وحدة المملكة المغربية علم وعمرانطبيعة ومجال

العربية لغة العلم والحضارة

                    الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله

        لسنا بحاجة إلى بيان الدور الذي أدّته اللغة العربية في العصر الجاهلي بما هي أداة للتخاطب ومصهر لصقل التعابير عن أدق الإحساسات وأرق العواطف. إذ يكفي أن نراجع موسوعات اللغة لنلمس ذلك الثراء الذي عز نظيره في معظم لغات العالم. ولعل من مظاهر هذا الثراء تدرج الأسماء للمسمَّيات نفسها في مئات التعابير من القوة إلى الضعف من خلال شتى الاعتبارات تبعاً لأدق مجالي الميز. ولا تزال هذه الموسوعات اللغوية لم تدرس حق الدرس إلى الآن، وتنطوي على كنوز تكشف المجامع مع الأيام عن مدى ارتباطها بالمعاني الجديدة واتساقها مع مولدات الفكر الحديث.

        على أن في مصنفات الفنون والعلوم الرياضية والأدبية والفلسفية والقانونية ذخيرة لغوية كانت هي القوام الأساسي للتفاهم بين العلماء، والتعبير عن أعمق النظريات التقنية يوم كانت الحضارة العربية في عنفوان ازدهارها. ويكفي أن تتصفح كتاباً علمياً أو فلسفياً لتدرك مدى هذه القوة وتلك السعة الخارقة. ففي العربية إذن »مقدرات« شاسعة لا يتوقف حسن استغلالها إلا على مدى تضلُّعنا من فقه اللغة.

        والكل يعلم أنه منذ أواخر القرن الهجري الأولى »انبثقت حركة فكرية واسعة أذكت جامعات الشرق«. ولم تستفد من هذه الحركة ـ كما يقول مؤلف “المعجزة العربية” ـ السريانية ولا الفارسية ولا اليونانية، وإنما استفاد منها شعب عاش منذ ذلك التاريخ خارج حدود العالم المتمدن. ولم يكن هناك في الظاهر ما يحدوه إلى الاضطلاع بالدور الخطير الذي قام به مع ذلك في تاريخ الحضارة. وهذا الشعب هو الشعب العربي.

        كانت العربية لغة أدب وشعر منذ أعرق عصور الجاهلية، ولكن سرعة انتشارها ترجع إلى الثمار المادية والروحية التي جنتها من الإسلام أكثر منها إلى القرار الذي اتخذه الأمويون بجعل العربية إجبارية في الوثائق الرسمية. وخلال القرن الثاني الهجري، بدأ انحلال مراكز الثقافة اليونانية في الشرق الأدنى، وتمخض هذا الانحلال عن »أكبر فوضى في اللغات والأديان«. فقد بدأت شعوب عريقة في الحضارة، كالمصريين والهنود، تتحلل من تراثها الخاص لتعتنق على أثر احتكاكها بالعرب »معتقداتهم وأعرافهم وعوائدهم«.

        ومنذ ذلك العهد ظهرت شعوب أخرى خلفت العرب في النواحي التي احتلتها. »ولكن نفوذ أتباع محمد ظل لازباً لم يتغير«. ففي جميع نواحي أفريقيا وآسيا التي دخلوها من الغرب إلى الهند ذلك النفوذ في الأعماق إلى الأبد، ولم يستطع فاتحون جدد استقصاء دين العرب ولغتهم، وأمست العربية في فارس اللغة الرسمية، واتخذها الشعراء أنفسهم أداة لصياغة القريض؛ في حين ظلت اللهجة البهلوية مستعملة في الجبل. وقد استمر نفوذ العربية في القرون التالية، بل صارت العنصر الجوهري في الأوردية التي هي لغة الثقافة عند الهندوس والتي يعتبر نصف مفرداتها تقريباً من أصل عربي. وإذا كان شعراء مثل الفردوسي صاحب “الشاهنامه” الذي هو عند الفرس بمثابة هوميروس عند الأغريق والذي كان متضلعاً من العربية »عادوا يقرضون الشعر منذ القرن العاشر الميلادي بالفارسية«، فإن معظم المصنفات العلمية ظلت تحرر بالعربية مثل موسوعة الرازي الطبية وغالب مؤلفات ابن سينا.

        وقد أوضح جوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”([1]) أن العربية أصبحت اللغة العالمية في جميع الأقطار التي دخلها العرب، حيث خلفت تماماً اللهجات التي كانت مستعملة في تلك البلاد كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية…

        ووقع الحادث نفسه كذلك في فارس مدة طويلة. وبالرغم من انبعاث الفارسية، بقيت العربية لغة جميع المثقفين. وقد أكد لوبون أيضاً (ص 174) أن الفرس يدرسون اليوم (أي أواخر القرن التاسع عشر) العلوم والدينيات والتاريخ في مصنفات عربية.

        هذا، وقد عربت أهم المصنفات اليونانية في عهد الخلفاء العباسيين، حيث انكب العرب على دراسة الآداب الأجنبية بحماس »فاق الحماس الذي أظهرته أوربا في عهد الانبعاث«. وقد خضعت اللغة العربية لمقتضيات الإصلاح الجديد، فانتشرت في مجموع أنحاء آسيا واستأصلت نهائياً اللهجات القديمة. وقد قضت حتى على اللاتينية، ولا سيما في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والأندلس) حيث ندد الكاتب المسيحي ألفارو ـ وهو من رجال القرن التاسع الميلادي ـ بجهل مواطنيه باللاتينية فقال:

                 إن المسيحيين يتملون بقراءة القصائد وروائع الخيال العربية ويدرسون مصنفات علماء الكلام المسلمين لا بقصد تنفيذها، بل من أجل التمرن على الأسلوب الصحيح الأنيق في العربية. وجميع الفتيان المسيحيين المبرزين لا يعرفون سوى اللغة العربية والأدب العربي؛ فهم يقرأون الكتب العربية ويدرسونها بكامل الحرارة ويتهافتون على اقتناء المكتبات الضخمة مهما كلفهم ذلك من ثمن ويعلنون على الملإ حيثما وجدوا أن الأدب العربي شيء بديع… ما أعظم الألم! لقد نسي المسيحيون حتى لغتهم الدينية ولا تكاد تجد واحداً بين الألف يحسن تحرير رسالة باللاتينية إلى صديق له. أما باللغة العربية، فإنك تجد أفواجاً من الناس يحذقون التعبير بهذه اللغة بكامل الأناقة، بل إنهم يقرضون من الشعر ما يفوق من الواجهة الفنية أشعار العرب أنفسهم.

 وقد نقل الأستاذ ليفي بروفنصال مقتطفات من كتاب ألفارو في كتابه “حضارة العرب في إسبانيا”.

        وقد أكد المؤرخ دوزي([2]) أن أهل الذوق من الإسبان بهرتهم نصاعة الأدب العربي واحتقروا البلاغة اللاتينية وصاروا يكتبون بلغة العرب الفاتحين.

        كما نقل دوزي عن صاحب كتاب “ألوسي موزار أبيس دوطوليد”:

                 أن العربية ظلت أداة الثقافة والفكر في إسبانيا إلى عام 1570 م. ففي ناحية بلنسية، استعملت بعض القرى الإسبانية العربية لغة لها إلى أوائل القرن التاسع عشر. وقد جمع أحد أساتذة كلية مدريد 1151 م عقوداً في موضوع البيوع محررة بالعربية بصفتها نموذجاً للعقود التي كان الإسبان يستعملونها في الأندلس.

        ولم يفت المؤرخ فياردو الذي كتب منذ نحو القرن “تاريخ العرب في إسبانيا” أن ينوه بثراء اللغة العربية الخارق وشاعرية العرب الفياضة حتى أن معظم سكان شلب ـ وهي اليوم جنة البرتغال ـ كانوا شعراء في نظر القزويني، بل يؤكد دوزي أنهم كلهم كانوا شعراء.

        إن اللغة العربية التي بلغت مبلغاً كبيراً من المرونة والثروة في العهد الجاهلي أدركت في القرن الرابع الهجري، أي في عنفوان العصر العباسي، أوج كمالها. وقد وصف زكي مبارك روعة النثر الفني العربي في هذا القرن، ووصف فيكتور بيرار اللغة العربية في ذلك العصر بأنها »أغنى وأبسط وأقوى وأرق وأمتن وأكثر اللهجات الإنسانية مرونة وروعة؛ فهي كنز يزخر بالمفاتن ويفيض بسحر الخيال وعجيب المجاز رقيق الحاشية مهذب الجوانب رائع التصوير«. وأعجب ما في الأمر ـ وهو شيء لا نظير له عند الشعوب الأخرى ـ أن البدو كانوا هم سدنة هذه الذخائر »وجهابذة النثر العربي جبلة وطبعاً«، ومنهم استمد كل الشعراء ثراءهم اللغوي وعبقريتهم في القريض.

        إن نفوذ اللغة العربية أصبح بعيد المدى حتى أن جانباً من أوربا الجنوبية أيقن بأن العربية هي »الأداة الوحيدة لنقل العلوم والآداب«، وأن رجال الكنيسة اضطروا إلى تعريب مجموعاتهم القانونية لتسهيل قراءتها في الكنائس الإسبانية، وأن جان سيفيل وجد نفسه مضطراً إلى أن يحرر بالعربية معارض الكتب المقدسة ليفهمها الناس([3]).

        أما في فرنسا، فقد أكد جوستاف لوبون في “حضارة العرب” (ص. 174) أن للعربيـة آثاـراً مهمة في فرنسا نفسها. وقد لاحظ المؤرخ سديو ـ عن حق ـ أن لهجة ناحيتي أوفيرني وليموزان زاخرة بالألفاظ العربية، وأن الأعلام تتسم في كل مكان بالطابع العربي.

        وكان من الطبيعي أن يزود العرب ـ الذين كانوا قادة المتوسط منذ القرن الثاني الميلادي ـ كلاًّ من فرنسا وإيطاليا بمعظم مصطلحاتها البحرية، على أنها تركت أثرها في مصطلحات الجيش والإدارة والصيد والعلوم وغيرها.

        وقد لوحظ التأثير نفسه في صقلية، حيث كان الملك روجير النرمندي يتسربل بالأزياء الشرقية ويرقم جبته الرسمية بالحروف العربية. وكان كل من خاتمه ونقوده يحمل الكتابة العربية النرماندية. وقد كان أميرال صقلية متضلعاً من العربية. وبالجملة، فقد صارت العربية لغة دولية للتجارة والعلوم.

        أما نسبة هذا التأثير، فقد ذكر بعض الباحثين أن المفردات العربية التي دخلت إلى الإسبانية تقدر بربع محتويات القاموس الإسباني، بينما دخلت إلى البرتغالية ثلاثة آلاف كلمة عربية. وقد صنف الأب ساسا باتيستا الذي ولد في دمشق من أبوين عربيين قاموساً عام 1789 جمع فيه الكلمات التي اقتبستها البرتغال من العربية. وهذا القاموس يقع في مائة وستين صحيفة. كما ألف دوزي وأنجلمان قاموساً للكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية. وتوجد في مكتبة الإسكوريال معاجم عربية يونانية وعربية لاتينية وعربية إسبانية صنفها علماء مسلمون([4]). وقد كان للمغرب حظه في هذا التأثير اللغوي على الأندلس التي استمر حكمه لها نحواً من ثلاثة قرون. أما البرتغاليون الذين عاشوا في المغرب، فقد ذكر شافروبيير ([5]) أن الجالية التي كانت بالمغرب في القرن السادس عشر كانت تتراسل بعربية حشوها تعابير مغربية وتكتب مراسلاتها بالحروف العربية.

        وهناك لغات أخرى كالمالطية اقتبست معظم مفرداتها من العربية. وكم استمعنا لخطابات فاهت بها شخصيات مالطية لم يعسر فهمها على المستمعين، ولا سيما أن اللهجة المالطية تتجانس مع لهجات المغرب العربي ومعلوم أن الكثير من اللهجات تتقارب في العالم العربي، نظراً لتواكبها مع اللغة البونيقيّة، كما يتجلى ذلك من دراسة الكتابات التي عثر عليها في البرازيل. وقد أكد جوستاف لوبون (ص. 472):

                 أن العربية من أكثر اللغات انسجاماً. فهي وإن كانت تحتوي على عدة لهجات كالشامية والحجازية والمصرية والجزائرية، فإن هذه اللهجات لا تختلف فيما بينها إلا بفوارق طفيفة جدّاً. فبينما نلاحظ أن سكان قرية في شمال فرنسا لا يفهمون كلمة من اللهجات المستعملة في قرى الجنوب، نرى سكان شمالي المغرب الأقصى يتفاهمون بسهولة مع سكان مصر والحجاز. وقد قال الرحالة بوركارد بأن كل من عرف إحدى هذه اللهجات، فهم سائرها دون عناء.

        وقد كشفت في صقلية لوحة مسيحية محررة بالعربية ومؤرخة بالتاريخ الهجري بعد انتهاء الاحتلال العربي بستين سنة.

        واللغة الإغريقية نفسها اقتبست الشيء الكثير من العربية. غير أن المقتبسات اتخذت قالباً يعسر معه إرجاعها إلى الأصل العربي.

        ومعلوم أن الجامعة الأوربية كانت عاملاً مهمّاً في ذيوع اللغة العربية التي أصبحت في العصور الوسطى لغة الفلسفة والطب ومختلف العلوم والفنون، بل أصبحت لغة دولية للحضارة. ففي عام 1207 م، لوحظ وجود معهد في جنوب أوربا لتعليم اللغة العربية. ثم نظم المجمع المسيحي العالمي بعد ذلك تعليمها في أوربا، وذلك بإحداث كراسي في كبريات الجامعات الغربية. وفي القرن السابع عشر اهتمت أوربا الشمالية والشرقية اهتماماً خاصاً بتدريس اللغة الغربية ونشرها. ففي 1636 قررت حكومة السويد تعليم العربية في بلادها. ومنذ ذلك الحين انصرفت السويد إلى طبع المصنفات الإسلامية ونشرها، وبدأت روسيا تعنى بالدراسات الشرقية والعربية خاصة في عهد بطرس الأكبر الذي وجه إلى الشرق خمسة من الطلبة الروسيين. وفي عام 1769 قررت الملكة كاترينا إجبارية اللغة العربية. وفي عام 1816 أحدث قسم اللغات السامية في جامعة بتروكَراد.

        وقد اتجه اقتباس أوربا من العربية نحو الميدان العلمي، فدخلت إلى اللغات الأوربية كثير من المصطلحات العربية مثل الكحول والاكسير والجبر واللوغريتم. وقد استمد الإسبان ـ حسب ما قرر ليفي بروفنصال ـ معظم أسماء الرياحين والأزهار من العربية. ومن جبال البرانس انتقلت مصطلحات العلوم الطبيعية إلى فرنسا مثل البرقوق والياسمين والقطن والزعفران. ومجموع مصطلحات الزي هي كذلك من أصل عربي؛ كما تحمل الحلي في إسبانيا أسماء عربية. ويتجلى التأثير نفسه في الهندسة المعمارية. وبالجملة، فقد استمدت إسبانيا وبواسطتها أمريكا اللاتينية من اللغة العربية الشيء الكثير من مقوماتها اللغوية ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.

        وقد لاحظ عالم إيطالي كبير أن معظم التعابير العربية التي تغلغلت بكيفية مدهشة في لغة روما لم تنتقل عن طريق التوسع الاستعماري، ولكن بفضل إشعاع الإسلام الثقافي.

        بل إن الإصلاح الخاص بالكنيسة تأثر إلى حد بعيد بالطابع العربي. فقد اعترف البارون كارا دو فو (Carra de Vaux) مؤلف “مفكرو الإسلام” ـ وهو مسيحي متحمس ـ بأن الإسلام علَّم المسيحية منهاجاً في التفكير الفلسفي  هو ثمرة عبقرية أبنائه الطبيعية، وأن مفكري الإسلام نظموا لغة الفلسفة الكلامية التي استعملتها المسيحية. فاستطاعت بذلك استكمال عقيدتها جوهراً وتعبيراً. وهذه ظاهرة، ولا سيما إذا اعتبرنا مدى مساهمة الفلسفة الإسلامية في تكوين »علم الكلام« (Théologie) خلال القرون الوسطى والدور الذي قام به في ذلك كل من ابن سينا وابن رشد وما كان لهما من تأثير في أشهر مفكري المسيحية.

        وإذا كان قد قدر العرب أن يقوموا بدور ما في عصر الجاهلية، فإنما كان ذلك عن طريق اللغة التي كانت أنصع عنصر في حياة العرب. وقد دعا فولفنسن في كتابه “تاريخ اللغات السامية” المشارقة المتكلمين بلغة الضاد إلى درس فقه اللغات السامية للاقتناع بعظمة أجدادهم وبالدور الذي قاموا به في حضارة العالم القديم. ثم أكد أن المستشرقين الذين نددوا بالعروبة وبالإشعاع العربي لم يهدفوا إلا لغايات دينية واستعمارية.

        وقد عبر الأستاذ ماسينيون عن الفكرة نفسها قائلاً: »إن المنهاج العلمي قد انطلق أول ما انطلق باللغة العربية ومن خلال العربية في الحضارة الأوربية«.

        ثم قال: »إن العربية استطاعت بقيمتها الجدلية والنفسية والصوفية أن تضفي سربال الفتوة على التفكير الغربي؛ كما أنعشت “ألف ليلة وليلة” في القرن السابع عشر الميلادي ذهنية أوربا التي أتخمتها أساطير الإغريق والرومان«.

        وقد ختم ماسينيون وصفه الرائع قائلاً: »إن اللغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر في الميدان الدولي، وإن استمرار حياة اللغة العربية دوليّاً لهو العنصر الجوهري للسلام بين الأمم في المستقبل«.

        وهكذا يمكن القول بأن اللغة العربية انتشرت في العالم من قبل، وذيوعها في بلاد المشرق وفي أفريقيا قد تم في كنف الحضارة الإسلامية.

فروع الطب ووسائل العلاج

        كان علم الطب يدرس في جامعة القرويين بواسطة كتب أبقراط وجالينوس وديجنوس المعربة، ولكن كتب خزانة القرويين اندرس بعضها على يد الإسبان (عام 1161 م/ 557 هـ). ولم تعد العلوم والطب تدرس رسمياً اللهم إلا ما كان من دروس يلقيها أطباء في جوامع العاصمة أو بعض زوايا المدن الأخرى حيث يعلقون على المصنفات العربية المخطوطة أو المطبوعة. وكانت البوعنانيّة بسلا مدرسة للطب (عبد العزيز بنعبد الله، الطب والأطباء بالمغرب، ص. 47)؛ كما كانت بفاس في القرن الرابع مدرسة للطب بإزاء جامع القرويين. ومع ذلك، فقد ذكر لوكلير أنه منذ اندرس أعلام التدريس في قرطبة والقيروان، لم يكن لفاس ولا لباقي مدن المغرب أي نظام مقبول في التعليم (الطب عند العرب، ج 1، ص. 575).

        والواقع أن علوم الحكمة انتقلت من الأندلس إلى مراكش منذ أواخر العهد المرابطي، فكان لذلك أثره في تبلور هذه العلوم وظهور تخصصات وتفريعات جديرة بالعصور الحديثة. وهذا لم يمنع من كون هذه العلوم فقدت روحها التجريبية، وأمست مجرد تطبيقات آلية بإزاء مستشفيات كانت أقرب إلى ملاجئ للمجانين.

إحصاءات طبية

        طب الأطفال (ابن الجزاء، تدابير الأطفال، خح 1044).

        وإسحاق بن عمران هو الذي أدخل الطب إلى المغرب؛ وكذلك ابن الجزار صاحب “زاد المسافر وقوت الحاضر”، وهو أحمد بن أبي خالد (395 هـ/ 1004 م)، يوجد الجزء الأول منه في خع؛ وكذلك كتاب “الاعتماد في الأدوية المفردة”.

        الطب التخصصي: ذكر رينو (في كتابه “الطب القديم في المغرب”، ص. 122) أن بعض الأطباء المغاربة كانوا متخصصين، بعضهم في الأوجاع وبعضهم في أمراض العيون، وبعضهم في الحميات. وقد وصف الطبيب الفاسي عبد السلام العلمي في كتابه “ضياء النبراس”، بعض الأمراض الباطنة وعلوم التشريح العضلي المفصلي والعصبي، والكيمياء الطبية والمستحضرات الصيدلية وطب الرمد والأمراض الجلدية والداء الزهري وأمراض النساء والأطفال.

        الطب التطبيقي: كتاب “التيسير” المنسوب لابن رشد هو غير “تيسير” ابن زهر. وهو يعالج الطب التطبيقي في وصف عيادي لأمراض منها جرح المنصفي (pericaditis mediastinal) الذي كان مصاباً به، وترك لنا وثائق حول الأعراض الشخصية التي أحس بها. وهذا الكتاب غير معروف باللغة العربية، وقد نشر عدة مرات باللاتينية:

Haddad, Arabian Contributions to Medicine, Anna. med/His., T. 3, 1942, pp. 60-72.

        الطب التقليديّ البدائيّ: ذكر بنسيمون (Bensimon) في بحث حول الطب والأطباء بالمغرب قبل الحماية (مجلة المغرب الطبي، شتنبر 1951)، أن الطب التقليديّ كان يستعمل في عدة حالات أنواعاً من العلاج لم يعد نزاع في جدواها. فمن ذلك أن المريض المصاب بالحصبة، أي الحميرة (بوحمرون)، كان يجعل في غرفة يكسى فراشها وجدرانها وأغطيتها بلون أحمر، وهذه الطريقة في العلاج ما زال يستعملها الدكتور شاطينيير، الذي لاحظ أن إليها يرجع الفضل في تخفيف تفجر الحميرة والحمى وتدارك الاستعصاءات.

        الطب الروحي: قال ألكسيس كاريل([6]) (Alexis Carel) الطبيب العالمي الحاصل على جائزة نوبل في الطب والجراحة:

                 لقد سجلت آرائي على ما رأيته من تأثير الصلاة في الحالات الباتولوجية على المرضى الذين برئوا على الفور من أمراض مختلفة متعددة كالتدرن والبريتوني والأخرجة الباردة والتهاب العظام والجروح القائمة والسرطان. وتمتاز معجزة العلاج الروحيّ بسرعتها في عمليات الإبراء العضوي، ولاشك أن التئام الجروح بالعلاج الروحيّ أسرع من العلاج العادي. والشرط الوحيد الذي يمكن الاستغناء عنه حدوث ظاهرة الإبراء هو الصلاة. وهذا يثبت الأهمية المحسوسة للمناشط الروحية التي يهمل بحثها علماء الصحة والأطباء والمربون والاجتماعيون مع أنها تفتح للإنسان دنيا جديدة.

        طب العجائز: قال المنصور للكاتب محمد بن علي الفشتالي وقد مرض له ولد فلم ينجع فيه دواء طبيب: »إن أمراض الصبيان قلما ينجع فيها إلا طب العجائز ولا كعجائز دارنا فابعث من يسألهن« (الاستقصا، ج 3، ص. 95).

        الطب النفسانيّ الجسمانيّ: طبق بعضه في المغرب (انطلاقاً مما أشار إليه ابن زهر من القوة الباطنية، فمنذ حوالي 2900 قبل الميلاد كان للطب الصيني خمسة أسس في نطاق دورة الطاقة المسماة “العروق العجيبة”):

            1  ـ  معالجة الروح على الصعيد الماورائي للإنسان.

            2  ـ  معرفة تغذية الجسم، أي تنظيم طاقاته من خلال الأطعمة.

            3  ـ  وصف الأدوية التقليدية.

            4  ـ  استعمال الإبرية (acupuncture).

            5  ـ  التفكير في الجراحة (chirurgie).

الصيدلة (الأقراباذين)

        كان الطبيب بن زهر على سنن والده أبي العلاء، يقوم شخصياً بتحضير الأدوية غير مستعمل الخمر على خلاف (جالينوس والرازي)، وبذلك تتأكد الصلة الوثيقة بين الطب والصيدلة. وبفضل هذه العبقرية، وحد عبد الملك بن زهر الصيدلة والجراحة والطب العام (ص. 27). على أن الطبيب لم يكن يركب الدواء بنفسه، وإنما يسند إلى أعوانه الأعمال اليدوية كالفصد والكيّ وفتح الشرايين وغيرها. اللهم إلا عبد الملك بن زهر نجل أبي العلاء، فإنه كان ولوعاً بالمباشرة اليدوية في الصيدلة وتجربة الأدوية والتوصل إلى قيمتها وتركيباتها.

        وقد أجرى أول امتحان للصيادلة أيام المعتصم (عام 221 هـ/ 835 م). وقد جاء في “نهاية الرتبة طلب الحسبة” لعبد الرحمن الشيرزي، أن المحتسب كان يستحلف الأطباء الصيادلة ألاَّ يعطوا دواء مراً أو تركيب سم أو يذكروا دواء يسقط الأجنة لدى النساء أو دواء لقطع النسل عند الرجال.

        وقد تـحدث أبو مـروان عبد الملك بن زهر في كتاب “التيسير” عن »يمين أبقراط«، الذي كان يطالب بها جميع من يدرس مصنفاته ويقتضي منهم إلزام تلاميذهم بها. وقد ذكر أن والده أبا العلاء تلقى اليمين منه عندما كان لا يزال طفلاً لدى ابتدائه دراسة الطب. وحكى أن أحد الثوار طلب منه سمّاً فأبى معرضاً نفسه للخطر. ثم سقط هذا الثائر مريضاً، وبدلاً من أن يقضي الطبيب عليه عالجه بإخلاص طبقاً لمبادئ أبقراط. (عبد العزيز بنعبد الله، الطب والأطباء، ص. 29).

        قَسَمُ الطبيب العربي بدل قسم أبقراط: عندما كان الطبيب يقبل عضواً في مهنة الطبيب، يلتزم بتكريس حياته لخدمة الإنسانية بالقسم الآتي:

                    سأعامل أساتذتي بالاحترام والممنونية اللذين يستحقونهما.

                        وأمارس مهنتي بضمير وكرامة، وسيكون هدفي الأول هو الحفاظ على صحة مرضاي.

                        ولن أفشي الأسرار المؤمنة عندي.

                        وسأحافظ بجميع ما لدي من وسائل على شرف المهنة الطبية وتقاليدها النبيلة.

                        الأطباء يكونون إخواني.

                        ولن يحول بين واجبي ومريضي أي اعتبار من الدين أو الجنسية أو السلالة ولا أي اعتبار سياسي أو اجتماعي.

                        وسأحافظ بدقة على احترام الحياة الإنسانية منذ النفخ في الجنين.

                        ولن أستعمل أبداً، ولو تحت التهديد، معلوماتي الطبية بكيفية منافية للنواميس الإنسانية، وألتزم بذلك بحرية وعلى شرفي.

        وقد لاحظ الحسن الوزان (ليون الأفريقي) عقم فن الصيدلة نسبياً في القرن العاشر الهجري، لأن العقاقيريين بفاس في عصره لم يكونوا قادرين على تركيب الأشربة والأدهان طبقاً لما يصفه الأطباء. فكانوا يجتمعون كلهم لتركيبها، ثم يرسلونها إلى دكاكينهم لتوزيعها حسب الوصفات. وهذه ظاهرة تنم عن إخلاص للمهنة.

        ومن أبرز ما عرفه المغرب في العهد الحسني، مصنفات أحمد بن محمد بن حمدون بن الحاج الذي تحدث عنه رينو (الخطاب، ص. 8) بصفته أنموذجاً أخيراً للطبيب والعالم العربي الكامل. وله مؤلف اسمه “الدرر الطبية المهداة للحاضرة الحسنية” في ثلاثة أجزاء (يوجد الجزء الأول منه  في خع 402 د)، والقسم الأول من الجزء الأول خاص بمبادئ الطب والطبائع، والثاني في ضروريات الحياة (الهواء والأغذية والأشربة)، والثالث في الأدوية المفردة. والجزء الثاني للأمراض وطرق علاجها. والثالث في الخواص الطبية لبعض الأسماء. وقد لاحظ رينو أن ابن الحاج أعطانا للمرة الأولى في تاريخ المغرب تقسيماً فنياً للأدوية.

        ومن الأطباء الصيادلة الذين اعتمدهم الطبيب الفاسي عبد السلام العلمي في كتابه “ضياء النبراس” (ص. 80)، أبو الفضل محمد العجلاني صاحب “تحفة الأريب عند من لا يحضره الطبيب” (لوكلير، الطب عند العرب، ج 2، ص. 317)، وكذلك “كتاب الأشربة والمعاجين وتركيب الأدوية” (مخطوط في خع). ولأبي العلاء زهر بن زهر (مقالة) في شرح رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي حول تركيب الأدوية.

        [الصيدنة في الطب لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440 هـ)؛ كشف الظنون، ج 2، ص. 1434؛ الصيدنة أعرف من الصيدلة… والصيدلاني أعرف من الصيدناني، جامعة بغداد 48، 432 ورقة؛ نسخة أخرى في المتحف العراقي، بغداد 1911 (273 ورقة)؛ جاك موري (Jacques Mauray)، »مساهمة في دراسة الصيدلة المغربية التقليدية«، الأمراض وعلاجاتها في المغرب، 1954].

        ـ  التيفوس (Typhus): مرض معد يتسبب القمل في نقله، فتظهر بقع حمراء على الجلد أو انهيار عميق خلال الحمى، وهو منتشر في أفريقيا والهند.

        ويوجد نوع آخر يصيب البقر يعرف بالوباء البقري أو الطاعون البقري (peste bovine). وقد زعم لوكلير أن ثلاثة ملايين نسمة ماتت عام 1295 هـ/ 1878 م بالتيفوس والكوليرا، وهو تعداد مفرط يصعب تصوره لا سيما وأن وسائل الإحصاء لم تكن تسمح بذلك.

[H P J Renaud, Le typhus exanthématique au cours de l’histoire du Maroc. Communication faite à la 7ème réunion de la Fédération des Soc. des SE. Med. de l’Afrique du nord-Alger, 1937. (reprod. in Maroc médical, 15 nov. 1937, pp. 413-434].

        ـ  الجذري (Variole): مرض معد طفحي وبائي، يتسبب عن وجود فيروس يمتاز بظهور تبثرات على الجلد في شكل بقع حمراء، وهو مرض مميت في خمس عشرة حالة في المائة، وعند الشفاء يترك ندبات لا تنمحي. وقد ألفت فيه مصنفات منها “هز السمهري في من نفى عيب الجذري”، للطبيب عبد الوهاب ابن أحمد أدراق (خح 9213).

        وكان الجذري يظهر في المغرب كل سبع سنوات تقريباً. ويعمد بعض الناس إلى التلقيح ضده بحقن جراثيم بثور ودماميل العجل أو الناقة، بينما يستعمل آخرون الكبريت والملح ويخلدون إلى الراحة في مكان مظلم. وقد عرف البربر منذ عهود سحيقة حقن جراثيم الجدري كانوا يستعملونها لتحصين المصاب، (كودار، وصف وتاريخ المغرب، ج 1، ص. 239؛ كتاب ماثيو دوليسيبس (Mathieu de Lesseps) والد فرديناند مؤسس قناة السويس). زار المغرب عام 1972 م ونص في رحلته على الحقن ضد الجدري عند البربر. ولعل طريقة التطعيم هذه قد نقلت إلى البلاد الإسلامية من الصين والهند، حيث كانوا يطعمون السليم بمادة مستخرجة من بثرة الجدري نفسه في بداية اليوم الثامن. (راجع رسالة ماري منتاغو زوجة سفير إنجلترا في البلاد العثمانية عام 1717 م (شوكت الشطي، اللب في الإسلام والطب، ص. 182).

        ـ  الجذام: سيدنا عمر بن الخطاب هو أول من أسس مأوى للجذمى مع منحهم مساعدة من بيت المال وإعفائهم من الجبايات، بينما كان الجذمى يجبرون في أوربا على لبس الأسود وحمل جرس لإنذار الناس بمرورهم. واستمر ذلك إلى القرن العشرين، حيث أعدم في مكان واحد تسعة وخمسون مجذوماً أوائل الحرب العالمية الأولى، تجرأوا على مغادرة مخيمهم يوم عيد. وقد بلغ عدد الجذمى في العالم في السبعينيّات اثني عشر مليوناً حسب إحصاء »المنظمة العالمية للصحة«. ومن الدراسات الدقيقة في الموضوع، كتاب “الاقتصاد” لأبي مروان عبد الملك بن زهر. وقد ألفه لإبراهيم بن يوسف أخي علي بن يوسف بن تاشفين (مخطوط باريس 2959، ومخطوط الإسكوريال المحرر بالعربية وبحروف عبرية) وأوضح فيه الفرق بين الجذام والبهق ومسألة العدوى التي أفرد لها رسالة خاصة لم تصلنا.

        ـ   الحصبة أو الحميرة (بوحمرون) (راجع ما قاله عنه بنسيمون في قسم الطب التقليدي). ولم يعرف المغرب الحمى الحصبية.

        ـ  “الحميات” (أرجوزة في الحميات والأورام لابن عزرون هارون بن إسحاق (خح 6001)). أما الحمى الوبائية، فلم تعرف في المغرب بالرغم من انتشارها بأوربا، وكانت مصحوبة بحبوب صغيرة؛ كما لم تظهر إصابات بالدفتريا أو التفويد إلا نادراً (رينو، ص. 140).

        ـ  الربو: رسالة لموسى بن ميمون الذي عاش بفاس (601 هـ/ 1206 م)، وهو المعروف بالضيقة.

        ـ  الزهري (»النوار« في العامية المغربية)، وهو المرض الإفرنجي.

[H. P. J. Renaud-Abulcassis, « Avicenne et les grand médecins arabes ont-ils connu la syphilis ? », Communic. présentée au Congrès de médecine de Tunis, mai 1934, La Tunisie médicale, n° 10, 1934.

H. P. J. Renaud, Documents marocains pour servir à l’histoire du « mal franc », Textes arabes publiés et traduits, I.H.E.M, T. XXVII, Paris, Larose (1935, 123 p. et 39 de texte arabe).

Marie Margueterie Irasque, Contribution à l’étude de l’organisation de la prophylaxie des maladies vénériennes au Maroc, Bordeaux, 1926, 108 p].

        ـ  السل: لاحظ رينو (الطب القديم بالمغرب، ص. 141) أنه بقدر ما كان داء السل منتشراً في الصغار، يقل لدى الكبار. وبالرغم من الحياة في الهواء الطلق، فإن قلة وسائل الدفء ـ خاصة في البادية ـ كان من شأنها أن تثير السعال وداء المفاصل (الروماتيزم)، ولكن المغاربة كانوا يكثرون من المعاجين والأدهان الساخنة (ص. 142).

        ـ  السن (مرض…) كان أطباء الأسنان بالمغرب يقلعون السن المسوسة بأدوات خاصة. ذكر منها رينو (الطب، ص. 135) مجموعة بعضها مصنوع في المغرب، وبعضها مجلوب من أوربا. ومن الأطباء من كان يضمخ السن بمركب من الثوم والملح والحريف (وهو الفجل الوحشي أو الحرف)، ثم يملأون السن المسوسة بجذر جوز ريان بعد غمسه في اللبن ويغطى الكل بالصمغ. وقد اقترح ابن رشد في شرحه لابن سينا ما يصفه الأطباء اليوم، وهو تبديل الهواء في الأمراض الرئوية. وقد أشار إلى جزيرة العرب وبلاد النوبة بصفتها مراكز شتوية (جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص. 531 [الطبعة الفرنسية]).

        ـ  العظام (جبر…): كان الأطباء المغاربة يعمدون في جبر الأعضاء المنكسرة إلى طريقة الدلك التي سبق به المغاربة ـ كما يقول رينو (ص. 134) ـ اكتشاف لوكاس شامبيونيير. وكان مما يعطي الطبيب لمن كسرت عظامه »إيلاَّن«، وهو حب يكثر في ناحية مراكش غني بمادتي الفوسفاط وكاربونات الجير. وقد مهر أفارقة هاجروا إلى أمريكا منذ قرون في جبر العظام (محاضرة للدكتور روجي دالي (Roger Dalet)، المركز الطبي بإنزكَان حول المعالجة بالإبر (acupuncture).

        ـ  العين (مرض…): كانت أمراض العيون تشكل مع الزهري ثلثي أمراض أفريقيا الشمالية. وكان للكحالين، أي أطباء العيون المغاربة، أساليب مفيدة لمعالجة أنواع الرمد، ولهم فيه مهارة، وكذلك في الجزائر. وكانوا يزيلون غشاوة العين بمهارة لإعادة البصر مع عمليات أخرى أصعب (رينو، الطب القديم في المغرب، ص. 136).

        ـ  الدمعة: هي مرض العين السائلة (“الرحمة في الطب والحكمة” للسيوطي، ص. 52).

[H. P. J. Renaud, « Le trachome dans la médecine arabe marocaine ». Rapport présenté à la 8ème  réunion de  la Féder. Des Soc.  médic.  de l’Afrique  du Nord, Tunis,  avril  1938 (7 pages); T. Sarnelli, A propos du nom berbère « Tizri » dans le « guide oculistique » de l’arabo-espagnol Mohamed al-Gafiqi (XIIè siècle), traduit par M. Meyerhof, Actes du XXIè Congrès des Orientalistes, 1948].

        ـ الفتق (داء…): بروز عضو أو جزء منه خارج التجويف الذي يكون فيه عادة، وكان أطباء المغرب يوقفون الفتق بآلات من جلد أو ثوب محشوّ بالصوف (رينو، ص. 134).

        ـ  المعدة (مرض…): كان كثير الانتشار بالمغرب (رينو، ص. 142)، ويوجد كتاب حول مرض المعدة للزهراوي (Abulcassis)، مكتبة كلية ابن يوسف بمراكش/ أربع نسخ في خح 134 ـ 8354) وآخر بعنوان “طب المعدة” لابن الجزار (الظاهرية 3166/ المتحف العراقي ببغداد (2103)).

        والواقع أن الجهاز الهضمي كان موضوع اختصاص أبي مروان عبد الملك ابن زهر الذي تحدث عنه في كتاب “التيسير”، واستعمل أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعسر البلع؛ كما استعمل الحقن المغذية. وكان سر نجاحه اعتباره أن الطبيعة قوة داخلية تدبر شؤون الجهاز البشري، وهي كافية وحدها في الغالب لعلاج الأدواء (كوستاف لوبون، حضارة العرب، ص. 530، [الطبعة الفرنسية]).

        ـ  النقرس: توفي به في مراكش أبو الحجاج يوسف موراطير طبيب المنصور والناصر والمستنصر.

        ـ  الطاعون والوباء: يظهر أن الطاعون كان له مفهوم غير مفهوم الوباء، حيث أكد ابن خلدون أن الطواعين أمراضها مخصوصة بالرئة (م 1، ق 3، ص. 544). والفرق بين الطاعون والوباء (كما يقول محمد بن أبي العاص الأندلسي صاحب “الرسالة في تحقيق الوباء”) أن الطاعون مصحوب دائماً بذبيلة، أي عقدة عصبية ملتهبة؛ في حين أن الوباء قد لا يتمخض عن أي التهاب من هذا النوع ولكن كليهما قاتل. (عبد العزيز بنعبد الله، الطب والأطباء، ص. 64).

        ـ  الطاعون (peste): مرض معد ينتشر مثل الوباء (Epidémie)؛ إلا أنه أشد خطراً منه. وقد ظهـر »الطاعون الأسود الأكبر« الذي هلك فيه ـ كما يقول رينو ـ ثلث سكان المعمور. وقد صنف بعض الأطباء المغاربة مؤلفات في علل هذا الداء وطرق علاجه (رينو، الطب القديم بالمغرب، ص. 47). وقد أشار ابن خلدون إلى:

                 الطاعون الجارف الذي نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف المائة الثامنة، وتحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها. وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية في مداها، فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهى من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها. وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمطار المصانع ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن. وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه. (“الاستقصا”، ج 3، ص. 144).

وقد وصفها المؤرخون الغربيون بأنها تفشت في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، فجرفت بالقارة الأسيوية وأودت بحياة خمسة وعشرين مليون نسمة في أوربا. وقد ظهرت طواعين أخرى في لندن عام 1665 م ومرسيليا عام 1720 م والشرق الأدنى عام 1799 م وخاصة بمصر، وكثيراً ما تجرف دورياً بالشرق الأوسط والشرق الأقصى، خاصة الهند وكذلك أمريكا اللاتينية. وهنالك أصناف منها الطاعون الرئوي.

        وكان المغرب قد عرف عام 574 هـ طاعوناً أصاب مراكش هلك منه لدى مقدمه من قرطبة الشيخ أبو حفص الهنتاتي جد الملوك الحفصيين أصحاب تونس وأفريقية، فدفن بسلا (الاستقصا، ج 1، ص. 61).

        وقد نصح المنصور السعدي ولده في رسالة وجهها إليه باستعمال الدواء إبان الطاعون الذي طرأ في عهده في وصفات تدل على براعة المنصور في الطب. ومن جملة ما أوصاه به عدم فتح الرسائل إلا بعد غمسها في الخل القوي ثم تنشيفها. وهذا يدل (كما يقول رينو، ص. 79) على أن المغرب كان يعرف إذ ذاك أن عزل المرضى أصلح وسيلة لدرء المرض. ولا ينبغي الخلط بين الطاعون والوباء، فالفـرق بينهما ـ كما يقول محمد بن أبي العصا الأندلسي صاحب “الرسالـة في تحقيــق الوباء” ـ  أن الطاعون مصحوب دائماً بذبيلة، أي عقدة عصبية ملتهبة؛ في حين أن الوباء قد لا يتمخض عن أي التهاب من هذا النوع، ولكن كلاهما قاتل.

        وقد لاحظ رينو أن »الموت الأسود« الذي هجم من الصين على الهند وروسيا وأوربا من عام 1334 م إلى عام 1350 م لم يوجد له أثر بالمغرب، وكثيراً ما ينشأ هذا المرض عن المجاعة والتلوث. وقد لاحظ رينو خلال المدة المتراوحة بين 867 هـ و1325 هـ، أي طوال أربعة قرون ونصف طرأت المجاعة بالمغرب ست عشرة مرة، ومنذ هذا التاريخ أي أزيد من ثلاثة قرون لم يقع قحط بالمغرب سوى ثماني مرات، أي كل خمس وثلاثين سنة تقريباً (ص. 76). وقد وقعت هذه المجاعة إبان الحماية الفرنسية حوالي 1940، بالرغم من الوسائل الوقائية الحديثة ووفرة المواصلات.

—–

المراجع

     ابن الخطيب، مقنعة السائل عن المرض الهائل، الإسكوريال، 1785، مدريد، ص. 269.

     رسالة في أحكام الطاعون، خح 1854 د، مكتبة تطوان، 555.

     ابن مبارك أحمد اللمطي تلميذ سيدي عبد العزيز الدباغ، جواب عمن حل ببلادهم طاعون هل يجوز الخروج منه فراراً أم لا؟ (خع 1348 د). (راجع حديثاً شريفاً في الموضوع).

     محمد بن عبد القادر الصبيحي، تقييد في الوباء (خح 5323).

     أبو حفص عمر المالقي، مقالة في أمر الوباء (خع 1872 د). راجع نصها في أزهار الرياض، ج 1، ط. وزار الأوقاف المغربية. ص. 125.

      H. P. J., Renaud, « La peste de 1799-1818, d’après des documents inédits », Hespéris I, 1921, 2è trim.-III, 1er trim-. V, 1925, 1 er trim.

        ___    ___    ___,  Recherches historiques  ur les  épidémies du  Maroc – Les « pestes »

 des XVè et XVIè siècles principalement d’après les sources portugaises », in Mélanges Lopes – Cenival, Lisbonne, Paris, 1945, pp. 363-389. (vol. VI de collection portugaise, Lisboa).

     « Sur une épidèmie de la pulmonaire autochtone (pneumonie pesteuse primitive) au Maroc occidental », Bull. Soc. Path. Exotique, T. XVII, 1924, n° 9, 1924, pp. 791-798.

     « Un nouveau document marocain sur  la peste de 1799 », Hespéris, 1er trim, 1925, pp. 83-89.

     « Aperçu sur l’épidémiologie du Nord marocain », Bull. De l’enseign.. Public du Maroc, 1926, n° 71 (Rif et Jbala).

     « Les pestes du milieu du XVIII e siècle », Hespéris, 4e trim, 1939, T. XXVI, pp. 293-319.

     تاريخ زمني للأوبئة في شمال أفريقيا Guyon, J. L. G, 1855.

 ——–

([1])      الطبعة الفرنسية، ص. 472.

([2])      تاريخ مسلمي إسبانيا، ج 1، ص. 317.

([3])     منذ القرن العاشر الميلادي تبنى اليهود لغة الفاتحين العرب كلغة علمية في أفريقيا وغيرها ويجدر أن نذكر  يهودا بن قريش لما يمتاز به كتابه في فقه اللغة المقارن والذي وجهه في ذلك العهد إلى بيعة فاسن (طودار، ص. 454).

([4])     حضارة العرب، المرجع السابق، صص. 166 ـ 474.

([5])      في كتابه من تاريخ المغرب، ص. 273.

([6])      عبد الرزاق نوفل، طريق الله، طبعة القاهرة، 1381 هـ/ 1962 م.

مجلة التاريخ العربي، عدد:17.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق