مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

العُجب” آفة من آفات القلوب المهلكة… أسبابه وبواعثه وطرق التخلص منه

     تُعد آفة العُجب من بين الآفات القلبية المذمومة التي تُحبط الأعمال، وتُضعف نور الإيمان في القلوب وتُغير مسار بوصلتها وتفقدها قيم الإخلاص في العبادات وصدق التوجه إلى الله جلت قدرته. يقول ابن حزم: “وإن العُجْب من أعظم الذنوب وأمحقها للأعمال”[1]. ويقول ابن القيم: “لا شيء أفسد للأعمال من العُجْب ورؤية النفس”[2].

     فالمُعجب بنفسه كثيراً ما يَغترُّ بنفسه وشكله، وصورته وهيئته أو عِلمه وعَمله ودينه… يستعظم الأعمال ويضيفها إلى نفسه مع نسيان إضافة فضلها وكرمها إلى الله سبحانه وتعالى. فتُصرفه آفة العُجب عن شُكر الله عز وجل إلى شكر نفسه ونسبة الفضل لها. قال الماوردي: “وأما الإعجاب فيُخفي المحاسن، ويُظهر المساوئ، ويُكسب المذام، ويصد عن الفضائل، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أن العُجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”[3].

     ولآفة العجب تأثيرات سلبية ومخاطر عظيمة تُولّدُ في القلب جُملة من الأمراض الباطنية، كالكبر، والغرور، والحقد، والحسد والرياء… وقد ورد في ذمها آيات بينات من الذكر الحكيم وأحاديث نبوية شريفة، وأقوال العلماء؛ ففي القرآن الكريم ورد قوله تعالى: “وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ اَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا” [الكهف: 32-35]. قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: “ضرب مثلًا للفريقين: للمشركين، وللمؤمنين، بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبًا مؤنقًا، وحال الآخر بخلاف ذلك، فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة.. خسارةً، وكانت عاقبة الآخر نجاحًا، ليظهر للفريقين ما يجرُّه الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الإزراء، وما يلقاه المؤمن المتواضع، العارف بسنن الله في العالم، من التذكير، والتدبر في العواقب، فيكون معرضًا للصلاح والنجاح”[4].

     وقال تقدست أسماؤه: “وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”[لقمان: 17]. قال ابن كثير: “لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم… وقوله تعالى: “وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحًا”. أي: خيلاءً متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يبغضك الله، ولهذا قال جلت قدرته: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. أي: مختال معجب في نفسه فَخُورٍ. أي: على غيره”[5]. وفي معرض آخر قال تعلى: “وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحًا اِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا” [الإسراء: 37-38]. يقول العز بن عبد السلام في تفسير هذه الآية: أي أنك لن تخرق الأرض ولا تبلغ الجبال طولًا، فلذلك لا تبلغ ما تريده بكبرك وعجبك… فقد زجره عن التطاول الذي لا يدرك به غرضًا”[6]. وقال جلا وعلا: “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ اِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ” [التوبة: 25]. قال جعفر: “استجلاب النصر في شيء واحد، وهو الذلة والافتقار والعجز… وحلول الخذلان بشيء واحد وهو العُجْب…”[7].

     وفي السنة النبوية الشريفة وردت أحاديث نبوية كثيرة في ذم آفة العجب ومنها: عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: “قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مهلكات وثلاث مُنجيات… وأما المُهلكات فشحٌ مطاع، وهو مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأما المُنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلنية”[8] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم من بني آدم وآدم من تراب”[9].

حقيقته ومفهومه

     قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب”[10]، وقال ابن حجر: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: “إِعْجَاب الْمَرْء بِنَفْسِهِ هُوَ مُلَاحَظَته لَهَا بِعَيْنِ الْكَمَال مَعَ نِسْيَان نِعْمَة اللَّه, فَإِنْ اِحْتَقَرَ غَيْره مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْر الْمَذْمُوم”[11]، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ. وَلَيْسَ إلَى مَا يُكْسِبُهُ الْكِبْرُ مِنْ الْمَقْتِ حَدٌّ، وَلَا إلَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعُجْبُ مِنْ الْجَهْلِ غَايَةٌ، حَتَّى إنَّهُ لَيُطْفِئَ مِنْ الْمَحَاسِنِ مَا انْتَشَرَ، وَيَسْلُبَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا اشْتَهَرَ. وَنَاهِيَك بِسَيِّئَةٍ تُحْبِطُ كُلَّ حَسَنَةٍ وَبِمَذَمَّةِ تَهْدِمُ كُلَّ فَضِيلَةٍ، مَعَ مَا يُثِيرُهُ مِنْ حَنَقٍ وَيُكْسِبُهُ مِنْ حِقْدٍ”[12].

     وقد ورد في بعض الأخبار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “ثلاثة مُهلكات شُحٌ مُطاع وهو مُتبع وإعجاب المرء بنفسه”[13] ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: “لا تظن أنك تسلم بنية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعُجب..”[14]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “الهلاك في شيئين؛ العجب والقنوط، وإنما جمع بينهما؛ لأن السعادة لا تُنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب، والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى”[15].

أسبابه وبواعثه

     يقول الإمام ابن حزم الظاهري: “التعجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي، وهذه أسماء واقعة على معانٍ مُتقاربة ولذلك صعب الفرق بينهما على أكثر الناس فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة، فمن معجب بعلمه فيكفر ويتعالى على الناس، ومن معجب بعلمه فيترفع، ومن معجب بجاهه وعلى حاله فيتكبر ويتنخى”[16].

     أما الإمام أبو حامد الغزالي فقد تحدث كذلك عن جملة من هذه الأسباب ومنها: “أن يُعجب المرء ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته، وتناسب أشكاله وحسن صوته… وأن يُعجب ببطشه وقوته… وأن يُعجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له… والعجب بكثرة العدد من الأولاد والأقارب… ويكون العجب كذلك بالمال.. والعجب بالرأي الخطأ لقوله تعالى: “أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا”[17].

في بيان الدواء الذي يطهر القلب من هذه الآفة

     يصف الإمام أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور الحيري النيسابوري، والإمام ابن حزم الظاهري والإمام أبو حامد الغزالي الدواء الذي يُريح القلب من خطورة هذه الآفة فالإمام أبو عثمان الحيري النيسبوري على سبيل المثال فقد رأى أن الدواء يَكمُن في صُحبة أولياء الله الصادقين بقوله: “من صحب نفسه صحبه العجب ومن صحب أولياء الله وفق للوصول إلى الطريق إلى الله”[18] أما الإمام ابن حزم الظاهري؛ فإنه يُبين للمعجب مجموعة من الحلول بقوله: “وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة…فلا تقابلها بما يسخطه”[19] ويقول كذلك: “واعلم أن إعجابك بالمال حُمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط والمال أيضا غاد ورائحٌ عنك… فالعُجب بمثل هذا سخفٌ والثقة به غرور وضُعف”[20] أما الإمام أبو حامد الغزالي فإنه يذكر “أن الإنسان المُعجب بماله عليه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه، وعظيم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة”[21].

     أما من أعجب بنسبه فيقول الإمام ابن حزم الظاهري في هذا المضمار: “وإن أعجبت بنسبك فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا؛ لأن الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة وأنظر هل يدفع عنك جوعة أو يستُر لك عورة أو ينفعك في أخرتك؟”[22]. ويقول ابن حزم كذلك “وإن أعجبت بخيرك، فتفكَّر في معاصيك، وتقصيرك، وفي معايبك ووجوهها، فو الله لتجدنَّ من ذلك ما يغلب على خيرك، ويعفي على حسناتك، فليطل همك حينئذ من ذلك، وأبدل من العُجْب تنقيصًا لنفسك “[23].

     وخلاصة القول أن آفة العُجب تعد من المهلكات القلبية التي ورد النهي عنها في القرآن وفي السنة النبوية. وليتذكر الإنسان أن الفضل لله عز وجل هو المُعطي وهو صاحب النعمة وليعلم  كذلك أن كُل خصلة أو مرتبة وصل إليها، إنما هي بفضل الله وتوفيقه ورعاية جلت قدرته، وبالتالي فلا يعجب المرء بعمله، ولا بعلمه، ولا بغناه، ولا بماله… وليرجع كل ذلك لله تعالى، الذي جعل الإنسان محلاً لفيوضات الخيرات والنعم عليه.

يتبع …

  1. رسائل ابن حزم: (3/ 180)، تحقيق الدكتور إحسان عباس المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1987م.
  2. الفوائد، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، (ص: 152)، تحقيق محمد عزيز شمس دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.
  3. أدب الدين والدنيا تأليف أبي الحسن الماوردي (ص: 247)، شرح وتعليق محمد كريم راجح دار اقرأ بيروت، الطبعة الرابعة: 1405هـ/1985م.
  4. التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر بن عاشور، (15/ 315)، الدار التونسية للنشر، 1984.
  5. تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ، وضع حواشيه وعلق عليه محمد حسين شمس الدين، (6 /302-303) -دار الكتب العلمية، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1419هـ/ 1998م.
  6. التفسير العظيم للعز بن عبد السلام، (2/ 219) علق عليه أحمد فتحي عبد الرحمن دار الكتب العلمية الطبعة الأولى بيروت لبنان 1971م.
  7. تفسير السلمي، (1/ 272)- تحقيق سيد عمران، الناشر دار الكتب العلمية1421هـ-2001م.
  8. معجم الزوائد ومنبع الفوائد، للإمام أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، (المتوفى: 807هـ)، (1/ 91)- باب المنجيات والمهلكات، بتحرير الحافظين الجليلين العراقي وابن حجر، الطبعة 1414هـ، 1994م، منشورات دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
  9. مختصر مناهج القاصدين، تأليف الإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي علق عليه سعيد الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط (ص: 254) مكتبة دار البيان دمشق مؤسسة علوم القرآن للطباعة والنشر.
  10. أدب الدين والدنيا تأليف أبي الحسن الماوردي، (ص: 247) شرح وتعليق محمد كريم راجح دار إقرأ بيروت الطبعة الرابعة 1405هـ/1985م.
  11. فتح الباري في شرح صحيح الإمام البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (10/ 261)، “باب من جر ثوبه من الخيلاء”- رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه واستقصى أطرافه ونبه على أرقامه في كل حديث: محمد فؤاد عبد الباقي، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب مكتبة نور فتح الباري.
  12. كتاب أدب الدنيا والدين، الفصل الأول في مجانبة الكبر والإعجاب، (ص: 237) -المكتبة الشاملة الحديثة.
  13. العقد الفريد: للإمام أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، (3/ 167). تحقيق عبد القادر عطا الطبعة الأولى دار الكتب العلمية.
  14. بداية الهداية: للإمام أبي حامد الغزالي، (ص: 85). دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشت مكتبة القرآن القاهرة 1985.
  15. مختصر مناهج القاصدين، تأليف الإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (ص: 234). مكتبة دار البيان دمشق مؤسسة علوم القرآن للطباعة والنشر، 1398هـ – 1978م.
  16. الأخلاق والسير في مداواة النفوس، للإمام ابن حزم الظاهري (ص: 75).
  17. إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، (3/ 374). دار المنهاج للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1432هـ/2011م.
  18. طبقات الصوفية للسلمي، (ص: 144). تحقيق مصطفى عبد القادر عطا الطبعة الأولى 1998م/1419هـ دار الكتب العلمية.
  19. الأخلاق والسير في مداواة النفوس للإمام ابن حزم الظاهري، (ص: 68).
  20. نفسه، (ص: 70).
  21. إحياء علوم الدين، للإمام أبي حامد الغزالي، (3/ 377).
  22. الأخلاق والسير في مداواة النفوس، للإمام ابن حزم الظاهري، (ص: 71-72).
  23. رسائل ابن حزم: (3/ 181) تحقيق الدكتور إحسان عباس المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1987م.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق