مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

العقيدة واستقامة السلوك

جدير بالمرء أن يجدد إيمانه بين الفينة والأخرى وبين مناسبة وأخرى، ليستحث النفس على التزود بشحنات إيمانية، وذلك من خلال الوقوف على مراجعة بعض النصوص الدينية، يتخذها نبراسا يضيء به ظلمات هذه الحياة بتقلباتها الحثيثة والمتسارعة؛ سواء من آيات الذكر الحكيم أو من مشكاة النبوة الخاتمة، مصداقا لقول النبي عليه السلام: (جددوا إيمانكم)[1]..

وستتخذ هذه المقالة من الحديث النبوي الشريف منطلقا لها قصد التزود من مكنوناتها الإيمانية، وهو الحديث الوارد عن أبي عمر سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: (قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)[2] .

فكان جواب النبي عليه السلام للسائل:

أولا: بالإقرار بالتوحيد لله تعالى ومعرفته بربه،

وثانيا: بالاستقامة على طريق الدين عقائده وعباداته، معاملاته وآدابه.

فالحديث مقسم إلى شطرين هما: “الإيمان بالله” و”الاستقامة”.

وسنقف هنا لإبراز طريقة النبي عليه السلام في كيفية الانتقال من الاعتقاد إلى السلوك،

ولنبتدئ بذكر معاني العقيدة والاستقامة الواردين في الحديث،

ا- فمما ورد في معنى العقيدة أنها: إدراكات وتصورات عن الأشياء المحيطة بنا عن الكون وخالقه والحياة الإنسانية وتجلياتها، فإذا أضيف إليها تصديق الشرع، صارت إيمانا. وبذلك تشترك مصادرها ما بين الحس والعقل والخبر الوارد من الشرع، قال تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم/3-4)، ومن ثم وجب عقلا تصديق النبي في كل ما يخبر به من أحكام الشريعة وأمور الغيب.

ويتم التركيز في العقيدة كذلك على أن الله تعالى واحد مطلق الوحدانية منفرد بالخلق مطلق التفرد، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال، وأنه يرسل الرسل إلى الناس ليبينوا لهم طريق الحق والخير، مع الإخبار بعالم الغيب مما يندرج تحت باب السمعيات، ومن ثم يكون الناس مسؤولين أمام ما كلفهم به الشرع ويترتب على مسؤوليتهم الثواب والعقاب في الدار الآخرة.

ثم إنه في توجيه القرآن للناس في حياتهم اليومية للتعامل مع الكون المحيط بهم طلب منهم التدبر في الخلائق من حولهم، فقال تعالى:

(أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) (الروم/8).

وقال سبحانه: (فلينظر الإنسان مم خلق) (الطارق/5).

وقوله عز وجل: (فلينظر الإنسان إلى طعامه) (عبس/24).

وقوله عز من قائل: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) (الغاشية/ 17-20).

لكن ومع ذلك فإن العقل البشري قد لا يصل إلى إدراك جميع المخلوقات من حوله وما خفي عنه من أمور الغيبيات، ولذلك تكفلت العناية الإلهية بالإخبار بها حتى لا يتيه العقل البشري في التعرف عليها والإحاطة بها.

ب- أما الاستقامة فمعناها ما يجمع حسن العمل والسيرة على الحق والصدق،

قال تعالى: (فاستقيموا إليه واستغفروه) (فصلت/6).

وقال تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت) (هود/112).

وتطلق كذلك على الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف بما يتطلبه الأمر من الحاجة الدائمة إلى تحري الحدود وضبط الانفعالات السلوكية.

وانطلاقا من هذه المعاني التي أوردناها حول العقيدة والاستقامة فإننا نعتبر أنه متى صحت عناصر الإيمان في الإنسان، استقامت سلوكياته وصار بذلك أطوع للاستقامة على طريق الحق والخير، وأقدر على التحكم في أنواع سلوكه وضبطها بما يدفع عنه الضر والألم وسائر المفاسد.. وتلك هي النتيجة التي نصل إليها وهي الجمع بين العقيدة والسلوك كما ورد في الحديث النبوي الذي اتخذناه مفتاحا هنا وهو قوله عليه السلام: (آمنت بالله ثم استقم).

وإذا كانت النفس البشرية بحسب فطرتها تميل إلى ما تمثله قيم الخير والفضيلة، فإنها إذا انصرفت إلى الشر فبسبب انسياقها وراء غرائزها، مما يستدعي معالجتها عن طريق التوجيه الديني؛ لأنه الكفيل بإصلاح هذا الانحراف السلوكي، حتى ينعكس بطريقة إيجابية على أخلاقيات المجتمع أفرادا وجماعات.

ثم إن النفس الإنسانية كذلك قد لا تدرك الأمور على وجهها الصحيح وخاصة في مسألة إدراك الحسن والقبيح؛ فالمرء قد لا يدرك الحسن والقبيح من الأفعال بصورة إجمالية، لذلك ذهبت العقيدة الإسلامية وخاصة عند أهل السنة الأشاعرة إلى القول بأن الأفعال توصف بالحسن والقبح لا لذواتها ولا لأوصافها ولا لاعتبارات تلحقها، وإنما توصف من حيث تعلق خطاب الشرع بها، فإن تعلق بها نهي فهي قبيحة، وإن تعلق بها حسن فهي حسنة، فالقبيح ما نهى الشرع عنه، والحسن ما لم ينه الشرع عنه، والفعل الواحد قد يدور عليه الحسن والقبح دورات متعددة باختلاف المحل والوقت والعلة.

ولذلك تسعى المجتمعات في بعض الأوقات والأزمنة إلى منع بعض مظاهر الحياة العامة وفق ما تتطلبه المصلحة العامة لجميع الناس، ومن ذلك منع اجتماع الناس في مكان واحد حتى لو كان دور عبادة كالمساجد وغيرها إن كان الأمر سيؤدي إلى انتشار مرض معدي ونحوه، وقد تتعطل بعض أركان الدين بسبب ذلك فيمنع الناس من الذهاب إلى الحج  وهو من أركان الدين الأساسية، أو العمرة وهي من سننه إن كان ذلك من باب الأخذ بالأحوط في مثل هذه الظروف.

ولن تتحقق الصحة النفسية أو الطمأنينة العامة للناس ما لم تستجب لمثل هذه التوجيهات، لتخلق حالة من الاتزان والاعتدال النفسيين والقدرة على التكيف مع الواقع وحل المشكلات اليومية؛ سواء في النظافة التي قد تطرأ عليها بعض خصوصيات المرحلة مما نراه اليوم كذلك من الدعوة إلى غسل الأطراف لمرات عديدة في اليوم باستعمال المطهرات، أو في التناوب في التردد على المصالح الإدارية بالأمر بترك مسافات الأمان بين الأفراد أو في قضاء المآرب حين التسوق والتبضع، وتعقيم الأمكنة والطرقات وغير ذلك.

كما أنه من جملة ما تعتمده العقيدة الدينية في تعديل سلوكيات الأفراد والجماعات العمل على تقديم النموذج والقدوة اللتان تنعدل بهما سلوكياتنا لتنطبع نفوس الناس على الاستقامة والمواطنة الصالحة، فينخرط الناس بتلك القدوة في تنزيل مقتضيات ما هو مطلوب منهم؛ مثل ما هو مشاهد في انخراط الناس أفرادا وجماعات ومؤسسات في دعم الإعانات الخاصة بالصناديق المحدثة لمواكبة الجوائح والنوازل الطارئة..

وكل هذه الإجراءات العملية كفيلة بخلق الشعور العام بالطمأنينة والأمان والرضى وتحرير الإنسان من كل أشكال الخوف والقلق، وكل ما يقود إلى الضعف أو التخاذل، وهذا ما ترسمه العقيدة الدينية في نفوس الناس للتكيف مع الواقع وحل مشكلاته والمشاركة البناءة في تصريف أمور الحياة العامة والإيمان الراسخ بأن حياة الناس في هذه الدنيا مطية للابتلاء والاختبار، قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (الملك/2)، فدوام الصلة بالله يحقق الأمن والطمأنينة.

وهكذا تعتبر العقيدة الموجه الرئيسي لسلوكياتنا لأن غايتها إعادة صياغة الفرد سلوكيا بما ينسجم مع التصور الأمثل للسلوك الإنساني. ومن ثم فإن الحديث الشريف الذي أوردناه نصا للانطلاق يلخص حقيقة العقيدة الدينية بحيث جمع فيه النبي الكريم في جملتين اثنتين جميع معاني الدين، فالعقيدة مستفادة من الجملة الأولى: ( قل آمنت بالله)، وما عداها من أمور الدين الأخرى من الطاعات والعبادات والمعاملات مأخوذة من الجملة الثانية: (ثم استقم).. وذلك حتى يبقى الفرد صحيح البدن والعقل والنفس، وهي المقاصد الكبرى التي جاءت العقيدة الدينية لترسيخها في المجتمع، فهي حركة دائرة ومتواصلة تبدأ بالإيمان أولا، وتنتهي عند تعديل السلوك أخيرا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الحديث رواه الحاكم في المستدرك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جددوا إيمانكم. قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا اله إلا الله). ج/4 ص 285.

[2] الحديث رواه مسلم في صحيحه في الإيمان- باب جامع أوصاف الإسلام- ج/1- ص 65 – حديث رقم 38.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق