مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الفتــــــوة

     الثالث: الضيافة، والأحاديث في الأمر بها والحَض عليها كثيرة بالغة حد التواتر المعنوي، ويكفي حديث الصحيحين: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكرِم ضيفه»[26]. وقد جعلها الظاهرية فرضاً على الحضري والبدوي والفقيه والجاهل، والجمهور على أنها سُنّة مُرغبٌ فيها وهي من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والصوفية –خصوصاً الشاذلية- في القيام بحقها القدح المعلى، فزوايا الشاذلية في مُدنِ المغرب وقُراه معدة لاستقبال الضيوف، لا ينزل بها غريب إِلا لقي أهلاً يُكرمونه ويُتحفونه، وإِن كان في حاجة إِلى مساعدة مدُّوه بها، وذلك بأن يجمع مُقدّم الزاوية من الفقراء –الدراويش- مبلغاً من المال يُقدّمه للضيف عند سفره، وإِن كان من أهل الطريق، أو ذوي الفضل والعلم تسابقوا إِلى إِكرامه في بيوتهم، ومهاداته بما يليق به، والمقصود أن الزوايا عندنا أشبه بالفنادق العامة المُعدة لاستقبال النُزلاء، إِلا أنها لا تأخذ أجراً، بل تساعد من يرجو المعونة، وتهادي من يستحق التكريم، هذا إِلى ما يقوم به أصحابها من عيادة المرضى وتشييع الجنائز، وإِقامة حفلات للمولد النبوي الشريف، تكون خيراً وبراً للمساكين والضعفاء بما يتناولون من طعام وصدقات، هذا بعض فضل التصوّف ومزاياه في القطر المرّاكشي، قبل أن تكثر فيه النزعة الوَهّابية، مع ابتلائه بالأحزاب السياسية التي فرّقت بين أهله وجعلتهم شيعاً وفرقاً، وبثت فيه جرثومة التحلل من الأخلاق والدين، نسأل الله اللطف والسلامة.

     الرابع: صلة الإخوان والأقارب وغيرهم بمختلف أنواع الصلات المادية والأدبية، وفي ذلك أحاديث كثيرة تفوق الحَصْر، منها ما تقدم قريباً، ومنها ما في أوسط معاجم الطبراني، عن عمر عن النبيّ ﷺ: «أفضل الأعمال إِدخال السرور على المؤمن، كسوتَ عورته أو أشبعتَ جوعَته، أو قضيتَ له حاجَته»[27]. ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر ولفظه: «أحبُ الأعمال إِلى الله عزّ وجلّ سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تطرد عنه جوعاً، أو تقضي عنه ديناً»[28]، وله طرق وألفاظ متعددة. وأهلُ التصوّف مَضرب المثل في التواصل والتعاون، ومساعدة أصحاب الحوائج في قضائها، وكأن النبي ﷺ عناهم بقوله: «إِنّ للهِ خلقاً خلَقهم لحوائج الناس، يَفزعُ الناسُ إِليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله»،[29] رواه الطبراني من حديث ابن عمر، وله طرق. وممن أخذ من هذا الخلق بالحظ الأوفر مولانا الشيخ الإِمام الوالد رضي الله عنه، فقد كان لا يمر عليه يوم دون أن يقضي ديناً عن مدين، أو يدفع أجرة عن شخص تأخر في دفع الإِيجار، أو يكسو فقيراً ليس عنده ثياب، وإِذا كان له أولاد كساهم معه، أو يُصلح بين متخاصمين طالت خصومتهما واشتد عداؤهما فيدعهما أخوين متحابين، أو يشفع عند الحاكم في مظلوم، على أن يبعث رسولاً من طرفه فما مشى إِلى حاكم قط، ولقد أنقذ بشفاعته شخصاً من الإعدام حكمت به عليه الحكومة الإسبانية الغاشمة لاتهامه بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، ويتعاهد بيوتاً كثيرة في الأعياد والمناسبات كزكاة الفطر واللحم في عيد الأضحى وغير ذلك، أما تصدّقه بالثياب التي عليه وقعوده في البيت حتى يتيسر له غيرها، فقد حصل منه مرات عديدة حتى كان بعض الإخوان ممن له عليه دالة يعتب عليه في ذلك فيظهر له من الثقة بالله والتوكل عليه ما يحمله على تشجيع الشيخ في الاستزادة من التصدق والإِعطاء.

     هذه أخلاق الصوفية كما شاهدناها عياناً، وقرأنا عنها في كتب التراجم والطبقات، فإذا وجد في شيوخ الطريقة من هو على ضد هذه الخصال، فهو دَعِيّ دخيل، والتصوف بريء منه ومن أمثاله، ويجب هنا أن نعرض لرد مسألة طالما تشدّق بها المنتقدون للتصوّف، ذلك أنهم يزعمون أنّ الصوّفية أصحاب كسل وخمول وتواكل، وأنّ الإسلام يدعو إلى العمل والكسب والسعي في طلب الرزق، وهذا كلام من قَصُرَ نظره على الجانب الماديّ الضيق المحدود، وانصرفَ عن الجانب الروحي الواسع الشامل، مع أن الإِسلام راعى الجانبين، وأعطى لكل منهما حظه من العناية والاعتبار، بل غلب الجانب الروحي لأنه أعم وأبقى، وأسباب الرزق كما تكون ماديّة للعوام كالتجارة والصناعة مثلا، تكون روحيّة للخواص كالصلاة والتقوى، قال تعالى: ﴿ وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسالك رزقا نحن نرزقك ﴾ [30]. وقال: ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويروقه من حيث لا يحتسب ﴾ [31]. وقال: ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ﴾ [32]. وتقدم أنّ أهلَ الصفة كانوا أكثر من مائة، لا أهل لهم ولا مال، وكان النبيُّ ﷺ يُنفِق عليهم، ولم يقل لهم: تَكَسّبوا واسعوا على رزقِكم بالتجارة وغيرها، نعم لَمْ يقل لهم هذا أصلاً، بل دافع اللهُ تعالى عنهم، حين قال المنافقون في حقهم: ﴿ لا تنفقوا على ما عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ [33]. فردّ اللهُ تعالى عليهم بقوله: ﴿ ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ﴾ [34].

     وهذا شرفٌ عظيم لأهل الصفة، ينطوي على التنويه بما كانوا عليه من الانقطاع للعبادة والتفرغ لها، أما ما رواه أبو داود في مراسيله عن أبي قلابة أنّ ناساً من الصحابة قَدِمُوا يثنون على صاحب لهم خيراً، قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسيرٍ إِلا كان في قراءة ولا نزلنا منزلاً إِلا كان في صلاة. قال رسول الله ﷺ: «فمَنْ كان يكفيه ضيعته؟»؛ حتى ذكروا من كان يَعْلِف جملَه أو دابَته؟ قالوا: نحن، قال «فكلكم خيرٌ منه»[35]، فهو حديث ضعيف؛ لأنه مُرسَل، وعلى فَرَضِ صحته فهو محمولٌ على أن ذلك الشخص كان يستخدم غيره في شؤونه الخاصة به كعلف دابته، وتهيئة مكان نومه، وإِعداد طعامه، ونحو ذلك كما هو صريح الحديث، وليس من المروءة أن يستخدم الشخص غيره في مثل ذلك، بل يقوم هو بنفسه بإِعداده، لاسيما في السفر المبني على التعاون التام، ألا ترى إِلى النبيّ ﷺ حين أراد الصحابة –وكانوا معه في سفر- أن يطبخوا طعاماً لغدائهم، وتعهد بعضهم بذبح الشاة، وآخر بسقي الماء، فتعهد هو صلى الله عليه وآله وسلّم بجمع الحطب، فقال الصحابة: نكفيك هذا يا رسول الله، قال: «علمت أنكم تكفوني ذلك، ولكن كرهتُ أن أتميزَ عنكم»[36]، أو كما قال، وهذا من كمال المروءة، وآداب الصحبة والمعاشرة، وهو بمعزل عما نحن فيه، فالذين يستدلون بذلك الحديث المُرسل على الكَسب والسعي مخطئون في فهمه، مع غفلتهم عن ضعفه، ومما يؤيد ما نقول حديث أنس، قال: كان أخوان على عهد النبيّ ﷺ، فكان أحدهما يأتي النبيّ ﷺ، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبيّ ﷺ، فقال: «لعلك ترزق به»، رواه الترمذي[37]، صحَحَه الحاكم وسلَّمه[38]، فالنبيُّ ﷺ أخبر الأخ المحترف بأنّ الله يرزقه ببركة إِنفاقه على أخيه المتفرغ للعبادة وملازمة الرسول، وليس بعد بيان الله ورسوله بيان.

الهوامـــــــــــــش :

*مقتطف من كتاب الإعلام بأن التصوف من شريعة الاسلام، ص 75-86.

[1] الرسالة القشيرية: عبد الكريم القشيري، (ص 227).

[2] المصدر نفسه، (ص226. وهو يشير إلى حديث شفاعة النبي ﷺ حيث يقول: «..فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي….» رواه مسلم رقم 326.

[3] المعجم الكبير: الطبراني، عن أبي هريرة عن زيد بن ثابت، عن رسول الله r، قال: «لا يزال الله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه» رقم4667. وهناك رواية ثانية عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيﷺ، قال: «لا يزال الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه» رقم4668.

[4] الترغيب والترهيب: الحافظ المنذري، رقم 3804. تخريج أحاديث الإحياء: لزين الدين العراقي، تحقيق: سيد عمران، 1425ﻫ/2004م، (1/82).

[5] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم 2699. ورواه الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في السفر على المسلم، رقم 1425. وأبو داود: كتاب الأدب، باب في المعونة للمسلم، رقم 4946. وابن ماجة: في المقدمة، رقم 225.

[6] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه، رقم 2442. ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم 2564.

[7] إيقاظ الهمم في شرح الحكم: ابن عجيبة، (ص24).

[8] الحشر، الآية 9.

[9] صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول الله: ﴿ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾. الحشر9. رقم 3798. ومسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم 2054.

[10] الفتح الباري: ابن حجر العسقلاني، (7/138).

[11] جمع الجوامع بشرح جلال الدين المحلي وحاشية البناني، (2/523).

[12] المجادلة، الآية 12.

[13] المجادلة، الآية 13.

[14] جامع البيان عن تأويل القرآن: الطبري، (25/518).

[15] سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المجادلة، رقم 3300.

[16] المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري، كتاب التفسير، تفسير سورة المجادلة، رقم 3793.

[17] تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين: ابن أبي حاتم، (10/3344).

[18] مسند الإمام أحمد، رقم 23594.

[19] مسند الإمام أحمد، رقم 9236.

[20] صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب من أعطى الله شيئا من غير مسألة…، رقم 1473. ومسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف، رقم 1045. وسنن النسائي، كتاب الزكاة، باب من أتاه الله عز وجل مالا من غير مسألة، وهو بروايات متعددة، (2603.2604.2605.2606.2607). ومسند الإمام أحمد رقم 279. والرواية المستدل بها هي عند البخاري، وقول سالم موجود في صحيح مسلم.

[21] مسند الإمام أحمد، رقم 26111. بلفظ: «يا عائشة من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه فإنما هو رزق عرضه الله لك».

[22] المصدر نفسه، رقم 26507. بلفظ: «أن امرأة أهدت لها رجل شاة تصدق عليها بها فأمرها رسول اللهﷺ أن تقبلها».

[23] مسند أحمد، رقم 7908.

[24] مسند أبو يعلى، رقم 6148. ، الترمذي: كتاب الولاء والهبة، باب حث النبي ﷺ على التهادي، رقم 2130. بلفظ: «تهادوا، فإن الهدية تذهب وحر الصدر…»، التمهيد لابن عبد البر (3/12). المقاصد الحسنة للسخاوي، رقم 351. وقال: وهو حديث جيد.

[25] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: ابن قيم الجوزية، تحقيق: عماد عامر، دار الحديث- القاهرة، طبعة 1426ﻫ/2005م، (2/44). قال في الدرجة الأولى من مقام الرجاء: «فإن من عرف قدر مطلوبه، هان عليه ما يبذل فيه».

[26] البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، رقم 6018. ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف…، رقم 47. الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الضيافة…، رقم 1967. أبو داود، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة، رقم 3748. ابن ماجة، كتاب الأدب، باب حق الجوار، رقم 3672.

[27] المعجم الأوسط: الطبراني، تحقيق، طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، ط1415ﻫ/1995م، رقم 7911. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال النبي r «إن أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم».

[28] المعجم الكبير: الطبراني، رقم 13468. بلفظ: عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي r فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله r: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له، أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام».

[29] المعجم الكبير، الطبراني، رقم 13152.

[30] طه الآية:131.

[31] الطلاق الآية 2.3.

[32] نوح، الآية 10 -11-12.

[33] المنافقون، الآية 7.

[34] المنافقون، الآية 7.

[35] المراسيل مع المسانيد: أبو داود، دراسة وتحقيق، الشيخ عبد العزيز عز الدين السيروان، دار القلم، الطبعة الأولى 1406   ﻫ/1986م. (ص175).

[36] المقاصد الحسنة: شمس الدين السخاوي، رقم 247.

[37] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب في التوكل على الله، رقم 2345.

[38] المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري، كتاب العلم، رقم 320. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ورواته عن آخرهم ثقات، ولم يخرجاه.

الصفحة السابقة 1 2
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق