مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

العلم وأنفع طـرقه

          يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:

           من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام. وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته فى الحياة الدنيا. غير أن ما علمه من ذلك على ضربين: ضرب منها ضروري، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة، كالتقامه الثدي، ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا- هذا من المحسوسات. وكعلمه بوجوده، وأن النقيضين لا يجتمعان – من جملة المعقولات، وضرب منها بوساطة التعليم، شعر بذلك أولا، كوجوه التصرفات الضرورية، نحو محاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات ومعرفة أسماء الأشياء – فى المحسوسات، وكالعلوم النظرية التى للعقل فى تحصيلها مجال ونظر- فى المعقولات.
وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر، فلا بد من معلم فيها. وان كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟ فالإمكان مسلم، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لابد من المعلم. وهو متفق عليه فى الجملة، وإن اختلفوا فى بعض التفاصيل، كاختلاف جمهور الأمة والإمامية – وهم الذين يشترطون المعصوم – والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة، من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك فهم مُقِرُّون بافتقار الجاهل إلى المعلم، علما كان المعلم أو عملا. واتفاق الناس على ذلك فى الوقوع، وجريان العادة به كاف فى أنه لا بد منه. وقد قالوا: “إن العلم كان فى صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدى الرجال”. وهذا الكلام يقضى بأن لا بد فى تحصيله من الرجال، إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم. وأصل هذا في الصحيح: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء” الحديث. فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك.

           فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به. وهذا أيضا واضح فى نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء، إذ من شروطهم فى العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه. فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه، وعرضنا أئمة السلف الصالح فى العلوم الشرعية، وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال.

           غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة. لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت. وربما تُصوِّر تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه – وهي فى نفس الأمر على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح، وأشباه ذلك. فلا يقدح فى كونه عالما، ولا يضر فى كونه إماما مقتدى به. فإن قصر عن استيفاء الشروط، نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان، فلا يستحق الرتبة الكماليَّة ما لم يكمل ما نقص”.

“وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم، وإن خالفتها فى النظر وهى ثلاث :

         إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله. فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به فى علم وهذا المعنى مبين على الكمال فى كتاب الاجتهاد والحمد لله.

       والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ فى ذلك العلم ، لأخذه عنهم وملازمته لهم ، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وهكذا كان شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر. فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا، حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض، والحكمة التى لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها. وإنما ذلك بكثرة الملازمة وشدة المثابرة. وتأمل قصة عمر بن الخطاب فى صلح الحديبية، حيث قال: يا رسول الله، ألسنا على حق، وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار؟ قال: بلى، قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال : يا ابن الخطاب، إني رسول الله ، ولم يضيعنى الله أبدا، فانطلق عمر ولم يصبر ، متغيظا ، فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك. فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا . قال : فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ، فقال يا رسول الله أو فتح هو؟ قال : نعم فطابت نفسه ورجع.

          فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم فى مواطن الإشكال، حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: “أيها الناس اتهموا رأيكم، والله لقد رأيتُنى يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته”، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن، فزال الإشكال والالتباس .

         وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم، فالتزم التابعون فى الصحابة سيرتهم مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال فى العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر فى الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وُجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف.
وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.
         والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واقتداء التابعين بالصحابة ، وهكذا فى كل قرن . وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعني بشدة الاتصاف به، وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى. فلما ترك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى. ولهذا المعنى تقرير فى كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى”.

وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:

            أحدهما: المشافهة، وهى أنفع الطريقين وأسلمهما ، لوجهين: الأول خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم فى كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة. وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدى المعلم ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه. وهذا ليس ينكر. فقد نبه عليه الحديث الذى جاء: “أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث حنظلة الأسيدى حين شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”، أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها”، وقد قال عمر بن الخطاب وافقت ربى فى ثلاث وهى من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا فى متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به، فهذا الطريق نافع على كل تقدير.

         وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك فقيل له فما نصنع؟ قال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة، وحكى عمر بن الخطاب كراهية الكتابة. وإنما ترخص الناس فى ذلك عندما حدث النسيان، وخيف على الشريعة الاندراس”.

         “الطريق الثاني مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين. وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:
        الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال:” كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال” والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء. وهو مشاهد معتاد.
       والشرط الثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم. وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري. فأعمال المتقدمين – في إصلاح دنياهم ودينهم – على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد. فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن. ومن طالع سيرهم، وأقوالهم، وحكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى. وأما الخبر ففي الحديث:” خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”. وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض”، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد شيء. ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق. وعن ابن مسعود أنه قال: “ليس عام إلا الذي بعده شر منه. لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم”. ومعناه موجود فى الصحيح فى قوله:” ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويُضلون”. وقال عليه السلام:” إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل” وفي رواية:”قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس”، وعن أبى إدريس الخولانى: “إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها، وإنما تمتلخ عروة عروة”، وعن بعضهم:” تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة”، وتلا أبو هريرة قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح }، ثم قال والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا، وعن عبد الله قال: “أتدرون كيف ينقص الإسلام” قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة. فقال عبد الله: “ذلك منه” ولما نزل قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم }، بكى عمر فقال عليه السلام: “ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله، إنا كنا فى زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فلم يكمل شيء قط إلا نقص. فقال عليه السلام: صدقت. والأخبار هنا كثيرة وهى تدل على نقص الدين والدنيا. وأعظم ذلك العلم. فهو إذا في نقص بلا شك.
فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم، أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط فى العلم على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى. وبالله تعالى التوفيق”.

الموافقات في أصول الشريعة

 للإمام أبي اسحاق الشاطبي المالكي (ت 790).

 من 1/64 إلى 1/68.
تحقيق فضيلة الشيخ عبد الله دراز
دار الكتب العلمية بيروت
.                                    

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق