعروف بآرائه المحافظة، ويمكن عدّ بعض الأساتذة في كلية الحقوق في تاريخ فنون إسطنبول.

 وفي النهاية فإنه لما سافر الصدر الأعظم رئيس الوزراء قام فريد باشا إلى باريس لمدة قصيرة وأناب عنه في وظائفه مصطفى صابر أفندي، وقد ألقى الأخير بصفته وكيل الصدر الأعظم قانون الأسرة العثماني بعد أن بقي معمولا به لمدة سنة ونصف، مع أن قد تمّ التفكير في الإبقاء على تطبيق هذين القانونين: أقصد مجلة الأحكام العدلية، وقانون الأسرة العثمانية في بداية الدولة التركية الجديدة التي أُنشئت بعد انهيار الدولة العثمانية. إلاَّ أنَّ الحكم ضد هذين القانونين تغيَّر في الدولة الجديدة، وفي النتيجة تم الإعلان عن هذين القانونين، ووجهت كافة الفكرة المنادية إلى قبول القانون المدني السويسري بدلا عن القوانين المذكورين. وهذا هو الذي حصل في الواقع، هذه المعلومة الأخيرة مهمة من هذه الناحية.

 إنّ الذين كانوا يعارضون الاقتباس الجزئي من المذاهب الفقهية الأخرى في عهد التنظيمات في الدولة العثمانية لم يستطيعوا القيام بأية محاولة مؤثرة في مواجهة التطورات الحادثة بعد ذلك، كما أنهم قد أصدروا إلى السكوت على قبول قانون مدني قد  تكون في جانبه بيئة ثقافية كاثوليكية، في حين كانوا لا يرضون بالتفسيرات المختلفة من المبادئ الفقهية الأخرى.

 وختاما أرى أنّ في مثل هذه الاجتماعات العلمية التي تُناقش فيها محاولات تجديد الفقه الإسلامي؛ فإنه من الأهمية بمكان معرفة التجربة العثمانية في أوائل عهدها في هذا المجال، لتحديد وترشيد الخطوات الواقية في هذا الاتجاه، وشكرا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق