مركز الدراسات القرآنية

العشر النافعية وتواتر القراءة بها عند المغاربة

(رد على فتوى لجنة مراجعة مصحف المدينة)

إعداد : د. عبد االهادي حميتو

 الرابطة المحمدية للعلماء
       المملكة المغربية

جواب وردٌّ على فتوى اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة المنورة بخصوص الإقراء بقراءة الإمام نافع ببعض الأوجه التي تضمنها كتاب “التعريف في اختلاف الرواة عن نافع” تأليف الحافظ أبي عمرو الداني.

 

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

وبعد، ففي آخر يوم من شهر مارس العجمي 2013م، وأنا في معرض الكتاب بالدار البيضاء راجعا منه، اتصل بي بالهاتف أحد الأفاضل من أعضاء اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة المنورة مساء من بعد صلاة المغرب، وسألني بإلحاح عن اتصال السند عندنا في المغرب بالقراءة من طريق كتاب “التعريف في اختلاف الرواة عن نافع” للحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي (ت 444 هـ)، فأجبته في الموضوع بما حضرني مؤكدا على وجود أسانيد وإجازات مكتوبة من الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي (ت 1214 هـ) ومن شيوخ آخرين في عصره، وما سوى ذلك فيما أعلم متصل بالقراءة إلى اليوم .

ومن الشيوخ ممن يعرف بإتقان هذه الروايات عن نافع من هم على قيد الحياة، وعندهم معرفة بشيوخ شيوخهم ومن قبلهم إلى أن يتصلوا بالقراءة بالشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي ، أو شيخه عبد الرحمن بن إدريس “المنجرة” (ت 1176 هـ) أو بأبيه إدريس (ت 1137هـ)، وأسانيد هؤلاء مسطورة في فهارسهم المخطوطة ، وقد طبع بعضها ، قلت لمكلمي أكثر هذا على عجل واختصار، ثم فوجئت بعد ثلاثة أو أربعة أيام بالفتوى الصادرة عن اللجنة المذكورة، وفيها اسم مكلمي وتوقيعه بتاريخ 22 /5/ 1434هـ، فاتصل بي طالب من مدينة سلا المغربية وأستاذ من الرياض وآخر من المدينة المنورة، وبعد يوم أستاذ من مكة المكرمة، وكلهم يتساءل عن أسباب وحقيقة الضجة التي أثارتها لجنة مراجعة المصحف بمجمع الملك فهد، وما جواب قراء المغرب عن هذه الفتوى الذي قال لي أحدهم : إنه لم تصدر عن المجمع فتوى مشابهة قط حتى كانت هذه الفتوى.

فهل كانت اللجنة فيه على صواب في تعريضها بمن يقرأ بهذه الروايات والطرق في قولها في آخر الفتوى: “والحمد لله الذي صان القرآن من أن تمتد إليه يد العبث”؟ أو في استعدائها واستعلائها وهي ترفع نبرة الاحتجاج فتتجاوز الطرح العلمي إلى القول الذي ختموا به الدعوى على قراء الطرق النافعية في المغرب قائلين :”لذا نرى أن كل من يجترئ على الإقراء بأي وجه من الأوجه التي شذت على القراء العشرة يجب على أولي الأمر وأهل العلم منعه من ذلك في أي مكان”.

ثم اتصل بي آخر وعرفني بما دار في البلد قبل صدور الفتوى، وتبين لي من صدورها على عجل أنها جاء بمثابة رد فعل على زيارة مفاجئة لأحد قراء المغرب النابهين من الذين قرأوا بالطرق العشر النافعية منذ أزيد من ثلاثين عاما، ورحل إليه مؤخرا بعض طلبة القراءات من المدينة المنورة ومن مدينة الرياض في ذلك، فوجدوا فيه ضالتهم وأقبلوا ينهلون مما عنده من روايات يرويها عن بعض شيوخه بسند يذكره، وقد كتبه عنه بعض من استكملوا العرض عليه بهذه الطرق وغيرها من أهل المشرق وغيرهم، وأن مناقشة حامية الوطيس ثارت في أحد المجالس بالمدينة حضرها من حضرها من أعضاء اللجنة الموقرة، احتد فيها الأخذ والرد بين المقرئ الزائر وبين بعض المذكورين دون الوصول إلى تسليم أحد من كلا طرفي السجال ، ثم بعد يوم أو يومين وقع ما وقع من صدور الفتوى عن اللجنة باسم المجمع المحترم موقعا من سبعة أعضاء ، ممهورا بذكر أسمائهم . وعلمت ممن أبلغني بما دار أن اسمي ذكر في مجلس المناقشة وأني أقول بانقطاع عند المغاربة في القراءات ، مما يوهم أني طرف في النزاع، بل إن من ذكرني لعله ساق اسمي انتصارا لرأيه، الأمر الذي اقتضى مني كتابة هذا الجواب الذي هو رد على ما نسب إلي ، وبيان لما أراه أنه هو الصواب، مستعينا بالله في بلوغ المرام .

ورغبة مني في إحقاق الحق وإنصاف اللجنة ، سوف أتتبع كلامها لأعرضه على المحك حتى إذا كان فيه ما هو حق وصواب سلمته، ولم أغمطها حقها في النقد والاعتراض، ولكني قبل هذا أعود باللجنة إلى التذكير بجملة من الأمور المنهجية والجوهرية التي ما كان ينبغي أن تقع فيها في فتواها الصادرة:

الأول منها: إخلاله بمبدإ التؤدة حتى تستوفي عناصر الموضوع ؛ إذ العجلة من الشيطان.

الثاني: إصدارها الحكم واستعداؤها لأولي الأمر وأهل العلم قبل استماع حجة الطرف الآخر، فلعل عنده ما يسقط التهمة عنه من أصلها.

الثالث: أن ملفها خال من الوثائق ووسائل إثبات الدعوى، أو على الأقل أنها لم تتمكن من تحديد القضية التي هي موضع الاعتراض . فالسؤال الذي ذكرت أنه ورد عليها :”سؤال حول إقراء قراءة الإمام نافع ببعض الأوجه التي تضمنها كتاب (التعريف في اختلاف الرواة عن نافع) تأليف الحافظ أبي عمرو الداني “.

وكان على اللجنة أن تأتي من الكتاب المذكور بأمثلة من تلك الأوجه ، وهي لم تجئ ولو بمثال واحد حتى يعرف أهل هذا الشأن قولها وينظروا في صوابه أو خطئه.

هذا مع أنها قالت :”وبعد دراسة الكتاب وما فيه من الأوجه الواردة عن رواة الإمام نافع، وهم : إسماعيل بن جعفر وإسحاق المسيبي وقالون وورش ، تبين أن في الكتاب أوجها شاذة لا يُقرأ بها اليوم، ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا”.

كان على اللجنة أن تذكر الأوجه المذكورة ولو بأمثلة منها، وأن تبين للقراء وجه شذوذها حتى يعلموا ذلك ويشاطروهم هذا الرأي؛ لأن الجميع سيكون معهم على منع القراءة بالأوجه الشاذة، ولكن ببيان وجه شذوذها أولا، وإذا كانت اللجنة أكثر إنصافا فسوف تستنجد هنا أيضا بما قاله ابن الجزري وغيره في تمييز الشاذ من غيره حيث قال في طيبة النشر معرفا بأركان القراءة والتفريق بين الشاذة وغيرها:

فكل ما وافق وجه نحــو وكان للرسم احتمالا يحوي

وصح إسنادا هو القرآن فهذه الثلاثـــــــــة الأركــــان

وحيثما يختل ركن أثبت شذوذه لو أنه في الســـبعة

وقال في أول كتاب النشر :”كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم”.

ثم قال ابن الجزري :”هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد ابن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه”.

فهذا ابن الجزري يذكر أركان القراءة المقبولة الثلاثة نظما ونثرا، ويذكر مجموعة من فحول الأئمة تقدموه إلى القول بذلك، واعتبروا ما خالفه ضعيفا أو شاذا أو باطلا، وذَكر في طليعتهم الإمام الحافظ أبا عمرو الداني، فما هو الركن الذي وجدت اللجنة العلمية لمصحف المدينة النبوية أنه وقع فيه الاختلال في الأوجه التي في كتاب “التعريف” للداني، وحكمت بناء عليه بما قالت صراحة:”تبين أن في الكتاب أوجها شاذة لا يقرأ بها اليوم”؟ وهل يعقل أن يقول الداني مقالته التي احتج بها ابن الجزري في بيان أركان القراءة المقبولة ثم يأتي إلى كتاب التعريف فيُضمِّنَه “أوجها شاذة لا يُقرأ بها اليوم”؟

ومن عرف الحافظ ابا عمرو الداني، واطلع على مؤلفاته، عرف أنه على سعة علمه بحروف القراءات كان أحرص الناس على قراءة الجماعة، وأبعدهم عن إباحة القراءة بما شذ منها، مهما تكن جلالة من ينسب إليه ذلك.
واستمع إلى قوله في الأرجوزة المنبهة في “القول في الشواذ من القراء” كيف يبسط هذا الأمر، ويُنفِّر من فعله فيقول :

كـم مـن إمــام فــاضل معظم …………  ومــاهـر في علمه مقدم

مشَهَّرٍ بالصدق والأمانه ……………  والعلم بالقرءان والديانه

لكنه شذ عن الجماعه ……………    فلم ير الناس لذا اتباعه

بل أسقطوا اختياره وما روى ………. من أحرف الذكر وكل ما قرا

إذ كان قد حاد عن الروايه …………… ونبذ الإسناد والحكايه

عمن مضى من علماء الناس …………… وقال بالرأي وبالقياس

وخلط الصحيح بالسقيم …………… والواهي المعلول بالسليم

فلا تجوز عندنا الصلاة …………… بحرفه ذاك ولا القراة

لأنه ليس له اتصال …………… بالمصطفى فهو لذا محال

هذا الذي عليه الاجتماع …………… وقاله الأصحاب والأتباع

الأمر الرابع: أنها فيما يظهر من قولها :”تبين أن في الكتاب ـ التعريف ـ أوجها شاذة لا يقرأ بها اليوم” تخلط في التهمة إن اعتبرتها واحدة، وهي تهمة الشذوذ، ومفهومه كما رأينا عند ابن الجزري وفي أقوال الأئمة السابق ذكرهم، ينحصر في اختلال ركن من الأركان الثلاثة ـ يعني أو أكثر من ركن ـ أما اللجنة فتدخل في العبارة عنصرا جديدا وهو قولها :”لا يُقرأ بها اليوم” ، تعني : لم يعد يقرأ بها أحد، أو بمعنى آخر : انقطاع القراءة بها اليوم بالمرة في المشرق والمغرب، وهذه مجازفة كبيرة الخطورة، وإصدار للحكم قبل فتح الملف.

وكان على اللجنة ــ وهي تنتمي إلى مؤسسة رسمية ذات خدمات جليلة للأمة وسمعة طيبة في العالم الإسلامي وغيره ــ أن لا تتعجل في الحكم حتى تكلف لجنة من القراء المتخصصين والعلماء الباحثين بالقيام برحلة أو أكثر إلى بلاد المغرب لهذا الغرض؛ لتتحقق في عين المكان في الحواضر والبوادي من كون هذه الروايات ما تزال منها بقية إلى اليوم ، أو انها قد انقرضت و انقرض بعضها دون بعض، وما بقي ــ سواء كان الجميع أو ما تبقى منه ــ هل يقوم على أساس من الرواية والإجازات المكتوبة أو القراءة المتصلة في المناطق والمدارس المعروفة بذلك منذ زمان ؟ فإذا انتهت من هذه المعاينة لها حينئذ تقويم الحصيلة وبناء الحكم عليها، أما قبل ذلك أو دونه فهو من الشطط في التصرف، والغمط لما في أيدي الآخرين ما كان ينبغي أن يصل إلى حد إصدار البيان واستعداء أولي الأمر وأهل العلم على قرائنا في المغرب.

الأمر الخامس: قول اللجنة العلمية في وصف تلك الأوجه :”ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا” .

أقول: إن هذه الدعوى من جنس ما قبلها من قولهم:”لا يقرأ بها اليوم” ، مع أنهم في سجال مع أحد من أعلامها قرأ بها في مدرسة سيدي الزوين التي اختصت فيها عقودا من السنين في حياة الشيخ علال بن إسماعيل الكادي القاسمي العبدي دفين مراكش الذي عُمِّر فوق المائة بكثير حتى توفي حوالي سنة 1420 هـ ، وكان الشيخ محمد بن الشريف السحابي قد قرأ عليه بالطرق العشر النافعية (العشر الصغير) كما قرأ عليه بها جماعة ، منهم : المقرئ الشيخ الحافظ الطاهر حريري العشراوي العبدي المتوفى سنة 1430 هـ، ومنهم المقرئ الشيخ السالك الدكالي المتوفى سنة 1425 هـ بمدينة خنيفرة، ومنهم السيد محمد الصالحي ، وهو ما يزال حيا بمدينة سطات يقرئ القراءات، ومنهم السيد مبارك الكركوري الشيظمي، وهو حي يقيم بمدينة تمارة بضواحي الرباط سابقا، وهو الآن بمدينة الدار البيضاء، ومعدود من حفاظ الطرق النافعية، أقرأ بها بمراكش زمنا، ومنهم السيد عبد الحميد الدمسيري نزيل آسفي وصاحب معهد الإمام نافع للتعليم العتيق بها وعضو المجلس العلمي المحلي لآسفي، ومنهم المامون بن أحمد الغنيمي القاضي بمدينة آسفي، وتوفي بها حوالي سنة 1422 هـ، وقد وقفت على رمزية في “العشَرَيْن” التي قرأ بها في مجلدين جمع فيهما بين العشر الكبير عند المغاربة ــ الشاطبية ودرة ابن الجزري في الثلاث ــ والعشر الصغير من طرق التعريف لأبي عمرو الداني وتفصيل عقد الدرر لأبي عبد الله محمد ابن غازي وغيره من كتب الأئمة ، وكان من رفاقه في القراءة بالعشَرَيْن على علال القاسمي الشيخ سعيد الشرشمي من منطقة سبت جزولة بقبيلة عبدة ، وتوفي قبل الغنيمي. وكان الشيخ علال القاسمي المذكور معروفا بالعشراوي، ولم يكن يضاهيه أحد في عصره ، وقد زرته في مسجده في مراكش ، ورأيته مرات، ولم تقدر لي القراءة عليه، وكان قد قرأ القراءات العشر على السيد سعيد الجرموني العبدي المتوفى حول عام 1382 هـ ، وقد قرأ عليه والدي بورش، ورأيته بمدرسة سيدي الزوين بحوز مراكش قبل موته بنحو السنتين.

وقرأ الشيخ الجرموني وتلميذه علال القاسمي معه على المقرئ الشيخ إبراهيم ابن القاضي الماسي بمدرسة الباشا الجلاوي التي بناها للماسي خاصة لإقراء القراءات، وخصَّها بمن تجاوزوا القراءات السبع في الغالب، وبلغ طلبته في منتصف القرن الهجري الماضي ما يقارب 400 طالب، وقرأ كثير منهم عليه العشَرَين، وبه أحيا الله تعالى هذا العلم قريبا من مائة عام إلى أن توفي عن سن عالية سنة 1359 هـ ، ومن الطريف أن أحد طلبته ما زال على قيد الحياة بقبيلة أولاد برحيل بجهة سوس من الجنوب المغربي قرب مدينة تارودانت، ويعرف باسم الحاج الحسين البرحيلي ، وسبب تخصيص الماسي ببناء هذه المدرسة له هو ما سمعته من المقرئ السيد الطاهر حريري عن شيخه علال القاسمي أن العلامة الشهير أبا شعيب الدكالي كان بمراكش يلقي درسه في التفسير ويحضره فقهاء المدينة وكبراؤها برعاية باشا مدينة مراكش الحاج التهامي الجلاوي، فكان يفسر في سورة الأنفال قوله تعالى :”تُرْهبون به عدو الله وعدوكم” فقال الشيخ أبو شعيب : قرأ الجماعة “تُرْهبون” بسكون الراء وتخفيف الهاء ، وقرئ خارج السبع “تُرَهِّبون” بفتح الراء وتشديد الهاء ، ولا أدري أو لا يحضرني اسم من قرأ بها، فهل منكم من يعرف من قرأ بتشديد الهاء؟ والتفت يمينا ويسارا فلم يجبه أحد، وإذا بشيخ ضئيل الخِلقة بفَرْد عين يجلس في آخر المجلس يرفع يده ويقول للشيخ : نعم قرأ بهار ويس عن يعقوب الحضرمي . فالتفت الشيخ أبو شعيب إلى الباش وقال له : عليك بهذا الرجل ، فقال : وما أصنع به؟ قال : تبني له مدرسة يقرئ فيها، وتجمع له حفاظ القراءات السبع ليقرأوا عليه القراءات الباقية، فإنه إذا ذهب هذا لم يبق عندك من يعرف ما سمعت، وقد رأيت كم يحضر المجلس من الطلبة. قال : فأمر الباشا الجلاوي حالا ببناء مدرسة بضاحية مراكش بآيت أورير كانت تسمى مدرسة “أَخْليج” وشارط فيها الشيخ إبراهيم الماسي المعروف من أسرة ابن القاضي الماسيين بجهة سوس، وبعث إلى قواد الجهات أن يبعثوا إلى المدرسة بأصحاب القراءات، وكان منهم القائد الكبير الفقيه السيد عبد الكبير نجل الحاج المختار العبدي العامري البوكدراوي المعروف بالقايد ولد الحاج المختار ، وهو الذي تولى توجيه السيد علال بن إسماعيل الكادي القاسمي العبدي للقراءة على الماسي في مدرسته ، وكان قد شارط في عبدة بـ 50 ريال سنة ، فأعطاه القائد ألف ريال ، نصفها حالا ، ونصفها الآخر إذا أتم القراءة، فلازم القاسميُّ الماسيَّ إلى وفاته، وقرأ عليه “العشَرَين” وأقرأ بهما حياته، رحم الله الجميع برحمته.

وممن قرأ على الماسي بالعشَرَين مع القاسمي المقرئ المسمى صالح بن حمان المراحي المكانسي العبدي من جماعة المكانسة قرب سوق أربعاء المكانسة، وكانت له مدرسة للإقراء بآل غياث بعبدة، وهو الذي أخذ عنه العشَرَين المقرئ السيد المامون الغنيمي العبدي القاضي الآنف الذكر نزيل مدينة آسفي ، ولعل قراءته عليه بها بموضع سيدي غانم بقبيلة دكالة كما وجدته في آخر رمزية العشرين التي ذكر فيها قراءته عليه بقراءته للعشرين على الشيخ الماسي بخط يد المقرئ المامون بن أحمد الغنيمي، فرغ منها عام 1342هـ.

ومن امتدادات مدرسة الماسي ممن قرأ بالطرق النافعية وهو يقرئ بها حاليا بعض طلبته المقرئ للعشَرَين ، وهو من الحفاظ الأثبات بشهادة شيخه له كما سمعتها منه، وبمعرفة قراء القراءات عندنا الأستاذ بمدرسة القراءات بالمعاشات بضواحي مدينة الصويرة بجنوب مراكش ، السيد عبد الله عايش الدروي، وهو في نحو الخمسين من العمر، قرأ بالعشر الكبير والصغير على السيد الطاهر حريري العبدي ـ ـ وأجازه قبل موته بقليل بالطرق النافعية، وأخبرني ـ ـ عن السيد عايش المذكور أنه يقرأ العشَرَين بالجمع والإفراد دفعة واحدة دون أن يحتاج إلى الاستعانة بالرمزية .

وممن قرأ على السيد الطاهر بالطرق النافعية بعد أن ختم عليه العشر الكبير الأستاذ الحاج حسن غرّور من مدينة الشماعية بأحواز مراكش، وقد رأيت إجازته له بما قرأ عليه بقراءته على السيد علال العشراوي القاسمي العبدي الآنف الذكر، وعلى الحاج عابد السوسي أستاذ القراءات وشيخ الجماعة فيها بمدرسة سيدي الزوين ـ ـ وكان قد قرأ مع السيد علال على الشيخ إبراهيم الماسي بمدرسته بآيت أورير قرب مراكش،ـ وهي المدرسة الآنفة الذكر التي بناها له الباشا التهامي الجلاوي ، وأقرأ بها عقودا من الزمان. وقد بقي على السيد حسن غرور بقية من روايات العشر الصغير لم يستوفها على السيد الطاهر حريري في حياته ـ فيما بلغني ـ فأتمها أو هو ما يزال بصدد ذلك على السيد عبد الله عايش بالمعاشات بضاحية الصويرة ، وهو ـ أعني السيد حسن غرور ـ عضو في المجلس العلمي المحلي لمدينة اليوسفية بأحواز مراكش، وشارك في السنة الماضية في لجنة التحكيم ممثلا للمغرب بمسابقة تجود القرآن الكريم بالمملكة الأردنية.

ومن تلامذة الشيخ علال القاسمي المقرئ الحاج سلام الغرباوي ، وكان يقرئ بمدرسة سيدي الزوين السبع، ويقرأ هو على السيد علال العشَرين مدة طويلة، وعنه أخذ الطرق الناقعية مقرئ مكناس الكبير الشيخ إبراهيم بن مبارك بن علي الهلالي المكناسي ــ ــ والد الدكتور محمد الهلالي وزير التربية والتعليم السابق، وهو مؤلف كتاب “التبيان لمعركة ماء أبي فكران مع وجوب اتباع رسم الإمام” وهو مطبوع .

وهذا قليل من كثير مما كتبته هنا من الذاكرة وبناء على المعرفة الشخصية، وأعلم أني إنما تحدثت عن الجهة التي هي قريبة مني، ولم أتحدث عن الجهة التي ازدهرت فيها الطرق العشر النافعية لعدة قرون ، وهي جهة الشمال المغربي ومدينة فاس وأعمالها حيث كانت تشد الرحال من جنوب المغرب ووسطه إليها، لاشتهار كبار المشيخة بها، وفيها قرأ الشيخ إبراهيم الماسي المذكور على شيخه الذي كان إماما في هذا الشأن ، واسمه المكي بن يرماق أو (يرمق)، ولنا عودة إلى ذكر جذور المدرسة الشمالية في العشر النافعية وتسمية أعلامها ومؤلفاتهم بعون الله تعالى.

الأمر السادس: تعلق اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة النبوية بنفي التواتر عما في كتاب “التعريف” وذلك في قولهم :”ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا”، تقول اللجنة ذلك دون علم بالواقع؛ لأنها لم تتحرك من موقعها فتقضي قضاء مبرما جازما بعدم تواتر بعض هذه الأوجه أو كلها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا ، ونحن لا ندري من أين علموا ذلك، أهو من اطلاعهم على ما ينفي هذ التواتر ؟ أم هو قضاء بالغيب حتى يثبت خلافه، مما يعني أن المتهم مدين حتى تثبت براءته، على عكس ما هو معهود في المرافعات الشرعية والوضعية.

وتنزلا مع هذه الأطروحة من اللجنة قبل الدخول في إثبات ما نفوه ، من حقنا أن نحتكم معهم إلى الحافظ ابن الجزري الذي اقتصروا على الاحتجاج بكلامه في مقدمة كتاب “النشر في القراءات العشر” فننقل لهم عن هذه المقدمة نفسها ما لعله يجعل اعتراضهم في قضية التواتر اعتراضا على ابن الجزري نفسه ـ بصرف النظر عن رأيي في الموضوع ـ فإن ابن الجزري كما هو معلوم من رد النويري وغيره عليه لا يرى التواتر شرطا ولا ركنا من أركان القراءة، وإنما يكتفي بصحة السند كما تقدم من قوله في الطيبة :”وصح إسنادا هو القرآن”، وقوله في مقدمة النشر “وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها”، وقال بعد هذا في شرح كلامه :”وقولنا : (وصح سندها) فإنا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذَّ به بعضهم”. قال :”وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من الرسم وغيره…”، قال :”وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم”. قال :”وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف”، ثم نقل عن أبي شامة ما يزكي ما انتهى إليه من عدم اشتراط التواتر وقال :”وقال الشيخ أبو محمد إبراهيم بن عمر الجعبري: أقول إن الشرط واحد، وهو صحة النقل، ويلزم الآخران”.

ثم بعد نقول أتى بخاتمة كأنها رد على ما يريدون إلزام بلادنا وقرائنا به من الكتب التي ذكروها فقال :”وأما إطلاق من لا يعلم على ما لم يكن عن السبعة القراء أو ما لم يكن في هذه الكتب المشهورة كالشاطبية والتيسير أنه شاذ، فإنه اصطلاح ممن لا يعرف حقيقة ما يقول كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى”. انتهى كلام ابن الجزري .

وقال في منجد المقرئين:”وأما القراءة الصحيحة فهي على قسمين: الأول : ما صح سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط كذا إلى منتهاه، ووافق العربية والرسم. وهذا على ضربين: ضرب استفاض نقله، وتلقاه الأئمة بالقبول، كما انفرد به بعض الرواة ، أو بعض الكتب المعتبرة، أو كمراتب القراء في المد أو نحو ذلك، فهذا صحيح مقطوع به أنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة، وهذا الضرب يلحق بالقراءة المتواترة وإن لم يبلغ مبلغها كما يجيء، وضرب لم تتلقه الأمة بالقبول ولم يستفض…..” .

فلماذا لم تجعل اللجنة ما في كتاب “التعريف” من القسم الأول ؛ لأنه على شرط الحافظ ابن الجزري ، وهي كما في النص: “ما صح سنده، ووافق العربية، ووافق الرسم”؟

ولماذا ــ وهي تدعي على بعض أوجهه الشذوذ ــ لم تدخلها ضمن ما قال ابن الجزري عنه في هذا النص :”كما انفرد به بعض الرواة ، أو بعض الكتب المعتبرة”؟ ولماذا لم تجعل تلك الأوجه الشاذة المزعومة من جنس ما مثل به في قوله :”كمراتب القراء في المد أو نحو ذلك”؟

وما جوابها عن قول ابن الجزري عن مثل هذا في النص: فهذا صحيح مقطوع به أنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة”؟

وما جوابها عن قوله في الختام :”وهذا الضرب يلحق بالقراءة المتواترة، وإن لم يبلغ مبلغها”؟

وأخيرا، لماذا سكتت عن إيراد هذا النص من كلام ابن الجزري من منجد المقرئين، واقتصرت على ما رأته حجة لها منه بعد أن قطعته عن سياقه الذي قاله فيه، فجعلته بذلك من باب الاقتصار على قوله تعالى :فويل للمصلين لإفادة ما أرادت تحميله إياه باقتطاعه من السياق الذي سيق فيه.

ولله در الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن الجزري من قوله في مقدمة النشر :”وأما من علم نوعا من العلم ولم يعلم بغيره، فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:”لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا” .

والمخالفون للجنة العلمية الموقرة لا يحبون أن يصفوا الموقعين على الفتوى بأنهم ممن قال فيهم ابن الجزري في النص السابق في النشر:”فإنه اصطلاح ممن لا يعرف حقيقة ما يقول” ، ولكنهم يجدون في نص الفتوى ما ذكره ابن الجزري ، وكأنه يصف هذه الحال نفسها، وذلك في قول الفتوى :”لذا نرى الاقتصار على قراءة الإمام نافع من روايتي قالون وورش بما تضمنته الكتب التالية : 1 ـ التيسير للإمام أبي عمرو الداني المتوفى سنة 444 هـ. 2 ـ الشاطبية للإمام القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الشاطبي المتوفى سنة 590 هـ . 3 ـ النشر في القراءات العشر ومنظومته “طيبة النشر” للإمام الحافظ محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري المتوفى سنة 833 هـ. 4 ـ الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع للإمام علي بن محمد المعروف بابن بري المتوفى سنة 730 هـ، وشروح هذه الكتب السالفة الذكر وما ألف حولها للبيان والإيضاح…”.

ألا ترى اللجنة أنها تقع في المحذور نفسه الذي حذر منه ابن الجزري؟ وهل تجد في كلام ابن الجزري في النشر أو غيره ما يفيد وجوب الاقتصار على ما في كتابه وفي الكتب الثلاثة المذكورة؟ ألم يؤلف كتاب “النشر” كله بما فيه من الطرق التي قاربت الألف عن العشرة من أجل أن يفند هذه الأطروحة؟ حيث قال :”ونُسيَ غالب الروايات الصحيحة المذكورة ، حتى كاد الناس لم يثبتوا قرآنا إلا ما في الشاطبية والتيسير، ولم يعلموا قراءات سوى ما فيهما من النزر اليسير” .

فلجنة مراجعة المصاحف هي إذن محجوجة بصنيع ابن الجزري نفسه في قوله في صدر كتابه ؛ لأن ما تريد الاقتصار عليه، هو ما ينكره على من دعا إليه. وماذا كان سوف يحصل لو أن مجمَّعا معاصرا لابن الجزري أو قاضيا من قضاة الشام أو مصر أو شيراز قام على الإمام ابن الجزري نفسه في عصره أو بعده وقال : ما لنا ولهذا الخضم الزاخر من القراءات والروايات والطرق عن القراء العشرة، وكنا لا نكاد نقرأ منها إلا بما في الشاطبية والتيسير، أو بطرق أخرى يسيرة من العنوان أو الإرشاد لا يتجاوز مجموع عددها العشرين أو يكاد، فإذا بنا بكتابك وقد حوى كما نقلتم عنه في النص من مقدمة النشر قوله :”وأنت ترى كتابنا هذا حوى ثمانين طريقا”، بل إنه بعد ذكرها مفصلة قال في النشر :”واستقرت جملة الطرق عن الأئمة العشرة على تسعمائة طريق وثمانين طريقا حسبما فُصل فيما تقدم عن كل راو من رواتهم ، وذلك بحسب تشعب الطرق من أصحاب الكتب..”
وبهذا المنطق الذي تريدون معاملة كتاب “التعريف” به كان ينبغي أن تعاملوا كتاب “النشر” ، أولاً: لأنكم لا تستطيعون أن تثبتوا أن كل هذه الطرق متواترة عن العشرة اليوم، وهي تبلغ نحو ألف طريق في كتاب النشر وفي الطيبة أيضا.

وثانيا: لأنكم لا تستطيعون إثبات اتصال السند بالقراءة المتواترة ــ كما تطلبون ذلك في الأوجه التي يقرأ بها في “التعريف”ــ في كل كتاب من الكتب التي أسند روايته لها وقرأ بمضمنها كما قال في مقدمة النشر.

وثالثا: ماذا سيكون موقفكم من كتاب التعريف لو أن ابن الجزري مثلا أسند القراءة فيه بمضمنه من روايتي ورش وقالون؟ أظن أنكم سوف تغيرون موقفكم ، وترون أن حكمه حكم غيره، ولا تبحثون في تواتر القراءة بعد الداني كما قلتم عنه الآن في بعض أوجهه : إنها “لم تتواتر القراءة بها من عصر المؤلف”، وأنا أسأل اللجنة العلمية ـ ودائما في نطاق كتاب النشر ـ هل تواترت القراءة برواية قالون من كتاب “الروضة في القراءات السبع لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي الأندلسي (340 ـ 429 هـ) وهو قد أسند الكتاب في أول النشر ثم أتبعه بكتاب “المجتبى” للإمام أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد بن عمر الطرسوسي نزيل مصر (ت 420 هـ) وقال :” قرأت بهما ضمنا مع كتاب التيسير والهادي والتبصرة وغير ذلك على الشيخ الإمام أحمد بن الحسين بن سليمان الدمشقي”، ثم ذكر سنده بالكتاب عن شيخه إلى المؤلف، فأين هو التواتر الذي تطالبون به بخصوص كتاب “التعريف”؟ وكيف جاز لابن الجزري ــ وكتاب “الروضة” لا يكاد يعرف بعد موت مؤلفه الطلمنكي ــ أن يدخل هذا الكتاب في أسانيده برواية قالون عن نافع، وليست طرقه في التيسير لأبي عمرو الداني؛ لأنه ولد قبله ببضع وثلاثين سنة كما في ترجمته في غاية النهاية ، ولم يمنع ذلك ابن الجزري من إسناد هذه الرواية من كتابه حيث قال في طريق صالح بن إدريس عن القزاز : من ثمان طرق :”السابعة : طريق الطلمنكي من كتابه “الروضة” ثم ذكر قراءة الطلمنكي بها “على الإمام أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون بن المبارك الحلبي” .

فكيف جاز للحافظ ابن الجزري ولمن قرأ بمضمن كتاب “النشر” وطرقه أن يعول على روايته من كتاب الروضة للطلمنكي، والحال أن الكتاب لا يكاد يُعرف، ولا تتواتر القراءة به بعد موت مؤلفه يقينا، وإثبات تواتر القراءة به أو حتى مجرد تداوله بالنسخ دونه خرط القتاد.

وما يقال في روضة الطلمنكي يقال في كثير من مصادر النشر؛ إذ كانت قبل جمعه لشتاتها في النشر أوزاعا منتشرة، ومن هنا جاءت أهمية الكتاب وأهمية مؤلفه.

وإذن يتبين أن ما وصف به كتاب التعريف من كونه متضمنا أوجها شاذة لا يُقرأ بها اليوم إن كانت اللجنة تعني :”لا يقرأ بها اليوم” في المدينة النبوية فصحيح، ولكنها ليست بأوجه شاذة؛ لأن المغاربة ظلوا يقرأون بها منذ دخولها ، وهذا من مزاياهم وخصوصياتهم في الحفاظ على مذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم ، وأيضا لأن مؤلف التعريف معروف عنه أنه زعيم المدرسة الأثرية في القراءة ، وما أودعه في كتابه هو مما قرأ به ، وهو ثقة إمام حافظ حجة في الرواية لا يقرئ بالشاذ.

ثم إن اعتراض اللجنة إن كان على تضمن كتاب “التعريف” لرواية عبد الصمد العتقي عن ورش، ورواية القاضي إسماعيل عن قالون، ورواية إسحاق المسيبي عن نافع من طريق ولده محمد ، وطريق محمد بن سعدان الضرير، ورواية إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، فهذه الروايات والطرق عن نافع كلها مسندة عند أبي عمرو الداني في كتابه “جامع البيان في القراءات السبع” وهو مطبوع معروف، كما أنه ثالث المصادر التي صدر بها ابن الجزري في النشر ، وقد ذكر “أنه كتاب جليل في هذا العلم لم يؤلف مثله للإمام الحافظ الكبير أبي عمرو الداني …”، وفيه جميع الطرق التي في التعريف للروايات الأربع وزيادة ، فهل في إمكان اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة النبوية رفع الدعوى عليه بأن فيه “أوجهاً شاذة لا يقرأ بها اليوم، ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا”، وقطعا هي لا تستطيع ذلك؛ لأنها بذلك تضرب أهم مصدر من مصادر ابن الجزري في النشر، وتجعل على قراءته بمضمنه علامة اعتراض، إلا إن ادعت أن القراءة بمضمنه كانت متواترة وغير شاذة، وذلك تناقض في النظر والحكم؛ لأن الروايات والطرق والأوجه التي أنكروها في التعريف وزعموا شذوذها ، كلها مذكورة ومسندة عند الداني في “جامع البيان” ، فإذا كانت شاذة في التعريف لزم أن تكون شاذة أيضا في جامع البيان للمؤلف نفسه، وإذا كانت لم تتواتر القراءة بها بزعمهم من لدن عصر المؤلف، لزم اللجنة القول بمثل ذلك فيها في جامع البيان ولا فرق، وحينئذ يتحد الحكم على هذه الأوجه والطرق والروايات في التعريف وجامع البيان معا، فيكون ابن الجزري في قراءته بمضمن جامع البيان ، وإدخاله لروايته عنه لورش وقالون من طرقهما إلى عصره قد قرأ بكتاب انقطعت قراءته والقراءة بمضمنه، أو بعبارة الفتوى :”ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف”، وذلك منها إن ذهبت إليه يرده صنيع ابن الجزري في النشر ، ويجعل قولها في غاية التناقض؛ لأنها هي أيضا تدعو إلى القراءة بما في النشر وتقول في الفتوى :”نرى الاقتصار على قراءة الإمام نافع من روايتي قالون وورش بما تضمنته الكتب التالية: 1 ـ التيسير …2 ـ الشاطبية …3 ـ النشر… 4 ـ الدرر اللوامع…”.

فهل ترى اللجنة الرأي نفسه في جامع البيان وتسلكه في هذا السلك؟

إذا كان الجواب نعم، فعليها أن تطالب في البلاغ رقم (2) بعدم القراءة بما وافق “التعريف” في “جامع البيان” أيضا، وأن تلحق به في البلاغ رقم (3) كتاب المفردات أي “مفردات القراء السبعة” للداني ، وهو مطبوع أكثر من مرة؛ لأن أول مفردة فيه هي “مفردة الإمام نافع” ، وهذه المفردة هي نفسها كتاب “التعريف في اختلاف الرواة عن نافع”، وكلاهما مفتتح بعبارة “الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله على كل حال”، ويقول :”هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله الاختلاف بين أصحاب أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني ـ ـ الذين أخذوا القراءة عنه مشافهة، وأدوها إلى الناس حكاية ، وهم أربعة : إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري ، وإسحاق بن محمد المسيبي، وعيسى بن مينا قالون المدني، وعثمان بن سعيد ورش المصري، وأذكر عن كل واحد منهم روايتين ، إلا عن ورش وقالون، فإني أذكر عنهما ثلاث روايات، فيشتمل الكتاب على عشر روايات عنهم عن نافع” .

وهكذا يمضي كتاب التعريف والكتاب المسمى “مفردة نافع” لا يختلفان في شيء إلى آخرهما في قول الداني :”فهذا جميع ما اختلفوا فيه عن نافع من الطرق المذكورة على حسب قراءتي وروايتي ، وبالله تعالى التوفيق” .
سابعا: وإذا ثبت ـ كما رأينا ـ أن كتاب التعريف هو قسم من كتاب “المفردات السبع” للداني لزم اللجنة أن تدعو أيضا إلى شذوذ ما في المفردات والادعاء عليه أيضا بعدم تواتره “من لدن عصر المؤلف” ، وإذا كانت لا ترى مانعا من ذلك ، ورد عليها ما في كتاب “النشر” نفسه من النقل الكثير عنه في مسائل الخلاف ، وفي ضمنه كتاب “مفردة الإمام نافع” الذي أثبتنا أنه هو كتاب “التعريف” بعينه، فيكون ابن الجزري يعتمد التعريف في كتاب “النشر” ، فتسقط دعوى اللجنة من ألفها إلى يائها .

ثامنا: إذا كانت اللجنة تعني أ ن التعريف لا يقتصر على روايتي ورش وقالون من طرقهما المذكورة في النشر، بل يخرج عن النشر إلى طرق أخرى ليست فيه، فهذا لا يضر “التعريف” في شيء، وابن الجزري نفسه في النشر يقول في باب الهمز المفرد عند حديثه عن التسهيل :” ومقتضى ذلك تسهيل (رأيت ورءاه) وما جاء من ذلك، وهو خلاف ما رواه سائر الناس من الطرق المذكورة، نعم أطلق ذلك كذلك نصا الحافظ أبو عمرو الداني في جامعه، ولكنه من طريق إبراهيم بن عبد العزيز الفارسي عنه، وليس من طرقنا”. فهذا اعتراف منه بوجود طرق صحيحة لا مطعن فيها في جامع البيان، ولكنها ليست من طرق ابن الجزري ومشيخته.

فبناء على هذا ، ليس من حق اللجنة أن تلزم المغاربة بترك بعض الطرق التي صحت عندهم لمجرد أنها ليست من طرق المشارقة كما لم يلزم ابن الجزري الداني بذلك، واعترف بما عنده ، ولكن وجد له مخرجا بقوله :”وليس من طرقنا”. كما أنه أقرأ بطرق إبراهيم الفارسي المذكور فقال في ترجمته في غاية النهاية :”مقرئ ضابط ، قرأ على محمد بن عبد الرحيم الأصبهاني، قرأ عليه عبد الباقي بن الحسن، وله انفراد في أحرف من الأصول خالف فيها أصحاب الأصبهاني”.

تاسعا: وإذا كانت اللجنة تعترض على روايات أخرى وطرق ذكرها عن نافع ليست في النشر ، ولكنها في التعريف، فعليها أن تعترض عليها في كتاب “السبعة” لابن مجاهد، وهو مطبوع، وكل ما في التعريف من الروايات الأربع وطرقها العشر مذكور فيه دون استثناء، كما يعرف ذلك بالرجوع إلى أسانيد ابن مجاهد في قراءة نافع في أوله .

وقد رواه الداني عن تلميذ ابن مجاهد وقرأ عليه بها، وهو محمد بن أحمد بن علي البغدادي المعروف بأبي مسلم كاتب ابن مجاهد. وأول أسانيد الداني في التعريف مطابق لما في السبعة لابن مجاهد حيث يقول فيه :”ذكر أسانيد رواية إسماعيل :

فأما رواية أبي الزعراء، فحدثنا بها محمد بن أحمد بن علي البغدادي قراءة عليه بالفسطاط قال: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال : قرأت على أبي الزعراء، وقال : قرأت على أبي عمر الدوري، وقال : قرأت على إسماعيل ، وقال : قرأت على نافع”.

ثم قال الداني :”وقرأت بها القرآن كله على شيخنا فارس بن أحمد المقرئ، وقال: قرأت بها على عبد الله بن الحسين البغدادي، وقال : قرأت على ابن مجاهد، وقال : قرأت على أبي الزعراء، وقال : قرأت على الدوري، وقال : قرأت على إسماعيل، وقال : قرأت على نافع”.
ثم ذكر رواية أخرى من غير طريق أبي مسلم كاتب ابن مجاهد، وهي عن ابن فرح عن الدوري عن إسماعيل عن نافع” .

وكذلك قال في رواية المسيبي :”فأما رواية محمد ابنه فحدثنا بها محمد بن أحمد الكاتب، قال : حدثنا أحمد بن موسى (هو ابن مجاهد)، قال : حدثنا محمد بن الفرج، قال : حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبيه، عن نافع”.

وهكذا قال في رواية الحلواني : “وأما رواية الحلواني، فإن أبا مسلم محمد بن أحمد البغدادي حدثنا بها، قال : حدثنا أبو بكر ابن مجاهد، قال : حدثنا الحسين بن مهران الجمّال، قال : حدثنا أحمد بن يزيد الحلواني، عن قالون، عن نافع” .

وهذه الروايات وغيرها كلها في السبعة لابن مجاهد ، وهو من مصادر النشر لابن الجزري ، فكيف تعترض اللجنة على التعريف ولا تعترض أصله في كتاب السبعة ، ولا فرق بينهما؟ وما رأيها في نقل ابن الجزري نفسه في كتاب النشر نفسه لبعض تلك الروايات محتجا بها؟ فإنه في باب الهمزتين المجتمعتين من كلمة. قال :”ورواه من طريق الحلواني الحافظ أبو عمرو في الجامع، وبه قرأ على أبي الفتح فارس بن أحمد، وكذا روى عن قالون القاضي إسماعيل، وأحمد بن صالح، والشحام، فيما ذكره الداني، وبه قطع صاحب العنوان عن قالون يعني من طريق إسماعيل”.

وقال في باب الهمزتين أيضا :”تنبيه: لم ينفرد أبو جعفر بإدخال الألف بين الهمزة المحققة والمسهلة في (أئمة)، بل ورد ذلك عن نافع وأبي عمرو، فنافع من رواية المسيبي وإسماعيل جميعاً عنه” . وهذا هو نص ما في التعريف .

عاشرا: قول لجنة مراجعة المصاحف عن “التعريف” :”إن في الكتاب أوجها شاذة لا يقرأ بها اليوم” هل معناه أن كل ما لا يقرأ به اليوم فهو شاذ؟ وإذا كان كذلك فهل يقصدون كل ما لا يقرأ به اليوم عندهم أم مطلقا؟ الظاهر أنهم يقصدون الإطلاق، وإذا كان كذلك كان هذا استدراكا على أركان القراءة التي ذكرها ابن الجزري ـ كما قدمنا ـ أنها ثلاثة أركان، فيكون الركن الرابع: أن تكون مما يقرأ به اليوم.

حادي عشر: قول اللجنة عن الأوجه الشاذة المذكورة :”ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا”. أقول في هذا قضاء بظهر الغيب كما تقدم، وافتئات على الحقيقة، وتكذيب لمؤلف التعريف، فإنه قال بعد أن ذكر الروايات الأربع ، أي: رواية ورش وقالون وإسماعيل الأنصاري وإسحاق المسيبي :”وهذه الروايات هي المشهورات عن هؤلاء الأربعة، وبها يأخذ كل أهل الأداء في جميع الأمصار”.

فهل انقطع تواتر هذه الروايات الأربع فجأة بموت مؤلف التعريف كما يفهم من قول اللجنة؟ وكيف حصل هذا “وبها يأخذ كل أهل الأداء في جميع الأمصار”؟ أمر عجيب حقا، وكأن هذه الروايات الأربع تنتمي في الأخذ بها في الأمصار إلى عهد ما قبل الطوفان.

ثاني عشر: قول اللجنة العلمية لمراجعة المصاحف :”ولإجماع علماء المشرق والمغرب على عدم تلقي هذه الأوجه بالقبول”.

أقول: وهذه بلية أخرى ما كان يليق أن تصدر عن هيئة مسؤولة محترمة عارفة بمعنى إجماع العلماء؛ لأن مثل هذه الدعاوى لا يعجز عنها أحد، ولا يلجأ إليها إلا العاجز. وأحسب أنهم أول من يدرك أنها فلتة جر إليها التعجل في الأحكام، وعدم تقدير المسؤولية، وإلا فأنى لهم إثبات هذا الإجماع أو ما يشبهه في زمان أو مكان في شرق أو غرب، والحال أنها لم يتعرض لها فضلا عن أن يعترض عليها أحد، فكيف انعقد هذا الإجماع ومتى؟؟؟

ولنفرض جدلا أن إجماع أهل الشرق انعقد على ما زعموا، فكيف انعقد إجماع أهل المغرب على عدم تلقيها بالقبول، مع أنها متضمنة في كتاب “التعريف” ، و”جامع البيان”، و”المفردات السبع”، وكتاب “التمهيد”، وكتاب “الاختلاف بين إسماعيل بن جعفر وبين قالون عن نافع” ، وكتاب “الاختلاف بين الأصبهاني وأبي يعقوب عن ورش” ، وكتاب “الاختلاف بين المسيبي وبين قالون عن نافع”، وكتاب “اختلاف ورش وقالون”، وكتاب “الاختلاف بين أبي نشيط وورش”، وكتاب “الوصول إلى اختلاف أصحاب نافع بغير علل”، وكتاب “أصول القراء في قراءاتهم”، وكتاب “إرشاد المتمسكين”، وهذه كلها مؤلفات في قراءة الإمام نافع واختلاف الروايات والطرق عنه، وهي اثنا عشر كتابا كلها لأبي عمرو الداني ، وقد استوفيت أسماءها والتعريف بها في كتابي “معجم مؤلفات الحافظ أبي عمرو الداني (ت 444 هـ) المنشور بالرياض : 1432 هـ ـ 2011 م ، مكتبة الملك فهد الوطنية (السلسلة الثالثة).

هل يعقل أن ينعقد إجماع أهل المغرب على رفض ما في مؤلفات إمامهم وقدوتهم في القراءات ثم لا نجد أحدا من أتباعه وشارحي كتبه وناقلي أخباره واختياراته قد دافع عن هذه الكتب ونافح عنها، ورد سهام المنتقدين والمعترضين؟ إنه أمر لا يصدق.

ثالث عشر: قول اللجنة في وصف تلك الأوجه التي زعمت :”ومخالفتها للمتلقى بالأسانيد المتواترة عن أهل الأداء الثقات عن الإمام الداني”.

وههنا عندهم ثلاث أطروحات: المخالفة للمتلقى بالأسانيد المتواترة، وكون الأسانيد متواترة، وكونها عن أهل الأداء الثقات، أي: لا عن غير الثقات ممن نقلوا ما في التعريف وأمثاله عن الداني.

ولنبدأ بالأطروحة الأولى فنقول: كان على اللجنة أن تذكر أمثلة من المخالفة المزعومة، وأن تثبت أنها مخالفة، وأن تزيد ببيان أنها من المخالفات الممنوعة، وإلا فإن كل القراءات والروايات يصدق عليها هذا الوصف؛ إذ كل قراءة تخالف غيرها، وكل رواية تخالف سواها، ومادة هذا العلم هي حكاية هذا الاختلاف، وعزوه إلى من نقل عنه من الأئمة كما قال ابن الجزري في تعريف القراءة بقوله في “منجد المقرئين” هي: “علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله” .

وأنا أعلم أنهم يقصدون أن في كتاب “التعريف في اختلاف الرواة عن نافع” للداني ما ليس مرويا عنه في كتاب “التيسير في القراءات السبع” ولم يدخله الشاطبي في “حرز الأماني”؛ لأنه اقتصر على ورش وقالون عن نافع من طريق عن كل منهما، ولم يدرجه ابن الجزري في “النشر”؛ لأنه أيضا اقتصر من رواة نافع على ورش وقالون، وذلك لا حرج فيه على من أسقطه؛ لأنه قصد روايات بعينها لزيادة شهرتها، ولا حرج على من أثبته وألف فيه لاستفاضته عنده، وقراءته به، وسبق غيره له في الإقراء به والتأليف فيه، وقد يكون عنده من الحذق فيه ما ليس لغيره، أو هو مما تأتى له عرضه في رحلته، وهي مزايا وفضائل لمن وُفّق إليها بشروطها، لا عيوب وقوادح يعتذر عنها، ويُزدرى من حفظها على الأمة ولقنها لمن يرغب فيها، ولولا ذلك ما بلغت القراءات والروايات والطرق هذا الكم الهائل عند ابن الجزري في النشر وطيبة النشر، ولما قال في “المسائل التبريزية” : إنه إذا مد الله له في العمر سيؤلف كتابا لا يترك فيه وجها قرئ به لقارئ إلا جمعه، ولما بلغت عند ابن جبارة الهذلي في الكامل وأبي معشر الطبري في “سوق العروس” وأبي القاسم الشريشي (ت 629هـ) ما يفوق سبعة آلاف ما بين رواية وطريق .

وإذن لا يكون اختلاف طرق التعريف عن طرق التيسير عيبا، كما لم يكن في اختلاف الروايات والطرق عند ابن الجزري في تحبير التيسير والدرة المضيئة عن مثلها في طيبة النشر كما يعلمه المختصون.

وقد نبه شراح حرز الأماني في مواضع عديدة من أبواب الأصول ذكروا فيها خروج الشاطبي عن طرقه، وهي طرق التيسير، ولم يعيبوا على الشاطبي ذلك ؛ لأنه فعله قاصدا إليه. وألف من المغاربة أبو زيد عبد الرحمن ابن القاضي (1082 هـ) كتابه “بيان الخلاف والتشهير، وما جاء في الحرز من الزيادة على التيسير” في هذا الموضوع، فلا يعاب على إمام أن يقتصر على بعض الروايات والطرق في كتاب، أو أن يتوسع في كتاب آخر، فيذكر ما لم يذكره أو العكس، كما فعل الداني في جامع البيان بالقياس إلى التيسير، وما فعله في التمهيد بالقياس إلى التعريف كما سيأتي بيانه.

رابع عشر: ولتعلم لجنة مراجعة مصحف المدينة النبوية الموقعة رسميا التي تعترض على كتاب “التعريف في اختلاف الرواة عن نافع” لاشتماله على روايتي إسماعيل بن جعفر وإسحاق المسيبي من طريقين ، وروايتي ورش وقالون من ثلاثة طرق عن كل منهما، أن لأبي عمرو الداني كتابا في هذا الموضوع لا تعرفه، أو لا تعترف به فترفع الدعوى عليه بالأحرى؛ لأنه أوسع رواية عن نافع بكثير بالنسبة إلى كتاب التعريف، وهو أيضا مما قرأ وأقرأ به في زمنه، واستمرت روايته بالسند إليه في الأندلس والمغرب إلى ما بعد المائة التاسعة بعد الهجرة على الأقل كما تدل عليه روايته.

كتاب التمهيد في قراءة نافع لأبي عمرو الداني:

بهذا العنوان ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المنتوري الأندلسي (ت834هـ) في فهرسته، وقال :”قرأت بعضه تفقها على شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن محمد القيجاطي، وأجاز لي جميعه، ثم ذكر سنده به إلى ابن أبي جمرة عن أبيه عن مؤلفه الحافظ أبي عمرو الداني .

وجاء اسمه في فهرسة تصانيف الإمام أبي عمرو الداني بتحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد هكذا :”التمهيد لاختلاف أصحاب نافع بالعلل ـ مجلد”.

وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي أنه مجلدان .

وقال في كتاب معرفة القراء الكبار وطبقاتهم على الأعصار :”وقفت على أسماء مصنفاته (الداني) في تاريخ الأدب لياقوت الحموي فإذا فيها كتاب “التمهيد لاختلاف قراءة نافع عشرون جزءا”.

ويشتمل كتاب التمهيد على عشر روايات عن نافع، وهم الأربعة الذين في كتاب “التعريف”: عثمان بن سعيد ورش، وعيسى بن مينا قالون، وإسماعيل بن جعفر الأنصاري، وإسحاق بن محمد المسيبي، والستة الباقون: كردم التونسي، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، وخارجة بن مصعب السرخسي، وسليمان بن مسلم بن جماز، وأبو خليد عتبة بن حماد، وأبو قرة موسى بن طارق اليمني.

وقد نقل الحافظ ابن الجزري في أول كتاب “النشر” نصا لأبي حيان محمد بن يوسف بن حيان الجياني الأندلسي قال:”ومن خطه نقلت” ، وذكر جوابا له عن نفي انحصار الأحرف السبعة في الشاطبية والتيسير وغيرهما، مما تعمدت إيراده هنا لعل اللجنة تنظر إلى دعواها على “التعريف” في ضوء ما قاله أبو حيان عن “التمهيد” وغيره، وكأنه يرد على صنيع اللجنة في قولها:”نرى الاقتصار على قراءة الإمام نافع من روايتي قالون وورش بما تضمنته الكتب التالية: 1ـ التيسير.2ـ الشاطبية.3ـ النشر.4ـ الدرر اللوامع. قال أبو حيان:” وهل هذه المختصرات التي بأيدي الناس اليوم كالتيسير والتبصرة والعنوان والشاطبية بالنسبة لما اشتهر من قراءات الأئمة السبعة إلا نَزْرٌ من كُثْرٍ، وقطرة من قَطْرٍ”، قال :”وينشأ الفقيه الفروعي فلا يرى إلا مثل الشاطبية والعنوان فيعتقد أن السبعة محصورة في هذا فقط، ومن كان له اطلاع على هذا الفن رأى أن هذين الكتابين ونحوهما من السبعة (كنغبة من دأماء، وتربة في يهماء)”. ثم ذكر الرواة عن أبي العلاء البصري وكثرتهم وقال:”وهذا نافع الإمام الذي يقرأ أهل المغرب بقراءته، اشتهر عنه في هذه الكتب المختصرة ورشٌ وقالون، وعن أهل النقل اشتهر عنه تسعة رجال: ورش، وقالون، وإسماعيل بن جعفر، وأبو خليد، وابن جماز، وخارجة، والأصمعي، وكردم، والمسيبي”.

ثم قال أبو حيان :”وهكذا كل إمام من باقي السبعة قد اشتهر عنه رواة غير ما في هذه المختصرات، فكيف يلغي نقلهم ويقتصر على اثنين؟ وأي مزية وشرف لذينك الاثنين على رفقائهما وكلهم أخذوا عن شيخ واحد، وكلهم ضابطون ثقات؟”. قال :”وأيضاً فقد كان في زمان هؤلاء السبعة من أئمة الإسلام الناقلين القراءات عالم لا يحصون، وإنما جاء مقرئٌ اختار هؤلاء وسماهم، ولكسل بعض الناس وقصر الهمم وإرادة الله أن ينقص هذا العلم اقتصروا على السبعة، ثم اقتصروا من السبعة على نزر يسير منها. انتهى” .

وأورد ابن الجزري هذا النقل بطوله عن أبي حيان في كتاب “منجد المقرئين” وفيه قوله :”وتلخص من هذا كله اتساع روايات غير أهل بلادنا، وأن الذي تضمنه “التيسير” و”التبصرة” و”الكافي” وغيرها من تأليف أهل بلادنا إنما هو قُلٌّ من كُثر، ونزرٌ من بحر.

وبيان ذلك أن في هذه الكتب مثلا قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس عن نافع غير ورش وقالون، منهم إسماعيل بن جعفر المدني، وأبو خليد ، وابن جماز، والأصمعي، والمسيبي، وغيرهم. وفي هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون.

ثم روى أصحابنا رواية ورش عن أبي يعقوب الأزرق ولم يتسع لهم أن يُضمِّنوا كتبهم رواية يونس بن عبد الأعلى، وداود بن أبي طيبة، وأبي الأزهر عبد الصمد بن عبد الرحمن ، وأبي بكر الأصبهاني عن شيوخه عن ورش، وكل هؤلاء قرأوا على ورش، وفيهم من هو أعلى وأوثق من ورش .

وهذا أنموذج مما روى أصحابنا في كتبهم، وكذا العمل في كل قارئ وكل راو من الأربعة عشر راويا الذين ضمنها أصحابنا كتبهم”.

والعجب كيف تخطت اللجنة المحترمة مثل هذا النص؟ وكيف أرادت أن تجعل احتفاظ المغاربة بما وصل إليهم من هذه الروايات وطرقها عن نافع أمرا ينبغي أن يتدخل “أولو الأمر وأهل العلم” لوضع حد له؟ أليس هذا هو ما يدعون إليه؟

وما رأيهم في احتجاج ابن الجزري بنص أبي حيان، في حين يحتجون بالنص الذي ضمنوه الفتوى على وجوب الاقتصار على ما في التيسير والشاطبية والنشر والدرر اللوامع؟

فإن قالوا : نحن في عصرنا اليوم لا نعرف هذه الروايات ، كانوا على حق في ذلك، ولكن هذه مشكلتهم، لا أنها مشكلة “التعريف” وطرقه، ومن مثل هذا حذر الحافظ ابن الجزري في مقدمة “منجد المقرئين” الذي تستدلون في الفتوى بالنقل عنه حين قال:”أيها الإخوة، أنى لكم أن تظنوا الظنون؟ ألم تسمعوا قوله تعالى :إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر: 9]، هبوا أنكم لم يسعكم نقلُه، كيف يسعكم جهلُه”.

ولتراجع اللجنة نفسها في قضائها بالغيب في أمر كهذا، ولتقرأ ما ختم به ابن الجزري كتابه “منجد المقرئين” في قوله :” إنني آخر ليلة فرغت من هذا التأليف رأيت وقت الصبح، وأنا بين النائم واليقظان، كأني أتكلم مع شخص في تواتر العشر، وأن ما عداها غير متواتر، فألهمت في النوم أن لا أقطع بأن ما عدا العشر غير متواتر، فإن التواتر قد يكون عند قوم دون قوم، ولم أطلع على بلاد الهند وأقصى المشرق وغيره، فيحتمل أنها تكون عندهم متواترة؛ إذ لم يصل إلينا خبرهم، وألهمت أني ألحق ذلك في هذا الكتاب. وهذا عجيب، والله أعلم”.

وأعود إلى كتاب “التمهيد” فأقول: إنه اشتمل على عشر روايات عن نافع من طرق كثيرة، فمنها ما أسنده في التعريف وجامع البيان والمفردات السبع، وأكثرها مما لم يسنده فيها كما تشير إلى ذلك بعض النقول عنه في المصادر.

قال شيخ الجماعة بفاس وأحد أعلام مدرسة “العشر الصغير” بها في شرحه “الفجر الساطع في شرح الدرر اللوامع” أبو زيد عبد الرحمن بن القاضي (ت 1082 هـ) وهو يتحدث عن الإمام نافع واختلاف الرواة عنه وسببه :”روى عنه مائتان وخمسون رجلا، سمى الطبري منهم أربعة وعشرين، منهم العشرة التي في التمهيد، والمختار منهم أربعة كما في المنبهة، والمشهور منهم اثنان كما في هذا الرجز والحرز وغيرهما”.

وفي كتابي “معجم مؤلفات الحافظ أبي عمرو الداني” كتبت قبل نحو العشرين عاما في حرف التاء منه معلومات وافية عن كتاب التمهيد في قراءة نافع، فكان مما قلته :”وهذا الكتاب ــ كما يتبين من النقول عنه في كتب القراءات عند شراح “الدرر اللوامع” و”الشاطبية” وغيرهما ــ أوسع كتب أبي عمرو الداني المؤلفة في قراءة نافع إن لم يكن أوسع ما فيها لإمام على الإطلاق منذ زمن نافع إلى اليوم، إلا أنه مفقود منذ زمان، وإنما بقي النقل المستفيض عنه عند المؤلفين كابن السداد ، وابن الجزري ، والمنتوري ، وابن القاضي ، ومسعود جموع ، والجعبري في كنز المعاني ، وغيرهم.

ويعتبر كتاب التمهيد من التآليف المبكرة عند الداني بالقياس إلى مؤلفاته المشهورة، فقد ألفه قبل “التيسير في القراءات السبع” كما يدل عليه قوله في سورة النجم من التيسير عند ذكر الابتداء بلفظ الاولى في قوله :عادا الاولى في رواية قالون، قال :”لما بينته من العلة في ذلك في كتاب التمهيد”، كما ألفه قبل كتابه “إيجاز البيان” لنقله عنه أيضا .

فماذا عسى لجنة مراجعة المصحف تقول في كتاب التمهيد لأبي عمرو الداني وهذه الروايات العشر عن نافع التي تضمنها وقرأ بها مؤلفه وقرئت عليه، ونقلها الناس من كتابه؟

خامس عشر: قول اللجنة في نص الفتوى وهي تصف الأوجه المذكورة: “ومخالفتها للمتلقى بالأسانيد المتواترة عن أهل الأداء الثقات”.

لا أدري كيف توصف “الأسانيد” بوصف “المتواترة”؟ فما أعلمه من علم مصطلح الحديث أن التواتر هو من أوصاف المتون، لا من أوصاف الأسانيد، فإنه يقال: هذا حديث متواتر، وهذا خبر متواتر، أو نقل متواتر، ولا يقال: سند أو إسناد متواتر؛ لأن التواتر إذا ثبت لم يحتج إلى السند، وثبوت التواتر إنما يتحقق أو ينتفي للخبر والرواية، لا للسند.

ولكن محرر الفتوى فاته أن يعلم أن السند أو الإسناد هو: نقل راو عن راو أو أكثر، أو نقل راويين أو أكثر عن راو واحد أو أكثر، وكيفما دار، فلا يكون متواتراً بحال، وإنما يوصف بالتواتر الخبر، أي: المنقول نفسه، لا السند الذي يروى وينقل به؛ ولذلك يقال للمنقول بالسند: مسند، ومتصل، أو مقطوع، ومرفوع أو موقوف، ومرسل، ولا يقال ذلك للمتواتر؛ لأن التواتر إذا تحقق يغني عن السند، ولا يحتاج إليه، كما أنه من صفات الخبر، لا من صفات الإسناد، فوصف الإسناد بالتواتر خطأ محض، ولذلك قسم العلماء التواتر إلى لفظي ومعنوي، ومثل بعضهم للأول بحديث:«من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وألف غير واحد في الأحاديث المتواترة على هذا الاعتبار، ومنهم الإمام السيوطي، ولا نعلم أحداً قال عن إسناد: إنه متواتر؛ وقد قال العلامة طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه «توجيه النظر» تعليقاً على قول أبي عمرو عثمان بن الصلاح: “وما قاله ابن الصلاح من أن المتواتر لا يبحث عنه في علم الأثر، مما لا يمترى فيه. قال بعض العلماء الأعلام: ليس المتواتر من مباحث علم الإسناد، إذ هو: علم يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك، والمتواتر لا يبحث فيه عن رواته، بل يجب العمل به من غير بحث لإفادته علم اليقين…”، قال :”ومما يدل على أن المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد أنه لا يكون إلا في النادر جداً إسناد على الوجه المألوف في رواية أخبار الآحاد، ولذلك ترى علماء الأصول يقسمون خبر الواحد إلى قسمين: مسند ومرسل، ولا يعترضون إلى تقسيم المتواتر إلى ذلك، فإن اتفق للمتواتر إسناد لم يبحث في أحوال رجاله البحث الذي يجري في أحوال الأسانيد التي تروى بها الآحاد إذا ثبت تواتره؛ لأن الإسناد الخاص يكون مستغى عنه، وإن كان لا يخلو من الفائدة”.

وقال الجزائري في الفصل السادس في أقسام الحديث :”المسألة الأولى: أن المحدثين لا يبحثون عن المتواتر؛ لاستغنائه بالتواتر عن إيراد سند له … وأما الحديث المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة”. يعني عن أقسام الحديث الثلاثة إلى صحيح وحسن وضعيف .

وقد قدمنا نقل قول الحافظ ابن الجزري في «النشر»: “وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره».

تحصل من هذا أنه لا يقال: “الأسانيد المتواترة”؛ لأن الأسانيد لا تتواتر، وإنما تتواتر المتون والنقول المنقولة، فإذا تواترت تواتراً لفظياً أو معنوياً لم يحتج فيها إلى أسانيد الآحاد باتفاق أهل هذا الشان.

سادس عشر: قول اللجنة: “لذا نرى أن كل من يجترئ على الإقراء بأي وجه من الأوجه التي شذت عن القراء العشرة يجب على أولي الأمر وأهل العلم منعه من ذلك في أي مكان”.

أقول: هذا الاستعداء لأولي الأمر وأهل العلم على قراء العشر الصغير عدوان لا مبرر له، وهو في حقيقته عدوان على هذه الأوجه التي يقرأ بها في «العشر الصغير» عند المغاربة إلى اليوم، وكان على لجنة المصحف ان لا تتسرع في الاستعداء ـ كما تقدم ـ قبل ان تستوفي عناصر الإثبات، وإلا كانت جائرة في الحكم، و كان أقل ما يجب عليها بالنظر إلى ما عندها من إمكانيات مادية ومعنوية، أن تقوم برحلة إلى المغرب، وأن تستعين بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية بالتنسيق مع الجهات الرسمية لتتحقق من موضوع الدعوى، وبعد ذلك تحكم بناء على حصيلة الرحلة.

فإذا افترضنا أن هذا لم يفت اللجنة عن عجلة، وإنما هي ترى أن الروايات التي اشتمل عليها كتاب “التعريف” ـ كما أشارت إلى ذلك ـ والتي “شذت عن القراء العشرة” كما وصفتها، لا تحتاج إلى التحقق من كونها موجودة في المغرب، ومما يقرأ به فيه؛ لأن غرضها هو الضغط بواسطة السلطة والعلماء لمنع هذه الروايات من التداول في المغرب وغيره؛ لأنها “شذت عن القراء العشرة”، ودليل ذلك أنها مخالفة لما في التيسير والشاطبية والنشر والدرر اللوامع، مما روي في هذه الكتب من روايات عن الإمام نافع، قالت اللجنة: “وهي التي أجمع المسلمون على تلقيها بالقبول في المشرق والمغرب” ، أدركنا ـ ولا شك ـ أن اللجنة منزعجة من وجود روايتي إسماعيل بن جعفر إلى اليوم عند المغاربة، ووجود رواية إسحاق المسيبي من الطرق عنهما، ومن وجود رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عن قالون، ورواية عبد الصمد العتقي عن ورش، وهي لا تعرف عن هذه الروايات والطرق عن نافع قليلاً ولا كثيراً، فلا أقل إذن من أن تقيم عليها الدنيا، وأن تستعدي السلطتين: الإدارية والعلمية للقضاء والإجهاز عليها حيثما كانت.

وكان على اللجنة قبل أن تتوجه إلى ما بقي معروفاً عند المغاربة من هذه الروايات أن تقوم بمصادرة المصادر المشرقية من كتب القراءات التي جعلها ابن الجزري من مصادره في «النشر» دون تحرج، وهي في الوقت نفسه مشتملة على جميع ما في كتاب «التعريف» روايات وطرقاً، وحينئذ تكون قد أتت البيوت من أبوابها، ولا تكون حملتها متجهة إلى كتاب “التعريف” بوجه خاص.

ولنسق للبيان بعض ما تأتى الوقوف عليه في هذه العجالة من كتب المشارقة دون مراعاة الترتيب التاريخي.
أولاً: كتاب الغاية في القراءات العشر للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري (ت381ه) وكتاب «المبسوط في القراءات العشر» له أيضاً.

وهما أقدم ما وصل إلينا من كتب القراءات السبع أو العشر بعد سبعة ابن مجاهد، وفيهما الروايات الأربع التي في كتاب «التعريف» للداني، وبها ابتدأ أسانيده في الكتابين بعد ذكر إسناده لقراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع، فقال بعد التعريف بنافع، واللفظ لفظ كتاب الغاية:

أ‌- “رواية ورش طريق الأصبهاني:

قرأت القرآن من أوله إلى آخره على أبي القاسم هبة الله بن جعفر بن محمد بن الهيثم ، قال: قرأت على أبي بكر محمد بن عبد الرحيم الأصبهاني، قال: قرأت بفسطاط مصر على أبي الربيع ابن أخي الرشديني، وختمت عليه إحدى وثلاثين ختمة بقراءة نافع، وقلت له: إلى من تسند قراءتك؟ فقال: إلى عثمان بن سعيد المعروف بورش”.

قال الأستاذ أبوبكر: أخبرني أبو القاسم، قال لي أبوبكر ـ بن مهران ـ: وقرأت أيضاً بمصر على موّاس بن سهل بن أخي أبي الربيع الرشديني، وسألته إلى من تسند قراءتك؟ فقال: قرأت على يونس بن عبد الأعلى وغيره، وذكر جماعة، وقال يونس: قرأت على ورش، وقال ورش: قرأت على نافع”.

رواية الأصبهاني في التعريف للداني:

وللمقارنة بما في التعريف، قال أبو عمرو الداني في إسناد رواية الأصبهاني :”وأما رواية أبي بكر الأصبهاني، فأخبرني عبد العزيز بن أبي الفضل الفارسي أن أبا طاهر بن أبي هاشم حدثهم، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم عن أصحابه عن ورش عن نافع.

وقرأت بها القرآن كله على فارس بن أحمد، وقال لي: قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن، وقال: قرأت بها على أبي عبد الله إبراهيم بن عبد العزيز الفارسي، وقال: قرأت القرآن كله على أبي بكر بن عبد الرحيم، وأخبرني أنه قرأ على جماعة، منهم مواس بن سهل، وقرأ مواس على يونس بن عبدالأعلى، وعلى داود بن أبي طيبة، وقرآ على ورش، وقرأ ورش على نافع”.

قال أبو عمرو: “سمعت فارس بن أحمد يقول: سمعت عبد الباقي بن الحسن يقول: قال محمد بن عبد الرحيم الأصبهاني: دخلت إلى مصر ومعي ثمانون ألف درهم، فأنفقتها على ثمانين ختمة” .

فأي فرق بين غاية ابن مهران وتعريف الداني في سنده برواية الأصبهاني؟.

ب – رواية إسماعيل بن أبي كثير في غاية ابن مهران، والمبسوط له واللفظ للأول:

“طريق ابن فرح: قرأت القرآن من أوله إلى آخره على أبي القاسم هبة الله بن جعفر ببغداد، وعلى أبي القاسم زيد بن علي بالكوفة، قالا: قرأنا على أبي جعفر أحمد بن فرح المفسر المقرئ، وذكر أنه قرأ على أبي عمر حفص بن عمر الدوري الضرير، وقرأ أبو عمر على إسماعيل بن جعفر، وقرأ إسماعيل على نافع …” .

رواية الداني لطريق ابن فرح في كتاب التعريف.

قال:”وأما رواية ابن فرح فإني قرأت بها القرآن كله على فارس بن أحمد، وقال: قرأت على عبد الباقي بن الحسن المقرئ، وقال: قرأت على زيد بن علي الكوفي، وقال: قرأت على أحمد بن فرح، وقال: قرأت على الدوري، وقال: قرأت على إسماعيل، وقال: قرأت على نافع” .

فأي فرق بين رواية ابن مهران في الغاية لطريق ابن فرح عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير وبين رواية الداني في كتاب «التعريف»؟.

ج – رواية ابن مهران في الغاية لرواية قالون ومثله في المبسوط:

طريق الحلواني وأحمد بن قالون.

قال أبو بكر: “قرأت القرآن من أوله إلى آخره مراراً على الحسين بن عباس الرازي، وأخبرني أنه قرأ على أحمد بن قالون، وأحمد بن يزيد الحلواني، وقرآ جميعاً على قالون، وقرأ على نافع”.

رواية الداني في التعريف طريق الحلواني لرواية قالون.

قال :”وأما رواية الحلواني فإن أبا مسلم محمد بن أحمد البغدادي حدثنا بها، قال: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدثنا الحسن بن مهران الجمّال، قال: حدثنا أحمد بن يزيد الحلواني عن قالون عن نافع.

وقرأت بها القرآن كله على شيخنا أبي الفتح فارس بن أحمد، وقال لي: قرأت بها القرآن على عبد الله بن الحسين البغدادي، وقال: قرأت على أبي الحسن بن شنبوذ، وقال: قرأت على الجمّال، وقال: قرأت على الحلواني، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع…”.

فأي فرق بين طريق ابن مهران إلى الحلواني عن قالون في الصحة وبين رواية الداني في “التعريف”، وهي روايته من طريق ابن مجاهد عن الحسن بن مهران الجمّال عن أحمد الحلواني عن قالون كما في كتاب السبعة؟
د- رواية ابن مهران لرواية قالون طريق ابن نشيط المروزي عنه في الغاية والمبسوط:

قال ابن مهران: “وقرأت القرآن من أوله إلى آخره على أبي الحسين أحمد بن عثمان بن جعفر بن بويان قال: قرأت على أبي حسان أحمد بن محمد بن الأشعث، وقرأ أبو حسان على أبي نشيط محمد بن هارون المروزي، وقرأ أبو نشيط على قالون عيسى بن مينا. وقرأ على نافع بن عبدالرحمن”.

رواية الداني في كتاب التعريف طريق أبي نشيط المروزي عن نافع.

قال في التعريف: “فأما رواية أبي نشيط، فحدثنا بها أبو محمد عبد الله بن محمد، قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد المقرئ، أن أحمد بن جعفر بن بويان قال: أقرأني أحمد بن محمد بن الأشعث قال: أقرأني أبو نشيط محمد بن هارون، قال: أقرأني قالون، قال: أقرأني نافع.

وقرأت بها القرآن كله على فارس بن أحمد وعلى غيره، وقال لي فارس بن أحمد: قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن، وقال: قرأت على إبراهيم بن عمر المقرئ، وقال: قرأت على أبي الحسين أحمد بن عثمان المقرئ، وقال: قرأت على أبي حسان أحمد بن محمد، وقال: قرأت على أبي نشيط، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع .

فأي فرق في طريق أبي نشيط عن قالون بين الغاية لابن مهران والتعريف للداني؟

وإذا كان الأمر كذلك في هذه الروايات والطرق، كان الإقراء بما في الغاية لنافع، وبما في التعريف للداني على حد سواء في الصحة والجواز، ومعنى ذلك أن من قرأ بطرق الغاية لابن مهران يكون حتماً قد قرأ بطرق التعريف المذكورة، وذلك يعني أن الحافظ ابن الجزري قرأ بها من خلال قراءته بكتاب الغاية المذكور، فإنه ذكره في مصادره في أول “النشر” وذكر سنده به رواية، ثم زاد فقال :”وقرأت به القرآن كله على الشيخ الأستاذ أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد بن علي المصري ضمناً …”، وذكر سنده، وقال مرة أخرى :”وقرأت بما دخل في تلاوتي من القراءات السبع من كتاب الغاية المذكور جميع القرآن على شيخي الإمام أبي العباس أحمد بن سليمان الدمشقي …”، وذكر السند.

وإذا تحقق لدينا أن ابن الجزري – وهو أمر لا مدفع له – قد قرأ بهذه الروايات ورواها من كتاب الغاية، كان لا فرق بينه وبين الداني في القراءة بها من كتاب “التعريف”، ولا فرق بين من قرأ بها بعدهما من الكتابين أو من أحدهما أو من غيرهما، والنتيجة أن من قرأ بها من كتاب «النشر» كمن قرأ بها من كتاب “التعريف”، ومنه يعلم أن دعوى اللجنة أن “في الكتاب أوجهاً شاذة لا يقرأ بها اليوم ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا” هي دعوى يردها أن القراءة بها قد استمرت من خلال غاية ابن مهران وغيرها مما قرأ به الأئمة وأدخلوه في مؤلفاتهم، وأسندوه في أوائلها إلى أن انتهى جميع ذلك إلى الحافظ ابن الجزري في القرن التاسع حيث ذكر أنه قرأ بها القرآن كله.

فكيف تدعي اللجنة أن القراءة بما في “التعريف” من تلك الأوجه شاذ، وأن القراءة بها لم تتواتر من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا؟ وماذا تقول وهي في كتاب النشر؟

وبما أن اللجنة تستدل بكتاب «منجد المقرئين» وتنقل منه، فإننا نحيلها على قول مؤلفه فيه، وكأنه توقع مثل ما وقعت فيه اللجنة :”فإن قيل: كيف يعرف الشاذ من غيره، إذ لم يدع أحد الحصر؟ قلت: الكتب المؤلفة في هذا الفن في العشر والثمان وغير ذلك، مؤلفوها على قسمين: منهم من اشترط الأشهر، واختار ما قطع به عنده، فتلقى الناس كتابه بالقبول، وأجمعوا عليه من غير معارض كغايتي ابن مهران وأبي العلاء الهمداني، وسبعة ابن مجاهد، وإرشاد أبي العز القلانسي، وتيسير أبي عمرو الداني، وموجز أبي علي الأهوازي، وتبصرة ابن أبي طالب، وكافي ابن شريح، وتلخيص أبي معشر الطبري، وإعلان الصفراوي، وتجريد ابن الفحام، وحرز أبي القاسم الشاطبي، وغيرها، فلا إشكال في أن ما تضمنته من القراءات مقطوع به، إلا أحرفاً يسيرة يعرفها الحفاظ الثقات، والأئمة النقاد…”.

هكذا حكم ابن الجزري على هذه الكتب وفي جملتها كتاب الغاية لابن مهران، أن ما تضمنته من القراءات مقطوع به، “إلا أحرفاً يسيرة يعرفها الحفاظ الثقات والأئمة النقاد”، فإن ادعت اللجنة بعد هذا أنها تعني تلك الأحرف اليسيرة بالذات ورد عليها أن ابن الجزري لم يدع إلى إيقاف القراءة بهذه الكتب ويقُمْ باستعداء أولي الأمر وأهل العلم عليها، وعلى المقرئين بها من أجل تلك الأحرف، ولم يدع علماءَنا الأثباتَ إلى التدخل لحفظ القرآن الكريم «من أن تمتد إليه يد العبث» كما دعت إليه لجنة مراجعة المصاحف في المجمع المذكور.

رد ابن الجزري في منجد المقرئين على ما ادعت اللجنة :

لقد تضمن نص ابن الجزري الذي استدلت به اللجنة من “منجد المقرئين” تقسيما ثلاثياً في غاية الأهمية، هو في الحقيقة يفيد عكس ما جاءت به اللجنة من أجله، حيث قال ناقلاً عن الإمام البغوي قوله: “واعلم أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم المصحف، فهذا لا شك في أنه لا تجوز القراءة به لا في صلاة ولا في غيرها، ومنه ما لا يخالف رسم المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طرق غريبة لا يعول عليها، وهذا يظهر المنع من القراءة به أيضاً، ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديماً وحديثاً، فهذا لا وجه للمنع منه”.

وكتاب “التعريف” الذي حكمت اللجنة بأن “في الكتاب أوجهاً شاذة لا يقرأ بها اليوم ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى اليوم” ليس من القسم الأول الذي يخالف الرسم قطعاً، وهو عند اللجنة ليس من القسم الأخير الذي هو ما قال عنه البغوي: “ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديماً وحديثاً، فهذا لا وجه للمنع منه”، فالتعريف إذن انحصر في رأي اللجنة في القسم الثاني وهو: “ما لا يخالف رسم المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طرق غريبة لا يعول عليها”.

لا شك أن اللجنة تعلقت بهذا القسم وعملت على حشر تلك الأوجه التي ادعت كونها شاذة في كتاب “التعريف” ضمن هذا الصنف لينطبق عليها الوصفان، وهما قوله: «ولم تشتهر القراءة به» وقوله: «وإنما ورد من طرق غريبة».

أما نحن فنطالب اللجنة بإثبات مستندها في إدخال الكتاب كله أو هذه الأوجه على الأقل ضمن ما يصدق عليه الوصفان أو أحدهما؛ لأن فتواها أتت بهذا الكلام المرسل على عواهنه دون وضع الأصبع على موضع الداء إن كان هناك ما يصح أن توضع الأصبع عليه بحق في هذه الأوجه المقروء بها في تلك الروايات؛ لأننا أثبتنا ونثبت فيما سيأتي أنها بدون استثناء وجوه صحيحة مسلمة مقروء بها في المصنفات المشرقية أولاً، ثم في المصنفات المغربية ثانياً، وأنها مشتهرة اشتهاراً لا حدَّ له، ومستفيضة في النقل وباقية في الإقراء، ومضمنة عند المغاربة في المنظومات والرمزيات والشروح، معلومة عندهم لم ينقطع العلم بها والحفظ لها عندهم إلى اليوم.

ويبقى على اللجنة أن تجيب على قول ابن الجزري في “منجد المقرئين” :”فإن قلت: قد وجدنا في الكتب المشهورة المتلقاة بالقبول تبايناً في بعض الأصول والفرش كما في الشاطبية والتيسير، نحو قراءة ابن ذكوان: ﴿ولا تتبعان﴾ [يونس: 89] بتخفيف النون، وقراءة هشام: ﴿أفئيدة﴾ [إبراهيم: 37] بياء بعد الهمزة، وكقراءة قنبل: ﴿على سُؤْقه﴾ [الفتح : 29] بواو بعد الهمزة، وغير ذلك من التسهيلات والإمالات التي لا توجد في غيرها في كتاب أو اثنين، وهذا لا يثبت به تواتر؟

قلت: هذا وشبهه – وإن لم يبلغ مبلغ التواتر- صحيح مقطوع به، نعتقد أنه من القرآن، وأنه من الأحرف السبعة التي نزل بها” .

فما رأي اللجنة في الاعتراض على ما تضمنه “التعريف” كلاً أو بعضاً؟ هل يبقى لها مخرج؟ وهل يمكن أن تُمَشِّي ما في “التيسير” للداني، وتطعن فيما في “التعريف” وهو للمؤلف نفسه؟ وكيف تجيب عن قول ابن الجزري: “وإن لم يبلغ مبلغ التواتر مقطوع به نعتقد أنه من القرآن”؟ كيف لا تأخذ اللجنة بهذا فتريح وتستريح؟
فإن بقي لها بعض المخرج في دعوى انفراد الداني بما في “التعريف”، وإن لم تأت على ذلك بأمثلة من انفراداته فيه؛ أقمنا الحجة على خلاف ذلك مما سوف ننقله من كتب المشارقة قبله وبعده من الذين شاركوه –وهم عشرات- في رواية طرق نافع التي في كتبه.

وعلى فرض أن الداني أو من ينقل عنه الداني من الثقات، قد انفرد بتلك الأحرف، فإن الحافظ ابن الجزري يسدُّ هذه الثغرة أيضاً في “منجد المقرئين” في السياق نفسه، فيقول: “والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم واستفاض وتُلقي بالقبول، قُطع به، وحصل به العلم. و هذا قاله الأئمة في الحديث المتلقى بالقبول أنه يفيد القطع …”، ثم ذكر من نقل عنه مثل ذلك من كبار الأئمة وختم بقوله:

“قلت: فثبت من ذلك أن خبر الواحد العدل الضابط إذا حفته قرائن يفيد العلم، ونحن ما ندعي التواتر في كل فرد فرد مما انفرد به بعض الرواة، أو ما اختص ببعض الطرق، لا يدعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر؟ وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين:

 

1-  متواتر. 2- وصحيح مستفاض متلقى بالقبول، والقطع حاصل بهما” .

فإن لم تنحل العقدة بعد، وزعم زاعم أن الداني في “التعريف” قرأ بروايات وطرق فيها أحرف شاذة «لا يقرأ بها اليوم، ولم تتواتر القراءة بها من عصر المؤلف إلى عصرنا هذا؛ ولإجماع أهل المشرق والمغرب على عدم تلقي هذه الأوجه بالقبول ومخالفتها للمتلقى بالأسانيد المتواترة عن أهل الاداء الثقات»، عارضنا هذه الدعوى بذكر استفاضة هذه الروايات والطرق وما تضمنته من تلك الأوجه التي ذكرت اللجنة أنها شاذة، وذلك في المصنفات المشرقية، وتدرج التأليف فيها عندهم منذ كتاب القراءات لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) إلى أبي عمرو الداني، ثم من كان معاصراً له، ثم من جاء بعده من الأئمة مما ينفي أن تكون: «القراءة بها لم تتواتر من لدن عصر المؤلف إلى اليوم» وينفي قول اللجنة: «ولإجماع علماء المشرق والمغرب على عدم تلقي تلك الأوجه بالقبول».

– ما يشترك كتاب “التعريف” فيه مع أهم كتب القراءات المشرقية، ويعتبر الطعن فيه طعناً فيها بالأولى:

أشار أبو عمرو الداني في صدر كتاب “التعريف” إلى ما ضَمَّن كتابه من روايات وطرق بقوله: “وهذه الروايات هي المشهورات عن هؤلاء الأربعة: إسماعيل بن جعفر، والمسيبي وقالون، وورش، وبها يأخذ كل أهل الأداء في جميع الأمصار”.

ولنضع خطوطاً تحت قول الداني: “هي المشهورات” وقوله: “يأخذ كل أهل الأداء”، وقوله :”في جميع الأمصار”، فإن ما تحته خط يدل على أن الروايات المذكورة كما هي في “التعريف” كانت مشهورة في عصر الداني في المائة الخامسة بعد الهجرة زمن تأليف الكتاب، وهي عند كل أهل الأداء، وفي جميع الأمصار، يعني الأمصار المشرقية، ومعنى ذلك انها ظلت سائدة فيها لا فرق بين رواية ورش ورواية قالون وغيرهما، في الحجاز والشام والعراق ومصر. والداني نفسه قد قرأ بها كما في “التعريف” على عدد من القراء بمصر، وقرأ في الفسطاط بمصر بها بروايتي إسماعيل بن جعفر والمسيبي على أبي مسلم كاتب ابن مجاهد كما تقدم، وهو من العراق، وقرأ بروايات أخرى منها على فارس بن أحمد وهو من حمص الشام، وبطريق محمد بن سعدان الضرير على عبد العزيز بن جعفر الفارسي، وهو من أهل العراق، وقرأ برواية القاضي إسماعيل عن قالون على طاهر بن غلبون، وهو من حلب بالشام، وقرأ عليه أيضاً برواية أبي يعقوب الأزرق عن ورش، وقرأ بها على خلف بن إبراهيم الخاقاني في مسجده بالفسطاط بمصر، وقرأ برواية عبد الصمد بن عبد الرحمن العتقي عن ورش على القاضي أحمد بن عمر الجيزي في الجامع العتيق بمصر، وقرأ برواية الأصبهاني على عبد العزيز بن جعفر الفارسي المذكور عن أصحاب ورش وأصحاب أصحابه بمصر، وقرأ بها أيضاً على فارس بن أحمد الحمصي .

وبالنظر في الروايات المذكورة يتجلى مصداق ما ذكره الداني من تنوع طرقه فيها ما بين مصرية وشامية وعراقية، ومعنى هذا أن الطعن في الأوجه التي في “التعريف” هو طعن في مصادر مؤلفه وهي من أمصار مختلفة، والطعن في مصادر أبي عمرو في “التعريف” هو في النهاية طعن في مصادر ابن الجزري في “النشر”، ومن تلك المصادر المصدر الذي ذكرناه أولاً، وهو غاية ابن مهران (ت381هـ):

ثانيا: كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد البغدادي (ت324هـ):

وأول رواية فيه هي رواية إسماعيل بن جعفر عن نافع من طريق عبد الرحمن بن عبدوس المشهور بأبي الزعراء، قال ابن مجاهد في كتاب السبعة: “فإني قرأت بها القرآن على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القرآن إلى خاتمته نحواً من عشرين مرة، وأخبرني أنه قرأ بها على أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري الأزدي، وأخبره إسماعيل أنه قرأ بها على نافع”.

وهذه هي أول رواية عن نافع في كتاب “التعريف” لأبي عمرو الداني، وفيها قوله:
“فأما رواية أبي الزعراء، فحدثنا بها محمد بن أحمد بن علي البغدادي قراءة عليه بالفسطاط، قال: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: قرأت على أبي الزعراء، وقال: قرأت على أبي عمر الدوري، وقال: قرأت على إسماعيل، وقال: قرأت على نافع”.

ثم رواها الداني في “التعريف” من طريق شيخه فارس بن أحمد.

وثاني رواية في كتاب السبعة رواها ابن مجاهد بسنده “عن سليمان بن مسلم بن جماز عن نافع” ، وقد تقدم أنها من الروايات العشر التي اشتمل عليها كتاب التمهيد للداني.

وثالث رواية في كتاب السبعة رواها ابن مجاهد، قال: “وأخبرني إسماعيل بن إسحاق القاضي عن قالون عن نافع” ، وهي إحدى الطرق الثلاث عن قالون عن نافع في كتاب “التعريف” ، وهي أيضاً من طرقه في التمهيد.

ورابع رواية في السبعة والتمهيد هي عن أحمد بن صالح المصري عن قالون عن نافع .

وخامس رواية هي في السبعة والتعريف والتمهيد، وهي عن أحمد بن يزيد الحلواني عن قالون عن نافع .

وسادس رواية من طريق أحمد بن قالون عن أبيه عن نافع، وهي في السبعة والتمهيد .

وهكذا يشترك السبعة والتمهيد للداني في رواية ابن مجاهد من طريق الأصمعي عن نافع ، وأحمد بن صالح المصري عن ورش عن نافع ، وداود بن هارون عن ورش عن نافع ، والكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن نافع.

ويشترك السبعة لابن مجاهد مع التعريف والتمهيد في رواية محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع ، وزاد التعريف والتمهيد للداني على سبعة ابن مجاهد بطريق أحمد بن فرح المفسر عن الدوري عن إسماعيل بن جعفر، قال: قرأت على نافع ، وليست هذه الطريق في السبعة، واشترك كتاب السبعة في روايات وطرق أخرى كثيرة عن خارجة وأبي قرة وورش عن نافع مع كتاب التمهيد، وزاد عليهما معاً بروايات وطرق أخرى.

ومع كل هذا الاشتراك بين التعريف وبين السبعة لابن مجاهد، فإن اللجنة حكمت على ما في التعريف حكماً جازماً عاماً بقولها: “ولا عبرة بما ذكر من أوجه في بعض الكتب مثل كتاب «التعريف» للإمام الداني؛ لأن علماءنا الأثبات قد محصوا هذه الأوجه ودققوها، وبينوا صحيحها من سقيمها، ولم يتركوا شاردة ولا واردة إلا نظروا فيها بإمعان وروية”.

وأنا أترك للقارئ وحده أن يوازن بين ما عرضناه وبين ما تضمنه قرار هؤلاء العلماء الأثبات، وأرجو أن لا يمتد استعداء “أولي الأمر وأهل العلم” على هذه الروايات الثابتة في كتب الأئمة في مثل كتاب «التعريف» وأصله الذي هو كتاب «السبعة» ليصل إلى حد ما طالبت به اللجنة من منع “الذي يجترئ على الإقراء بأي وجه من الأوجه التي شذت عن القراء العشرة”، وأخشى أن تطالب بمصادرة الكتب التي تتضمن هذه الروايات حتى يقطع دابرها، ولا يبقى لها عين ولا أثر.

وسيكون عليها مصادرة كتاب: «السبعة» لابن مجاهد؛ لأنه أقدم ما هو في المكتبات من كتب القراءات.

ثالثاً: كتاب المنتهى لأبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي (ت408هـ)

ذكر في أسانيده أول الكتاب روايات كثيرة عن ورش منها ما هو في «التعريف» لأبي عمرو الداني، وليس منها في كتاب “النشر” إلا القليل جداً. وكذلك في رواية قالون عن نافع، ورواية إسماعيل بن جعفر الأنصاري، وإسحاق المسيبي، وطرق رواية المسيبي موافقة لما في التعريف .

فإذا رأت اللجنة في كتابي السبعة لابن مجاهد وكتاب المنتهى للخزاعي رأياً غير الذي رأته في التعريف كان عملها حينئذٍ من باب الكيل بمكيالين، لا سيما وكل من السبعة والمنتهى هو من مصادر ابن الجزري في النشر، حيث قال عنه: “كتاب المنتهى في القراءات العشر … قرأت به ضمناً على شيوخي المذكورين آنفاً في كتاب الكامل للهذلي بإسنادهم إلى أبي القاسم الهذلي، وقرأ به على شيخه أبي المظفر عبد الله بن شبيب، وقرأ به على الخزاعي” .

رابعاً: كتاب الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها.

وكتاب “الكامل” الذي جاء في السياق هو لأبي القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي (ت465هـ) من قرية بسكرة بالجزائر، وهو مطبوع، وفيه عن نافع من الروايات عن ورش وقالون وإسماعيل بن جعفر وإسحاق المسيبي عن نافع الجم الغفير، مما يلتقي مع أسانيد الداني في «التعريف» وفي «التمهيد» و«جامع البيان» وغيره مما أسند فيه من الروايات والطرق العشر وغيرها عن نافع .

خامساً: كتاب المستنير لابن سوار البغدادي.

ويقال مثل ذك في كتاب «المستنير في القراءات العشر» لأبي طاهر بن سوار البغدادي (ت496ه)، فإنه استهل كتابه بذكر إسناد قراءة نافع بن أبي نعيم المدني، واقتصر من الرواة عنه على الأربعة المشهورين الذين سماها الداني، وأثبت قراءتهم في «المستنير»، وقال في ترجمة نافع :”وروى عنه أربعة رواة، وهم: أبو موسى عيسى بن مينا قالون، وأبو إبراهيم إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، وأبو محمد إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب بن أبي السائب المسيبي، وأبو سعيد عثمان بن سعيد الملقب ورشاً، فلقالون ستة أصحاب، وهم: الحلواني، وأبو نشيط، وأحمد بن صالح المصري، وابنا قالون: أحمد وإبراهيم والحسين المعلم. ولإسماعيل صاحب واحد، وهو أبو عمر الدوري، وله أربعة أصحاب … وللمسيبي خمسة أصحاب … وذكرهم” .

وهذه الطرق التي في كتاب “المستنير” للروايات الأربع عن نافع هي أوسع بكثير مما في «التعريف» لأبي عمرو، ومنها ما هو في «النشر» من جملة الطرق عن ورش وقالون، وباقي الروايات والطرق عن نافع ليست فيه، فما رأي اللجنة في اشتمال كتاب المستنير على روايات هي نفسها مسندة في كتاب التعريف، أهي شاذة أيضاً؟ و«لم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلف إلى عصرنا هذا» كما قالت اللجنة متجنية على ما في «التعريف»؟ وكيف يكون ما وافق التعريف شاذاً؟ ألمجرد أنه وافقه؟ أم لأنه يُقرأ به في المغرب، ولم يَعُد يقرأ به في المشرق؟ لقد كان يكفي أنه من مصادر النشر نفسه، ليأخذ جواز المرور، ولكن أين من يَقرأ، وأين من يُنصف؟؟

سادساً: كتاب الروضة في القراءات الإحدى عشرة لأبي علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي المالكي (ت438هـ).

ومؤلفه بغدادي عاصر أبا عمرو الداني ومات قبله بنحو ست سنين. وقد اقتصر مؤلفه في كتابه من روايات قراءة نافع على الروايات الأربع عنه التي اقتصر عليها الداني في كتاب «التعريف»، ودل ما قاله في أول الروضة أن هذه الروايات في عصره كانت سائدة في العراق، قال: “سألت ــ وفقنا الله وإياك لطاعته … ــ أن أجمع لك ما نثرته في الخلافات من القراءات التي تلوت بها على شيوخ العراق ذوي السماعات والإجازات والتلاوة على غيرهم من الشيوخ…”.

وفي الأسانيد في أول قارئ ذكره ــ وهو الإمام نافع ــ ذكر رواته الأربعة: قالون وورش وإسماعيل والمسيبي ، وهو نفس ما في التعريف للداني .

وقال في رواية إسماعيل بن جعفر الأنصاري عن نافع: “وأما رواية أبي الزعراء، فإني قرأت بها القرآن من أوله إلى آخره بمدينة السلام على الشيخ أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن الخضر السوسنجردي … وذكر السند إلى أبي بكر بن مجاهد ـ صاحب السبعة ـ قال: “وأخبره أبو بكر أنه قرأ على أبي الزعراء، وقرأ أبو الزعراء على أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان الدوري الأزدي، وقرأ الدوري بها على أبي إبراهيم إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، مؤدب منصور بن المهدي، وقال إسماعيل: قرأت القرآن على أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني القارئ”.

وهذا –كما تقدم- سند أبي عمرو الداني في التعريف عن ابن مجاهد عن أبي الزعراء عن الدوري عن إسماعيل بغير زيادة ولا نقصان، وكذلك الشأن في طريق أحمد بن فرح المفسر عن الدوري عن إسماعيل .

ثم أسند في الروضة رواية المسيبي أيضاً من طريق ابنه محمد عنه، ثم من طريق محمد بن سعدان الكوفي الضرير . وذلك هو نفس ما في التعريف للداني من الطريقين كما تقدم.

وأذكر أن كتاب «الروضة» هو من أهم مصادر ابن الجزري في النشر، ومعناه أن الدعوى على «التعريف» للداني هي دعوى على «الروضة»؛ لأنها موافقة لما تضمنه من روايات وطرق في قراءة نافع، وخاصة من روايتي إسماعيل والمسيبي عنه، وهما في التعريف.

سابعا: كتاب المبهج في القراءات السبع المتممة بابن محيصن والأعمش ويعقوب وخلف، تأليف عبد الله بن علي بن أحمد بن عبد الله المعروف بسبط الخياط البغدادي (ت541هـ).

وقد وافق أيضاً ما في «التعريف» فيما أورده من روايات وطرق عن نافع، وقد ذكر فيه رواية ورش من طريق محمد بن عبد الرحيم الأصبهاني، وذكر رواية قالون من طريق أبي نشيط محمد بن هارون المروزي، ومن طريق أبي بكر بن مجاهد، قال: وقرأ ابن مجاهد على إسماعيل القاضي، وقرأ إسماعيل على قالون . ومن طريق أبي عون الواسطي عن أحمد الحلواني عن قالون عن نافع ، ومن طريق الجمّال عن الحلواني عن قالون عن نافع .

وهذه الروايات والطرق كلها في التعريف ولا فرق، ومن مزاياه أن مؤلفه خصه بما قرأ به على أحد أعلام قراء مكة المكرمة في عصره، قال في مقدمة المبهج: “ومعتمد فيه على ما رواه شيخنا الإمام الأوحد الأمجد أبو الفضل عبد القاهر بن عبد السلام بن علي العباسي الملقب عز الشرف المكي …، وكان قصدي في ذلك أن أشيَ وسمها بالروايات المكيات، وجعلتها في هذا الفن غايات”.

ثامناً: كتاب المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر للإمام المبارك بن الحسن أبي الكرم الشهرزوري (462-550هـ).

أما كتاب المصباح للشهرزوري البغدادي فقد اشتمل على الروايات الأربع التي في «التعريف» وجميع طرقه، ثم زاد باقي الروايات التي شارك فيها أبا عمرو الداني في كتاب «التمهيد» الآنف الذكر. قال الشهرزوري: “ذكرت لنافع في هذا الكتاب فيما قرأتْ به الجماعةُ عنه تسعة رواة، منهم: أبو موسى عيسى بن مينا قالون، وإسماعيل بن جعفر المدني، وأبو خليد، وابن جماز، وخارجة، والأصمعي، وكردم، والمسيبي، وورش”، ثم أخذ في تفصيل طرقه عنهم .

وبالمقارنة بين «المصباح» وبين ما تقدم بيانه من روايات وطرق للداني في التعريف والمفردات والتمهيد، نجد التوافق تاماً بينها جميعاً، وإنما تختلف في أوائل الأسانيد، ثم تتفق في الباقي.

فإذا علمنا أن كتاب “المصباح” هو من أهم مصادر ابن الجزري في كتاب النشر الذي عدته اللجنة أحد المصادر الأربعة التي قالت عنها مزكية لما تضمنته من روايات:”وهذه الكتب وحدها هي التي يقرأ بمضمنها، وهي التي أجمع المسلمون على تلقيها بالقبول في المشرق والمغرب…”، ترتب على ذلك أن يكون هذا الحكم سارياً عليها جميعاً؛ لأنها داخلة في مصادر النشر التي أسندها مؤلفه في أوله ، ثم نثر أسانيده التي قرأ بها إليها، ثم نثر مادتها القرائية في الكتاب كله.

فإذا جاز للجنة أن تطعن في كتاب «التعريف» جاز لها ولزمها بذلك الطعن في كتاب النشر نفسه، وذلك بالطعن في مصادره، وهي المصادر التي بينَّا فيما عرضناه من كتب الأئمة أن ما فيها وما في التعريف سواء. فإذا كان هناك من حكم بحق أو بغيره، فإنه في النهاية يسري ويصدق على الجميع، وبذلك لا يبقى أي معنى للحملة على كتاب التعريف للداني، إلا أن يكون الأمر كما قال الشاعر المصري أحمد شوقي في سينيته:

أحرامٌ على بلابله الدَّوْ حُ حلالٌ للطير من كل جنس؟

تاسعا: كتاب التذكرة في القراءات لأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي.

ومؤلفه شيخ أبي عمرو الداني، قرأ عليه بمصر، وتوفي بعد مفارقته له سنة 399هـ.

قال في مقدمته: “أما بعد حمد الله بجميع محامده، على جميع أياديه ومننه، والصلاة على نبيه والسلام، فإني ذاكر في هذا الكتاب ما تأدى إلي من قراءة أئمة الأمصار المشهورين، بالإيجاز تذكرة للعالم، وتقريباً على المتعلم … وأنا أذكر ما صح لدي عن الأئمة ، وهم:

1 ــ نافع في رواية إسماعيل بن جعفر، والمسيبي، وقالون، وورش”.

وقال في أسانيده لها:

1- في رواية إسماعيل: فأخبرني بها أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق المعدل، قال: حدثنا ابن مجاهد، عن ابن عبدوس ــ هو أبو الزعراء ــ عن أبي عمر ــ يعني الدوري ــ عن إسماعيل بن جعفر عن نافع .

قلت: وهذه كما تقدم رواية الداني في التعريف، قال فيها: “فأما رواية أبي الزعراء، فحدثنا بها محمد بن أحمد بن علي البغدادي قراءة عليه بالفسطاط، قال: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: قرأت على أبي الزعراء …”، وذكر السند أعلاه .

2- رواية المسيبي عن نافع.

قال ابن غلبون :”وأما رواية المسيبي عن نافع، فحدثني بها أبو الحسن المعدل، قال: حدثنا ابن مجاهد، قال: حدثني أحمد بن زهير، وإدريس بن عبد الكريم، عن خلف عن إسحاق عن المسيبي عن نافع، قال ابن مجاهد: وأخبرني محمد بن الفرج المقرئ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع” .

أما أبو عمرو فأسندها في التعريف فقال: “ذكر إسناد رواية المسيبي:

فـأما رواية محمد ابنه فحدثنا بها محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا أحمد بن موسى ــ هو ابن مجاهد ــ قال: حدثنا محمد بن الفرج، قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع”.

ثم أسندها من طريق محمد بن سعدان الضرير عن المسيبي عن نافع.

3- رواية قالون من طريق القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي.

قال ابن غلبون: “فأخبرني بها أبي – – قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن المستفاض قراءة عليه، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي عن عيسى بن مينا قالون، قال: قرأت على نافع هذه القراءة غير مرة …” .

وأخبرني أبو الحسن المعدل قال: أخبرنا ابن مجاهد، قال: أخبرني بقراءة نافع إسماعيل بن إسحاق القاضي عن قالون عن نافع” .

وقال الداني في التعريف: “وأما رواية القاضي فحدثنا بها طاهر بن غلبون قراءة مني عليه، قال: حدثنا أبي — قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد، قال: حدثنا إسماعيل القاضي عن قالون عن نافع”، قال: “وحدثنا بها أيضاً محمد بن أحمد –كاتب ابن مجاهد- قال: حدثنا ابن مجاهد، قال: حدثنا القاضي عن قالون عن نافع”. قال: “وقرأت بها القرآن كله على أبي الفتح – فارس بن أحمد الحمصي- وقال لي: قرات بها على عبد الله بن الحسين، وقال: قرأت بها على أبي بكر بن مجاهد، وقال: قرأت على إسماعيل، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع”.

4- رواية قالون عن نافع من طريق أحمد بن يزيد الحلواني عنه.

قال ابن غلبون عطفاً على رواية أبي الحسن المعدل:”وقال ابن مجاهد: وأخبرني بها ابن أبي مهران -الجمّال- أيضاً عن الحلواني عن قالون، وعن أحمد عن قالون عن نافع”.

5- طريق أبي نشيط عن قالون:

قال ابن غلبون:”وقرأت أنا بهذه الرواية القرآن كله على أبي رضي الله عنه بضم الميمات وإسكانها، وقال: قرأت على صالح بن إدريس، وقال: قرأت على أبي بكر أحمد بن الأشعث، ويعرف بأبي حسان، وقال: قرأت على أبي نشيط محمد بن هارون، وقال: قرأت على قالون، وقال: قرأت على نافع بإسكان الميمات”. قال ابن غلبون: “وقال لي أبي: وقرأت بها على صالح، وقال: قرأت بها على أبي الحسن علي بن سعيد القزاز، وقال: قرأت على محمد بن أحمد المقرئ، وعلى أبي عبد الله النحوي، وقالا: قرأنا على أبي عون الواسطي عن الحلواني أحمد بن يزيد عن قالون عن نافع بضم الميمات”.

وهكذا رواها الداني في التعريف من طريق أبي نشيط المذكورة من قراءة أبي حسان المذكور عن أبي نشيط عن قالون عن نافع، وروى مثلها رواية الحلواني من طريق أبي مسلم محمد بن محمد البغدادي كاتب ابن مجاهد، عن ابن مجاهد قال: حدثنا الحسن بن مهران الجمّال، قال: حدثنا أحمد بن يزيد الحلواني عن قالون عن نافع، ثم أسندها من طرق اخرى عن الجمّال عن الحلواني، ثم من طريق أبي عون الواسطي عن الحلوني، ثم قال مثل ابن غلبون: “وقرأت أنا بها ختمة كاملة على أبي الفتح بضم الميم عند الميم وعند الهمزة وعند آخر الآية”.

6- رواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق:

قال أبو عمرو في التعريف: “فأما رواية أبي يعقوب فحدثنا بها أبو الحسن طاهر بن غلبون قراءة مني عليه، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن مروان، قال: حدثنا أبوبكر بن سيف، قال: حدثنا أبو يعقوب الأزرق عن ورش عن نافع”.

وهذه طريق طاهر بن غلبون في التذكرة حيث قال: “فأخبرني بها أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مروان المقرئ …”، وذكر السند من طريقين إلى الأزرق عن ورش عن نافع.

وبالمقارنة نجد التطابق يكاد يكون كاملاً بين تذكرة طاهر بن غلبون في هذه الروايات الأربع، وبين كتاب التعريف للداني، علماً بأنها من مصادر ابن الجزري في النشر.

فلماذا تخص اللجنة التعريف بالاعتراض ودعوى الشذوذ؟

عاشراً: غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الامصار، للحافظ أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني العطار (ت569هـ).

قال في ذكر ما تضمنه كتابه من الروايات عن نافع :”قراءة نافع: رواية إسماعيل، وقالون، والمسيبي، وورش”.
ثم قال في تفصيلها :”فأما إسماعيل فمن طريق الدوري عنه طريق ابن مجاهد عن أبي الزعراء، وطريق زيد عن ابن فرح معاً عن الدوري.

وأما قالون فمن طريق الأحمدين : أحمد بن قالون، وأحمد الحلواني، وأبي نشيط عنه.

وأما المسيبي فمن طريق ابنه -محمد- وأبي حمدون عنه.

وأما ورش فمن طريق الأصبهاني عمن ذكره عنه”.

ومن المقارنة بين غاية الاختصار للحافظ أبي العلاء وكتاب التعريف للحافظ الداني لا نجد اختلافاً في الروايات الأربع عن نافع، إلا أن أبا العلاء زاد عليه برواية أحمد بن قالون عن أبيه، ورواية أبي حمدون عن المسيبي، ووافقه في الباقي .

فلماذا يُعترض على التعريف للداني، ولا يُعترض على غاية الاختصار لأبي العلاء الهمداني؟

ولماذا يدَّعى أن ما في التعريف “لم تتواتر القراءة به من لدن عصر المؤلف إلى اليوم”؟ وهاهو الحافظ أبو العلاء (ت596ه) يقول عنها في أول كتابه: “فإن هذه تذكرة في اختلاف القراء العشرة الذين اقتدى الناس بقراءتهم، وتمسكوا فيها بمذاهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، اقتضبتها من جميع ما قرأت به من القراءات، واقتصرت فيها على الأشهر من الطرق والروايات”.

فكيف قرأ بها الحافظ أبو العلاء في القرن السادس الهجري، وذكر أنها هي “الأشهر من الطرق والروايات”، بينما ترى اللجنة في حكمها على ما في التعريف بالشذوذ تارة وانقطاع التواتر به أخرى منذ موت مؤلفه؟

أكتفي بهذه المصادر العشرة، وبين يدي كتب أخرى كلها كتب مشرقية تضمنت هذه الروايات الأربع التي في «التعريف في اختلاف الرواة عن نافع» كإرشاد ابن غلبون، والكفاية الكبرى في القراءات العشر لأبي العز القلانسي، وإرشاد المبتدي للقلانسي أيضاً، والوجيز لأبي علي الأهوازي، وكتاب الكنز في القراءات العشر لابن الوجيه الواسطي (ت740هـ).

فهذه خمسة عشر كتاباً هي أمهات مصادر كتاب النشر لابن الجزري، كلها تشارك كتاب “التعريف” في رواياته الأربع، وتثبت تواتر طرقه واتصال القراءة بمضمنه في الأمصار بالمشرق إلى المائة الثامنة زمن الواسطي المذكور، بل أكثر من ذلك نجد أن الواسطي المذكور يسند عن طرق التعريف للداني في «الكنز في القراءات العشر» حيث يقول في رواية قالون:

“طريق المصرين: قرأت بها على شيخنا الإمام أبي عبد الله المصري بسنده إلى الداني، قال: قرأت بها على أبي الفتح فارس بن أحمد بن موسى المقرئ الضرير الحمصي، وقال: قرأت بها على أبي الحسن عبد الباقي بن الحسن المقرئ …”، وذكر السند مثل ما في “التعريف” دون أن يسميه. وكذلك قال في رواية ورش: طريق الأزرق عن ورش: “قرأت بها القرآن على شيخنا أبي عبد الله المصري بسنده إلى الداني. قال: قرأت بها على أبي القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد بن خاقان المقرئ بمصر، وقال لي: قرأت بها على أبي جعفر أحمد بن أسامة التجيبي، وقال: قرأت بها على إسماعيل بن عبد الله النحاس، وقال: قرأت على أبي يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار الأزرق، وقال الأزرق: قرأت على ورش، وقال ورش: قرأت على نافع”.

وهذا عين ما في التعريف في روايتي قالون وورش تماماً.

أليس في كل هذا ما يكفي لإثبات تواتر ما في التعريف من روايات وطرق عند المشارقة؟ وحتى لا يقال: إن الدعوى على التعريف إنما هي على انقطاع تواتر القراءة بمضمنه عند المغاربة: «ولم تتواتر القراءة بها من عصر المؤلف إلى عصرنا»، ولعل اللجنة أرادت بذلك انقطاع هذا التواتر بتلك الروايات في المغرب لا في المشرق.

لنفرض أن هذا هو مرادها، فلنتابع القضية في القسم الثاني لنرى هل تواترت في المغرب أيضاً أم لا؟

وذلك ما سوف نسعى إلى إثباته بعون الله من غير طرق التعريف ثم من طرقه.

والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق