مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

الغرب في حاجة إلى خطاب إسلامي جديد

 

*  الدكتور عبد القادر بطار

 

 أعتقد أن التحدي الأكبر الذي سيواجه المسلمين في بلاد الغرب بصفة خاصة، وفي البلدان العربية والإسلامية بصفة عامة، هو اختلافهم العقدي، واستصحابهم لجملة من المقالات العقدية والفكرية والمذهبية التي أنتجها ظروف سياسية معينة. بل إصرار بعض التيارات الإسلامية المعاصرة على تحويل تراثنا الفكري والعقدي والكلامي على اختلافه وتنوعه إلى عقائد إيمانية واجبة التصديق، يُكَفَّرُ مُُخالفُها، وفي أحسن الأحول الحكمُ بتبديعه وتفسيقه.
لقد بدأنا ندرك في الوقت الراهن أن بعض المسلمين لم يستطيعوا للأسف الشديد التخلص من بعض الآراء والمعتقدات التاريخية، التي ليس لها صلة بجواهر العقائد الإسلامية الإيمانية، بل تمثل تأويلا باطنيا لا يخفى على النظار، سواء تعلق الأمر بالمسلمين الذين يعيشون في بلاد الغرب، أم بالمسلمين الذين يعيشون في البلدان العربية والإسلامية، فمن العبث في بلاد الغرب التي اختارت مسارا ديمقراطيا حديثا، الحديث عن قضية الإمامة في صورتها الميتافيزيقية، كما تراها بعض التيارات الإسلامية أصلا من أصول العقيدة، وأنها كالنبوة، بل جعلها بعضهم فوق النبوة والرسالة، وأنها منصب إلهي، وأنها لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله، وقد تفرع عن هذه الأصول المبتدعة عقائد باطنية خطيرة، كالاعتقاد بإمامة الأئمة الإثني عشر وعصمتهم وتكفير من أنكر شيئا من ذلك(1).
إن إعادة إنتاج مثل هذا الخطاب السياسي العقدي الذي انتهى على الأقل منذ منتصف القرن الثالث الهجري، في بلاد الغرب التي أساس نظامها قائم على الممارسة الديمقراطية، بل وفي البلدان العربية والإسلامية ليعد ضربا من اللغو السياسي. كما أن حديث بعض التيارات الإسلامية السنية عن قضايا عقدية في غاية التجريد بدعوى تنزيه الخالق عز وجل، والتوسع في تطبيق مبدأ الولاء والبراء مع المسلمين ومع غير المسلمين،  ليعتبر إهدارا لعقيدة التوحيد القائمة على التسامح والبساطة والوضوح.  
بل نعتقد جازمين أن الفقه السياسي السني في مبحث الإمامة كنظام سياسي أقرب إلى فلسفة الغرب في بناء الدولة الحديثة، حيث تعتبر الإمامة من وجهة نظر الخطاب السني قضية مصلحيه، ترجع إلى حفظ مصالح العبادة عاجلا وآجلا.
إن الحفاظ على الوجود الإسلامي في بلاد الغرب في صورة مشرفة ومشرقة يقتضي الوعي بتراثنا العقدي الإسلامي، الذي اصطبغ بآراء واجتهادات تاريخية لم يعد لها ما يبررها اليوم، كما أنها لم تكتب لعصرنا بمشكلاته العقدية الجديدة. ومن هذا المنطلق فإن الخطاب الإسلامي في بلاد الغرب بصفة خاصة، وفي البلدان العربية والإسلامية بصفة عامة، مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى البحث عن سبل فعالة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والفصل بين الدين في سموه وتعاليه وبين فهم الدين وتفسيره وتأويله كاجتهاد بشري، وإيجاد إطار علمي وموضوعي لاستيعاب الاختلافات المذهبية، والتعايش مع غير المسلمين، والنظر إليهم بعين التكرم التي نص عليها ديننا الإسلامي الحنيف، في قوله عز وجل” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” [الإسراء: 70] والتعامل معهم أيضا في إطار الرحمة الكونية التي ميزت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في قوله عزوجل: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” [الأنبياء: 107]”.
إن المسلم الذي قدر له أن يعيش في بلاد الغرب، بما يعرفه هذا الغرب من تنوع ثقافي وفكري وعقدي وحضاري … خليق به أن يكون لبنة أساسية، وإضافة متميزة في بناء جوانب من الحضارة الإنسانية، بما يملكه من قيم إسلامية سمحة، وتراث إسلامي عظيم، يساعده على إسعاد الناس في معاشهم، لعلهم يهتدون إلى معادهم.
ولكن إذا كان هذا المسلم لا يتعايش حتى مع المسلمين أنفسهم، لأسباب عقدية ومذهبية ضيقة، فأنى له أن يتعايش مع غير المسلمين ويقبل بهم على الرغم من وجوده بين ظهرانهم واستفادته من أنظمتهم الاجتماعية ؟ بل قد يذهب به الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة في التعامل مع غير المسلمين إلى حد اعتبار دارهم دار حرب، فيعيش في تناقض وجداني لا يخفى.
لقد نافش بعض الفقهاء حكم الإقامة في البلدان غير الإسلامية، ولهم في ذلك آراء واجتهادات يؤجرون عليها، ولكن الواقع لا يرتفع كما يقال، ومن ثم فإن أي مسلم يعيش في بلاد الغرب ينبغي له أن يتعايش مع غير المسلمين، وأن يعتبر دارهم دار دعوة، وأن يمارس الدعوة بسلوكه وأخلاقه قبل أن يمارسها بعلمه، إن كان من أهل العلم، وأن يعمل سويا مع غير المسلمين من أجل تحقيق المصالح الإنسانية المشتركة، ونشر ثقافة الأمن والسلام، وأن يسهم في حل المعضلات الاجتماعية والمشكلات الأخلاقية التي يتخبط فيها العالم اليوم، بل ينبغي لأي مسلم في أي مكان وجد أن تكون له القدرة على تجاوز بعض الآراء والأفكار التي ليست من جوهر الدين الإسلامي الحنيف في شيء.
لقد أفرزت خريطة الوجود الإسلامي في بلاد الغرب أن بعض المسلمين ممن ينتمون إلى مدرسة أهل السنة والجماعة، مفتونون بمشاكل عقدية فلسفية بحتة، خاض فيها علماؤنا قديما لأسباب موضوعية، تتعلق باحتكاك المسلمين بالفلسفة اليونانية من جهة، وبجملة من العقائد والمذاهب الدينية المخالفة من جهة أخرى. فتكلموا حيث سكت السلف، وخاضوا فيما خاض فيه الخلف.
لقد غاب عن هؤلاء، أن السلف الصالح ظلوا في مجال العقائد الإيمانية متمسكين بالوحي، المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، في بساطتهما وقدسيتهما، ولم يناقشوا البتة مسألة الإيمان في صلته بالعمل، والتي تحولت فيما بعد إلى مشكلة كلامية، بل اختاروا العمل المؤسس على الإيمان الراسخ، كما أنهم لم يخوضوا في البحث عن حقيقة الذات الإلهية وعلاقتها بالصفات، بل آمنوا بالله سبحانه وتعالى وصفاته إيمانا قويا، مبنيا على مقدمات وجدانية، ولم يجادلوا في مسألة القضاء والقدر، أو الجبر والاختيار، بل أمنوا بذلك كله، وعملوا وشيدوا في إطار إيمانهم القوي بعقيدة القضاء والقدر ذاتها، فقدوا للعالم نموذجا حضاريا إنسانيا جديدا. ولم يجادلوا في طبيعة كلام الله عز وجل، كما فعل من جاء بعدهم من الفرق الإسلامية، الذين جعلوا من هذه المسألة مشكلة كلامية زائفة شغلت الناس فترة غير قصيرة من الزمن، بل آمنوا بالقرآن الكريم بوصفه كلام الله عز وجل غير مخلوق، وتفاعلوا معه، وتمثلوا أحكامه، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية منطلق تفكيرهم وإبداعهم، وفي أحضانهما ازدهت العلوم الإسلامية بمختلف فروعها.
من المفارقات العجيبة في عصرنا الحاضر أن الخطاب السلفي المعاصر، الذي تأسس على قاعدة التجديد ونبذ التقليد، على يد علمائه المتنورين، أصبح اليوم يعادي كل جديد، بل نجده غارقا في التقليد، متنكرا لتراث أمته وتاريخها المجيد. ومن الأخطاء الشنيعة التي يقع فيها الخطاب السلفي اليوم متابعة للخطاب الحنبلي المتقدم معاداته للتراث الأشعري والتراث الفلسفي الإسلامي والتراث الصوفي بإطلاق … واصفا هذا التراث الإسلامي والإنساني العظيم بالابتداع والضلال.
ومن أجل تجاوز عوائق تجديد الخطاب الإسلامي في بلاد الغرب وإيجاد ميثاق عقدي للتعايش السلمي بين المسلمين المقيمين في بلاد الغرب من جهة ، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة أخرى، فيمكن الحديث عن أسس هذا التعاقد على النحو الآتي:
التعايش بين المسلمين في بلاد الغرب:
لا أحد يجادل في اختلاف المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور معدودة، غير أن أعظم خلاف وقع بينهم يرجع إلى مسألة الإمامة أو الخلافة. وإذا كان أمر الخلافة قد حسم بمبايعة أبي بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، رضوان الله عليهم أجمعين، فإن تصدع المسلمين واختلافهم في مسألة الإمامة ظهر أيضا في أواخر عهد عثمان، و في زمان علي بن أبي طالب رضوان الله عنهما.
وإذا كان المؤرخون يذكرون الاختلافات التي ظهرت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنهم يسجلون أنها خلافات طبيعية لم تمس جوهر الدين، سرعان ما انصهرت في إطار الشورى كمبدأ إسلامي سام، أو بعبارة أخرى فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يختلفوا في العقائد الإيمانية، بل كانوا جميعهم على كلمة واحدة، هي ما جاء في كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللإمام الأشعري رحمه الله كلام نفيس في هذا الموضع، فقد قرر في كتابه مقالات “الإسلاميين واختلاف المصلين” أن الإسلام يستوعب جميع الفرق الإسلامية، على الرغم من اختلافهم في كثير من المقالات فقال:
“اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة، ضلل فيها بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم، ويشتمل عليهم”(2).
ومما أثر عنه أيضا أنه قال، لأحد جلسائه وهي آخر كلمة صدرت عنه كما وثقها أهل العلم: ” اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات”(3).
ضرورة التميز بين العقائد العامة والعقائد الخاصة:
أعتقد أن كثيرا من الاختلافات التي وقعت بين الفرق الإسلامية قديما والتي لا يزال بعضها متفشيا بين المسلمين ترجع إلى عدم التمييز بين العقائد الخاصة والعقائد العامة، وأن الأولى موضوع إجماع بين المسلمين، أما الثانية فهي التي وقع فيها الخلاف. إضافة إلى إدراج قضايا سياسية ضمن مباحث العقيدة كمسألة الإمامة عند الشيعة.
  إن الناظر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة يدرك بجلاء أن هناك عقائدَ عامة يشترك في الإيمان بها جميع المسلمين، باعتبارها أصولا ثابتة، وبوصفها حدا فاصلا بين الإيمان والكفر، ولكونها من ضروريات الإسلام، من ذلك: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الأخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. هذا فيما يتعلق بجانب الاعتقاد، أما جانب العمل فيتمثل في الشهادتين، والصلاة، والزكاة والصوم والحج.  فهذه العقائد هي التي تمثل الإيمان والإسلام في علاقتهما الجدلية، وهي التي دل عليها القرآن الكريم، وأرشدت إليها السنة النبوية المطهرة، وهي التي تضمن للمسلم كافة حقوقه الشرعية، ويصبح بمقتضاها محرم الدم والمال والعرض …
أما العقائد الخاصة، فهي عبارة عن تأويلات واجتهادات لجزيئات العقيدة، التي ترجع إلى العقائد العامة. وهي التي يسميها الإمام الأشعري بدقيق علم الكلام، وهي التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الإسلامية، بل نجد هذا الخلاف ظاهرا حتى داخل المدرسة الكلامية الواحدة، فمثلا الإيمان بالله عز وجل من ضروريات العقائد الإسلامية، وهو موضوع إجماع بين الفرق الإسلامية كلها، ولكن هناك أمور تتصل بهذا المعتقد وقع فيه خلاف لا يخفى، مثل رؤية الله عز وجل، وكلامه سبحانه وتعالى، وتنزيهه عن المكان، ومشكلة الصفات والأسماء، فهذه المسائل وقع فيها خلاف، وللمعتزلة فيها مقالات وآراء يخالفون فيها مدرسة أهل السنة والجماعة، وهؤلاء لم يكفروا المعتزلة بسبب آرائهم على الرغم من خطئها البين، لأنها ناتجة عن تأويلات واجتهادات يحتملها النص الديني.
التعايش مع غير المسلمين:
اهتم الفقه الإسلامي بغير المسلمين، وهناك اجتهادات فقهية كثيرة تخص هؤلاء، وفي أحوال كثيرة، في حالة السلم وفي حالة الحرب وفي حالة وجود أقليات غير إسلامية في البلاد الإسلامية، أو وجود مسلمين في بلدان غير إسلامية … وحسبنا أن نشير إلى الجوانب الإنسانية التي يلتقي فيها المسلمون مع غيرهم، والتي يمكن اعتماده أساسا للتعايش المشترك:
حرية الاعتقاد:
من المبادئ الأساسية المقررة في الدين الإسلامي الحنيف أنه لا يُكْرِهُ أحدا من غير المسلمين على الدخول في الإسلام، بعدما تبين الحق من الباطل، وأن الاختلاف في العقائد الواقع في الكون لا يخرج عن مشيئة الله تعالى وحكمه وعدله “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ” [يونس: 99] ويفسر بعض العلماء هذه الآية بقوله: إن عند الله لطفا لو أعطاهم كلهم لآمنوا جميعا، لكنه إذا علم أنهم لا يؤمنون لم يعطهم، وهو التوفيق والعصمة، لكنه إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون شاء ألا يؤمنوا(4).
وقوله عز اسمه أيضا: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ” [هود : 118- 119]
وقوله جل شأنه أيضا: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً” [الكهف: 29]وقد فسر بعض العلماء هذه الآية تفسيرا يزيل عنها كل لبس، من خلال التأويلات الآتية:
الأول: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإنه إنما يعمل لنفسه، ليس يعمل لأحد سواه، كقوله” مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا “ِ [فصلت: 46]  وقوله: “إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا”ً [الإسراء: 7]الثاني: يقول: إني بلغت الرسالة إليكم فلا أكرهكم أنا على الإسلام ولا أحد سواي، فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإنه أنما يؤمن باختياره و مشيئته، ومن كفر فإنما يكفر باختياره ومشيئته لا يكره على ذلك.
الثالث: أن الإيمان والكفر قد بين الله مآلهما، بين عاقبة من اختيار الإيمان، وعاقبة من اختار الكفر… فمن شاء اكتسب لنفسه في العاقبة الجنان، وما فيها من النعيم، ومن شاء اكتسب ما ذكر في العاقبة من النار وأنواع العذاب، فذلك يخرج كله يخرج مخرج الوعيد(5).
أجل جاء الإسلام بنقد صريح لكثير من العقائد وبين مواطن الانحراف فيها، سواء تلك التي تستند إلى الوحي، أم تلك التي لا سند لها، لقد تحدث الوحي عن أهل الكتاب، وخصص لهم مساحة واسعة، وبين حدود التعامل مع هؤلاء. والذي ينبغي معرفته في هذا الباب هو أن الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية الاعتقاد، وأنه لا يجوز إكراهُ غير المسلمين على ترك دينهم، وهذا قبل دخولهم في الإسلام، قال تعالى: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة : 256]
وفي نطاق مبدأ التسامح الديني مع غير المسلمين لم يأذن الإسلام للمسلمين في النيل من الأديان الأخرى سدا للذريعة، وحفاظا على التعايش السلمي مع أصحاب تلك الأديان:” وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” [الأنعام: 108]
العلاقات الإنسانية:
هناك أسئلة ساذجة تشغل بال بعض المسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وهي أسئلة تفرضها العلاقات الإنسانية اليومية، من قبيل حكم تهنئة غير المسلمين وعيادتهم وتعزيتهم والإهداء إليهم ومشاركتهم مختلف مناسباتهم … وهي أسئلة يجد فيها بعض المتشددين فرصة لتقديم الإسلام في صورة بعيدة عن قيم التسامح والرحمة التي هي من خصائص الشريعة الإسلامية السمحة.
لقد حث القرآن الكريم أتباع الإسلام على الالتزام بقيم العدل والبر في تعاملهم مع غير المسلمين، قال تعالى:” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [الممتحنة: 8] وانطلاقا من هذه الآية الكريمة فإن المسلم مدعو إلى التعامل مع غيره في إطار العدل والبر، وهما مبدآن أساسيان في مجال المعاملات الإنسانية.
يقول الإمام القرطبي في تفسير لهذه الآية الكريمة: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم … وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة، واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة، قال: نعم(6).
وإذا كانت الآية الكريمة تأمر أتباع الإسلام بالإحسان إلى غير المسلمين، الذين لم يقاتلوا المسلمين، لأنها وردت في سياق الحديث عن الحرب، فإن الإحسان إلى غير المسلمين في الأحوال العادية من باب أولى.
إن الإسلام الذي يحدث أتباعه على التعامل مع غير المسلمين في نطاق من القيم الإنسانية السامية، كمبدأ تكريم الإنسان، والرحمة والعدل والمساواة والوفاء بالعهد والتسامح… لا يمكنه أن يأمر أتباعه بسلوك يناقض هذه المبادئ الكونية البتة.   
أعتقد أن تمسك المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية بصورة صحيحة، في البلدان غير الإسلامية، واندماجهم بشكل إيجابي في الحياة العامة سيزيدهم قوة ومناعة واحترما وتقديرا من قبل غير المسلمين.
أما المشتغلون في حقل الدعوة في بلاد الغرب فعليهم أن يستفيدوا من التراث الفقهي الإسلامي بما يزخر به من مبادئ إنسانية سامية، وقيم كونية عالية، ينبغي أن تكون منطلقا لقضية تجديد الخطاب الإسلامي في بلاد الغرب، من بين تلك المبادئ السامية: حرية الاعتقاد، المساواة بين المسلمين وغيرهم في المعاملات الإنسانية، العدل، الإنصاف، التسامح، الوفاء بالعهد، الرحمة، البر، الأمن السلام، من أجل الإسهام في إسعاد البشرية وتطوير الحضارات الإنسانية.” وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” [المطففين: 26]والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

*  أ. د. عبد القادر بطار، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بجامعة محمد الأول بوجدة.

 

هوامش:

(1) ينظر كتاب الحجة من أصول الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الصفحة 95 وما بعدها، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت  لبنان، الطبعة الأولى 2005. ينظر أيضا كتاب عقائد الإمامية للشيخ رضا المظفر، الصفحة 89، طبعة دار الإرشاد الإسلامي بيروت الطبعة الثانية 1988.
(2) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الصفحة 2عني بتصحيحه هلموت ريتر.
(3) سير أعلام النبلاء للذهبي 15/88.
(4) تأويلات أهل السنة، تفسير الإمام أبي منصور الماتريدي 678.
(5) المصدر السابق 7166.
(6) الجامع لأحكام القرآن المجلد التاسع الصفحة 57  طبعة دار الحديث القاهرة، بدون تاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق