الرابطة المحمدية للعلماء

العمل الصوفي وأخلاق الحرية

د. طه عبد الرحمن: تاريخ العمل الصوفي هو تاريخ الصراع ضد الشهوات سعيا لإخلاص الوجهة لله

بمبادرة من الطريقة القادرية البودشيشية ألقى المفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمان محاضرة حول موضوع ” العمل الصوفي وأخلاق الحرية” يوم الأربعاء 27 ماي 2009 بقاعة باحنيني التابعة لوزارة الثقافة بالرباط من الساعة التاسعة مساء إلى حوالي منتصف الليل.

 استهل الأستاذ طه محاضرته باستعراض نقدي مكثف لمفهوم الحرية في الأنظمة والأيديولوجيات الوضعية الكبرى الليبرالية، والديمقراطية، والجمهورية، والاشتراكية كاشفا ما يعتورها جميعا من تناقض وقصور بفعل رهاناتها الدنيوية المحكومة بحسابات وموازين قوى أرضية زائلة مشدودة لهوى السوق، وسطوة الرأي العام، وشكلانية القانون..

بعد ذلك اقترح العمل الصوفي كأداة للخلاص من مختلف المآزق التي تعاني منها هذه الأنظمة والأيديولوجيات، وترشيد مفهوم الحرية ضمنها بما ينسجم مع ما أسماه المحاضر بـ ” قوانين الوجود الإنساني”:

قانون التناسي؛ ومقتضاه أن من نسي الحق تعالى من نفسه استحق نسيان الحق له. مبرزا أن طلب الحرية بغير طلب الله يؤدي إلى نقيضها ليغدوا عدم التدخل تدخلا، وعدم التسلط طغيانا، والمشاركة عزوفا..
قانون التأنيس؛ ومقتضاه أن الفرد لا يكون له من الوجود الإنساني إلا ما يتصف به من أخلاق الفطرة..وهي الأخلاق التي أبرز الأستاذ طه أنها تتسم بثلاث خواص؛ أولها أن كل الأديان السماوية ذكرتها..وثانيها أن الحق سبحانه وتعالى فطر الناس عليها..وثالثها أنها تعبر عن قيم كونية تشمل الإنسانية جمعاء..
قانون التناهي؛ ومقتضاه أن قدرة الإنسان تكون دوما في حالة تعلق بالقدرة الإلهية..

انطلق المحاضر من مفهوم للحرية مفاده أن “الحرية هي أن يتعبدك الحق باختيارك، وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك.” مبرزا أن التعبد لله نوعين؛ تعبد اضطراري ليس بواسطة الفرائض وإنما بفعل سنة الله في ملكوته التي بمقتضاها تخضع كل المخلوقات لسلطانه القاهر بوعيها أو بغير وعيها..وتعبد اختياري ليس بواسطة النوافل وإنما من خلال تخيير الله لعباده أن يطيعوه ويمتثلوا لأمره أو أن يعصوه. بحيث أن في هذا التخيير يكمن مدلول الأمانة التي حملها الحق للسموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان..

يترتب عن هذا التخيير، من وجهة نظر، طه عبد الرحمن النتائج التالية:
التعبد للحق ليس استعبادا؛ لأن الله لا يستعبد عباده وإنما يتعبدهم، فهو تحرر كلي صريح لأن الأصل في هذا التعبد هو الاختيار القائم على حرية شاملة ومزدوجة بموجبها يكون الحر هو من لا يملكه أي شيء ولا يملك من أمره شيئا انطلاقا من أن “الحر هو من اختار أن يملكه الله بالكلية” وترك ، تبعا لذلك، الاختيار مع الله..  وفي هذا المعنى يقول الدكتور طه عبد الرحمن: “أن يخير الإنسان بين أن يكون حرا أو مستعبدا أدل على حريته من أن يكره على أن يكون حرا”.
الاستعباد ليس مرتبة واحدة وإنما درجات أو الأحرى دركات..

 الاستعباد الباطن هو أصل الاستعباد الظاهر.. ويلزم على هذا حقيقتين أجملهما طه عبد الرحمان في أن الإنسان إما أن يتعبد للحق، وإما أن يستعبده الخلق؛ فلا يكاد يخرج من استعباد حتى يلج في استعباد أضنك منه..
لما خلت الحريات الوضعية من ركن التعبد وجب أن تكون حريات ناقصة لأن الاستعباد يلازمها باطنا وظاهرا..
  وعن دلالة العمل الصوفي وأهم خصائصه ومميزاته، حدده الأستاذ طه بكونه كل عمل يتوصل به إلى تحقيق هدف مخصوص بواسطة وسيلة مخصوصة، بحيث أن الذي يضفي المعقولية على هذه التركيبة هو الهدف أو المقصد الكلي الذي يرمي إليه، من منطلق أن تحديد الهدف يشكل بداية تحديد المعقولية..

 وانسجاما مع ذلك، فإن العمل الصوفي له من المعقولية ما ليس لغيره من الأعمال. كما أن “المعقولية الصوفية” تعد، من وجهة نظره، أسمى معقولية بالنظر إلى استهدافها تحقيق حرية الإنسان على الوجه الأكمل وبأزكى الوسائل سعيا للتعلق بالإرادة الإلهية..

وبهذا المعنى فإن العمل الصوفي عند طه عبد الرحمان هو الاجتهاد في التعبد لله بالقدر الذي يتوصل به إلى تخليص الإنسان من مختلف أشكال الاستعباد.. وهذا التعريف كما هو جلي مبني على التعريف الذي سبق أن حدده للحرية..

أما خصائص العمل الصوفي فقد أجملها في الخصائص التالية:
العمل الصوفي عمل نموذجي لا يضاهى في استيفاء شروط العمل؛ ولذلك سمي صاحبه عمالا وليس مجرد عامل..لا يطلب العمل لذاته وإنما للعمل به..
عمل تحويلي؛ يحول لأنه يدور في جوهر الإنسان..فعقل الصوفي ليس كعقل غيره؛ لأنه يتجاوز منطق الأسباب بفضل الاتصال المباشر بخالق الأسباب..
عمل تكاملي ينظر إلى الحياة في كليتها وفق منظور ترتبط فيه الذات بنفسها، وبباريها، والآخرين من حولها، وبسائر الكائنات في هذا الوجود..
عمل استمراري؛ ليست له نهاية وإن كانت له بداية..
ليست له وثيرة واحدة وإنما هو في تبدل مستمر..ولذلك يبرز المحاضر أن التجدد هو قانون تعبد الصوفي الحقيقي..لتراكم آثار العبادة الروحية على نفسه وليس لمجرد تجديد النية..
يشكل العمل الصوفي نموذجا خاصا..

العمل الصوفي ليس من جنس الأعمال الأخرى؛ فهو عامل إحياء روحي لها جميعا..
 مؤسسة العمل الصوفي ليست من جنس المؤسسات الأخرى التي تقوم على تدبير الشأن الدنيوي..بينما الشأن الدنيوي في المنظور الصوفي موصول بالشأن الأخروي اتصالا لا ينفك..
العمل الصوفي يتسع للعالم كله..

العمل الصوفي لا يمكن أن يكون محل تدخل أو تسلط..ولذلك فإن السلطة السياسية كلما سعت إلى التحكم فيه إلا أجهزت عليه.. وفي هذا السياق يورد الأستاذ طه الفروق الجوهرية بين التربية الوطنية والتربية الصوفية؛ فبينما تربي الأولى على الولاء للدولة من خلال قيم المواطنة، فإن الثانية تربي على المخالقة.. ولذلك فالمحاضر لم يتردد في التأكيد على أن الإنسان أحوج إلى المخالقة من المواطنة؛ بحيث إذا حصلت له المخالقة استغنى عن المواطنة..

وفي هذا الإطار يعتبر المحاضر أن العمل الصوفي يسهم في تخليق السياسة، وأن الأصل في العمل السياسي أن يبنى على المعاقلة.. كما أن السياسة التي لا تقر بالنسبية تصبح دينا وضعيا..
تاريخ العمل الصوفي هو تاريخ الصراع ضد الشهوات سعيا لإخلاص العمل والوجهة لله..

وفي ختام محاضرته استخلص طه عبد الرحمن أن المشكلة الأساسية إنما تكمن في نسبة الأفعال وكل الأشياء إلى الذات الإنسانية في حين كان الأولى أن تتم نسبتها إلى الله تعالى بالأصالة وإلى الإنسان بالتبعية..
وتعقيبا على تساؤلات المتابعين لهذه المحاضرة الغنية حرص الأستاذ طه عبد الرحمان على التمييز بين التصوف كتجربة روحية لا يتذوقها إلا من نازل المقامات الصوفية وبين علم التصوف الذي لا يغني عن التجربة الصوفية فتيلا.. كما فضل استعمال مفهوم “العبدية” و”العبدانية” لله على العبودية له تعالى..
مختتما محاضرته بقوله: “نحن لا نريد إلا أن تسود الروح الأخلاقية في المجتمع.. حتى يكون بناء الأمة بناء مرصوصا لا ينهد أبدا..”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق