وحدة الإحياءحوارات

العالِم المغربي أنموذج من حيث الفهم للدين ومن حيث نمط التدين الذي عُرف به تاريخيا وراهنا

يرى الدكتور أحمد عبادي أن من واجب العلماء الانخراط في هموم الأمة، وفي كل المجالات التي يمكنهم بلوغها بمقتضيات الوحي. وقال في حوار مع الإحياء إن الخطاب الوعظي والإرشادي وجب أن تُقرن به الحركة الميدانية الراشدة العلمية. وذكر الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أن هناك أربعة مستويات منهجية لابد أن تولى أهميتها؛ مناهج الفهم، ومناهج البحث، ومناهج التنزيل، ومناهج التقويم. كما بين أن الحوائل النفسية، وكثيرا من الرقابة الذاتية غير المبررة، هي عوائق تعترض سبيل التجديد الديني، وقال بأن مناقشة العالِم لما يُتداول على الساحة الفكرية من أفكار وظواهر ليست فقط حقا له، وإنما هي واجب عليه. وفيما يلي نص الحوار.

حاوره: جواد الشقوري

 العلماء.. والانخراط في قضايا الأمة والإنسان

المتتبع لنوعية الأنشطة التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء مؤخرا؛ أقصد ندوة، “الإنسان والأرض: أي علاقة؟” وورشة “دور القادة الدينيين في تغيير السلوكيات الخطرة”، سيلاحظ أنها أنشطة لا تقتصر على المشاركة الإسلامية فقط، وأن موضوعاتها تخص مطلق الإنسان، وثالثا، أنها تمزج بين الجانب النظري والجانب العملي الاجتماعي… هل يتعلق الأمر هنا بالسعي نحو بلورة وصياغة خطاب ديني جديد؟

لا أرى أنه من السليم أن نتحدث عن خطاب جديد في هذا السياق. وإنما هو خطاب الأصل؛ ومن واجب العلماء أن ينخرطوا في هموم الأمة، وفي كل المجالات التي يمكنهم بلوغها بمقتضيات التوجيهات والهاديات التي في الوحي الخاتم.

وهذا الانخراط في قضايا وهموم الأمة لا يمكن أن يكون بدون دراية، ولا يمكن أن يكون دون تحصيل المهارات والخبرات اللازمة حتى يكون هذا الانخراط ناجعا وفاعلا ومثمرا؛ أي ألا يكون نوعا من الاقتحام بدون استجماع الوسائل الضرورية. فمثلا هذه الدورة الأخيرة جاءت من أجل إكساب علمائنا، والقادة الدينيين عموما، مهارات وخبرات تجعلهم قادرين على بلوغ البؤر الهشة حيث يتفشى وباء السيدا، وقادرين على أن يغيروا السلوكيات الخطرة التي تُعرِّض المرضى لأضرب من البلايا والرزايا لا تقتصر عليهم، وإنما تتعداهم إلى مجتمعاتهم.

هذه المهارات؛ ولاسيما مهارة تغيير السلوكيات، ثمرة لآلاف الساعات من البحث العلمي، ولملايين الدولارات من الاستثمار، وكذلك لمئات التجارب التي أجريت على حالات عينية، حتى تم الوقوف على نجاعة هذه الآليات المستعملة في مجال الطب النفسي على العموم. فمثلا، الرزوح تحت نير استعباد المخدرات، أو أي ضرب من أضرب الإدمان، أو لعادات خطرة أخرى، تستعبد الإنسان… ووجوب مرافقة هؤلاء في رحلتهم نحو الانعتاق، ونحو آفاق امتلاكهم مصائرهم برشد وبمسؤولية… كل هذا يحتاج إلى مهارات.

ولذلك يلاحظ الآن أن الإرادة الطيبة وحدها، على أهميتها، لا تجزئ، بل لابد من قَرن هذه الإرادة بالإمكانات والقدرات التي تجعلها بالفعل إرادة قادرة على التحقق.

هل نفهم من هذا الكلام ضمنا أن مستوى الوعظ والإرشاد غير كاف لمواجهة تلك السلوكيات الخطرة، أو ما شابهها من إشكالات تلاحق الإنسان؟

إذا انتبهنا إلى ما سبق سوف نعلم أنه لم يبق من الممكن الاقتصار فقط على الوعظ والإرشاد، على مركزيته ومحوريته، ونحن أمة الموعظة الحسنة، ولكن لنستحضر مثلا قول الحسن البصري للعبي الذين جاءوه طالبين منه تكليم وتحديث من يملكونهم بأن يُطلقوا سراحهم، ويُعتقوا رقابهم… فكان أن قال لهم: أمهلوني مدة، فبقي شهرا بعد ذلك، ثم صعد المنبر وألقى خطبة جمعة؛ كان عدد الذين أعتقوا بعدها كبيرا جدا. فجاءوه شاكرين معاتبين؛ شاكرين لأنه قد حث على إطلاق سراحهم، وإعتاق رقابهم ففُعل… ومعاتبين لأنه أخَّر ذلكم شهرا كاملا. فقال البصري رحمه الله: ما كان لي أن آمر الناس بأن يُعتقوا الرقاب وأنا لم أفعل، ولم يكن معي من المال ما يكفي… فانتظرتُ حتى جمعتُ المال وقمتُ بذلك… الذي يستخلص من هذه الحادثة ومثيلاتها أن العالم إن لم يكن يقرن خطابه بالبعد العملي الميداني فإن خطابه سوف لن يكون بمستوى الفاعلية المرجوة.

من هنا، فإن الخطاب الوعظي والإرشادي، على أهميته، وجب أن تُقرن به الحركة الميدانية الراشدة العلمية؛ لأن هناك فعلا كثيرا من الألغام المزروعة في نفسانيات الأعماق عند كل الناس… إذا لم يُنتبه إليها ووُطئت فإنها تنفجر. وربما إذا لم تم دوسُ هذه الألغام في نفوس الذين يعانون من الاستعبادات للعادات الخطرة. قد ينجمُ عن هذا الدوس استعصاء الاستشفاء، بطريقة قد تكون مستدامة. ولذلك فإن الحركة في مثل هذه المجالات مع البؤر الهشة، تحتاج لحساسيتها إلى هذه الخبرات.

والرسالة التي نوجهها إلى أنفسنا وإلى سائر العلماء والقادة الدينيين هي أنه لابد من الكسب التعلُّمي. ولابد أن نستكمل خبراتنا. وتكويناتنا، كيما نكون أقدر على الحركة في الواقع.

الخطاب الإسلامي… ومركزية الإنسان

ما دام هذا المسار يضع الإنسان في قلب عملية الاشتغال. بودنا أن نعرف ما هو موقع الإنسان في بنية التصور الإسلامي؟

الرؤية القرآنية رؤية شاملة؛ لأن القرآن المجيد جاء بالهدى والبصائر والآيات والعلامات للإنسان كي يهتدي في دروب الحياة نحو التي هي أقوم “إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم” (الإسراء: 9).

لكن ما الذي حال بين المسلمين وبين تحويل هذه الرؤية القرآنية إلى برامج عمل؟ هل هناك خلل منهجي ما في التعامل مع تلك الآيات التي تعبر عن الرؤية القرآنية الشاملة للإنسان؟

القرآن الكريم سماه الله عز وجل “كريم”. والكريم يعطي السائل بحسب سؤاله: فإذا كان السؤال والطلب صغيرا فقد يضيف لك شيئا إضافيا بالإضافة إلى ما سألت، لكن إذا سألت الكريم عطاء كبيرا  فإن عطاءه سوف يكون بحسب سؤالك، وبحسب الاستعداد الذي عندك. إذا جئت تسأل مثلا طُنّا من الذهب وليس معك أكياس ولا وسائل نقل تحمل ذلك، فلن تستطيع تجاوز بضع كيلوغرامات، فالقضية، إذن، قضية منهج الاستمداد من الوحي. كيف نستمد الهداية من الوحي؟ وما هي مناهجنا في ذلك؟ وما هي استعدادتنا المعرفية؟ وما هي تضاريسنا وبُنانا الذهنية التي تمكننا من استنطاق القرآن المجيد والتحاور معه… كما قال علي، رضي الله عنه وكرم وجهه، في الجنة: ذلكم القرآن فاستنطقوه. وكان عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يكثر أن يقول: ثوروا القرآن؛ أي اجعلوا فوائده تثور، وتَخرج، وتُستخلص.

فالذي حصل تاريخيا هو أنه قد حلّ اضطراب كبير في ساح التعامل المنهجي مع القرآن المجيد، فوجدنا في كثير من الأحيان أن الخلفيات المذهبية قد تسيطر. وحين نتكلم عن الخلفيات المذهبية فإننا نقصد الخلفيات المقولاتية والاعتقادية، مثل ما كان من محاولات بعض الفرق أن تعزز مقولاتها بتوظيف ولي أعناق الآي، وربما قد تُفصّل مناهج امتداد كي تكون الموافقة مع المقولات التي سبقت لديها.

كذلك هنالك أزمة الذين رأوا أن الفهم لا يمكن أن يكون خارج الذي أُثر؛ رغم أن السياق والواقع الذي يتم فيه استنطاق القرآن الكريم له مقتضياته؛ والرسول، عليه الصلاة والسلام، قد وضع لنا المنهج الوضيء الواضح بهذا الخصوص. خذ مثلا الكون باعتباره مرجعا للحركة. فإذا أردت أن تتعلم الحركة فأنت تستنطق الكون، وتُسائله… ولكن إذا ثبتَّ في وسائل مخبرية ووسائل منهجية معينة… فإنك لن تستطيع أن تستخلص من الكون ما تريد. لو ثبت الناس على الوسائل التي كانت سابقة لما استطاعوا أن يغوصوا في أعماق البحار، ولا أن يطيروا في أعالي الأجواء. ثم لو ثبتَ الناس في الطب القديم لما استطاعوا أن يشفوا الأدواء المستعصية. وإذا ثبتوا فيما هم عليه الآن في حوارهم مع الكون. فإنهم لن يستطيعوا الاستجابة لمتطلبات التجمعات البشرية في القرن الحادي والعشرين. فالكون مرجع يعطيك الحركة والقدرة على الحركة، لكن هذا الإعطاء وهذا العطاء سوف يكون بحسب استعداداتك، وبحسب الترسانة المنهجية التي تستخدمها في الحوار مع الكون، رغم أن الله عز وجل يقول: “وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه” (الجاثية: 12)، لكن إذا لم تكن دِلاؤُك مُعِينة لك على نبط القدرة على الحركة من الكون فإنه لن يعطيك إلا بحسب سؤالك، وبحسب قدرتك. كذلك في مجال الحوار مع القرآن المجيد. فرغم أن الله، عز وجل، يقول: “ولقد يسرنا القرءان للذكر” (القمر: 17)، فإن القرآن لن يعطيك، وهو مرجع الوجهة، ومرجع القبلة، إلا بحسب ما عندك من قدرات، وإلا بحسب ما عندك من دِلاء منهجية تمكنك من نبط الفوائد والهاديات من القرآن المجيد.

في نفس السياق، يرى بعض العلماء والمفكرين أن من أسباب غياب الاستثمار الجيد للنصوص المؤطرة للرؤية القرآنية، غلبة الذهنية الفقهية الأحكامية في التعامل مع القرآن الكريم. ما رأيك؟

هذا مشكل قديم، فقد أتى على المسلمين حين من الدهر أصبحوا فيه لا يرون الآيات القمينة بالتعامل تتجاوز المائتين وخمسين آية. وعلى أكرم تقدير قالوا خمسمائة آية. وسموها آيات الأحكام. بمعنى أن باقي الآيات الأخرى (وعدد آيات القرآن المجيد ستة آلاف ومائتان وست وثلاثين آية [6236 آية])… فلا يرونها إلا بمثابة ما يلفّ هذه الآيات الأساسية والمحورية التي هي آيات الأحكام. فكأنهم يقولون: الآيات الأخرى لا تمس إليها الضرورة جدا، ويمكن أن يستفيد منها الواعظ أو الذي يهتم بالقصص القرآني، أما الفقيه فلا يستخدم إلا 500 آية. فمشكل الانتقائية قديم.

القرآن المجيد كلٌّ، وكما قال أبو بكر بن العربي المعافري هو كالخبر الواحد، وكالجملة الواحدة… ونفس الكلام قاله الشاطبي وابن حزم. فالقرآن المجيد كالخبر الواحد، وبعضه يشد بعضا، وبعضه يفسر بعضا. وما كلمة ولا نقطة؛ فضلا عن الحرف، موجود في كتاب الله، عز وجل، إلا وله موضعه؛ وآية ذلك أن الله تعالى افتتح مجموعة من السور الكريمة بحروف مُقطَّعة؛ بمعنى أن الحرف له محوريته وأهميته في كتاب الله عز وجل. أما أن نسقط في هذه الانتقائية إما فقهيا أو سياسيا أو وعظيا… فأرى أن ذلك نوع من الحرمان للذات من الخيرات، ومن الأنوار التي في كتاب ربنا سبحانه وتعالى. ولذلك وجب أن نتجاوز هذه النظرة، وأن نطّرح بين يدي القرآن الكريم لكي نحاوره ونستنطقه ونستمد منه بمناهج مفتوحة، تمكننا على الوقوف على أكبر قدر من الخيرات تُبْلِغُنا إياه قدراتنا واستعداداتُنا البشرية.

ألا ترى أن الوضع الذي يعيشه المسلمون في عالمنا المعاصر، خاصة فيما يتعلق بعلاقتهم بالغرب، جعل بعض الفئات من المسلمين تسقط في انتقائية من نوع آخر… وذلك حين تنتقي من القرآن وترجح الآيات التي توحي بالصدام مع الآخر المختلف، على حساب آيات أخرى في التسامح والتعايش؟ وما هي مقاربتك لهذه القضية؟

المسلمون اليوم، يعيشون تحت ضغط عدد من الأخطاء ارتُكبت في حقهم، ويحتاجون إلى تبصرة وتحسيس للعالم بهذه الأخطاء التي ارتكبت ضدهم، من أجل تصفية الأجواء. فالمسلمون كانوا ضحية للاستعمار الذي أزهق فيهم الأرواح، وسلب الخيرات، ونهب المُقدّرات… وكانوا ضحية لتحويل الثروات الباطنية في بلدانهم… وكانوا نهبا لمجموعة من عمليات الإذلال في السينما الغربية والكتب والمجلات والإعلام الغربي… المسلمون عانوا، ويعانون، من الموازين المزدوجة؛ حين يتعلق الأمر بالمسلمين فلا يُنصفون. وحين يتعلق الأمر بغيرهم فالأمر يكون مخالفا… إلى غير ذلكم من النقط التي وجبت تصفيتها من خلال حركة إنصاف ومصالحة عالمية. لأن هذه القضايا؛ وهي قضايا حقيقية وفعلية، إذا لم يتم الاهتمام بها وتتم تصفيتها فإن قدرا غير قليل من الغضب سوف يبقى مكتنزا في صدور المسلمين عامتهم وخاصتهم. وهذا ليس ضربا من الترف، بل إن هذه الحركة، التي يمكن أن نسميها حركة إنصاف ومصالحة عالمية وجب أن يتم القيام بها، وسوف يكون من آثار ذلك المباشرة هو نزع ألغام كل الحجج التي يمكن أن يتذرع بها من يريدون سوق العالم نحن الغضب والكراهية والحروب… لأنه لن يبقى عندهم حجج يمكنهم أن يعبئوا من خلالها الشعوب.

والأمة اليوم إذا أعنَّاها وساعدناها فإنها ترفض الفهم المتطرف، وتدين العنف، ونحتاج إلى دعم هذا الفهم وتعزيزهم من خلال إكساب أهل الاعتدال والوسط صوتا ومن خلال تشجيع القيام بعمليات الإنصاف والمصالحة على الصعيد العالمي لإنصاف الشعوب الإسلامية، وإلا تركنا الحجج في أيدي المتطرفين الذين سوف يوظفونها بالشكل الذي نراه، وقد يقنعون شرائح من الأمة لا بأس بها.

ولذلك معالجة هذه القضايا ليست مسألة علاج نفسي جماعي للمسلمين، بقدر ما هي بالفعل نزعٌ لألغام يمكن أن تنفجر في وجوه العالمين في لحظة من اللحظات، وقد بدأنا نرى تجليات ذلك.

التجديد الديني… مطلب وضرورة

يلاحظ أن دعوات الإصلاح الديني، على مستوى العالم الإسلامي، تزامنت مع وقوع مجموعة من الأحداث الإرهابية في الغرب، وحتى في بعض دول العالم الإسلامي. والتي كان المتهم الرئيس فيها المسلمون، بل الإسلام نفسه عند بعض الاتجاهات. هذا التزامن جعل أي حديث عن الإصلاح الديني مشوبا بالريبة. ما هي رؤيتك لهذه القضية؟

لا نتحدث في الفضاء الإسلامي عن الإصلاح الديني فقط، وإنما نتحدث عن التجديد أيضا؛ انطلاقا من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) (رواه أبو داود وصححه العراقي وغيره). والتجديد والإصلاح متكاملان؛ فالتجديد رجوع بالأمر إلى أصله حال جدتّه. فأنت حين تجدد فإنك تَرجع إلى الأمور الأصلية، وتُرجع الأمور إلى أصولها. فالمجال ينفتح في الفضاء الإسلامي للحديث عن التجديد الديني بالإضافة إلى الإصلاح الديني، وأول عمليات الرجوع التي ينبغي أن نستحضرها، وأن نؤكد على أهميتها، هو تجديد الفهم للدين؛ أي أن نرجع بالفهم إلى عهده الأول، ونعرف كي كان المبعوث رحمة للعالمين، عليه الصلاة والسلام، يبلغ هذا الدين ويبيّنه. وهذه الأمور موجودة في القرآن المجيد، وفي سنة المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وهي أمارات ودلالات على كيفية استقائه، صلى الله عليه وسلم، من مشكاة القرآن المجيد. فإذا لم نجدد الفهم لن نستطيع أن نجدد الدين، وإذا لم نجدد الدين لن نستطيع الإصلاح.

هل ترقى عملية التجديد الديني إلى مستوى الواجبات الدينية والفكرية في عصرنا الحاضر؟

التجديد الديني ضرورة في كل حين. وأقصى وأكبر دوراتها لا ينبغي أن تتجاوز المائة سنة، فمن المفروض علينا شرعا أن تكون عملية التجديد واسعة النطاق كل مائة سنة، وليس أكثر، فالتعامل الذي كان مع الدين الإسلامي في القرن الخامس عشر ليس هو الذي كان في القرن السادس عشر، والذي كان في السابع عشر ليس هو الذي كان في السادس عشر… ويمكن أن نرصد هذا بالأسماء وعبر المؤلفات. وبداية القرن العشرين ليست هي القرن الواحد والعشرين. فهناك عملية تجديد حثيثة ربما لن نبصرها الآن إذ نحن نعيش في هذا الواقع وفي تقلباته، لكن لو أننا نستطيع أن نُخلّي بيننا وبين الواقع مسافة، لأبصرنا بالفعل آثار هذا التجديد وهذا التحول، هناك عملية تجديد الآن في العالم الإسلامي واسعة النطاق، علمها من علمها وجهلها من جهلها.

العالِم العربي.. والصور النمطية

هنا صورة نمطية مفادها أن غالبية المغاربة تلجأ إلى المظان المشرقية من أجل معرفة دينها وتنمية وعيها الديني. هل هذا الحكم صحيح؟

هذا الكلام غير دقيق، فقد صدرت مؤخرا دراسة فيها أن 35 بالمائة فقط من مصادر المغاربة بالدين تأتي من القنوات والمواقع الإلكترونية العالمية. و65 بالمائة تأتي من العلماء المغاربة على عكس الدول في المشرق التي فيها النسبة مقلوبة. فالعالِم المغربي له حضور في المجتمع المغربي، وله عطاؤه المستمر، وله أيضا حضوره على الساحة  العالمية، وعطاؤه على الصعيد العالمي، فالعالم المغربي يُستدعى للمشاركة في الندوات الدولية والمحافل العالمية، وكلمته مسموعة، أكثر من هذا، ولست أبالغ، يشكل العالم المغربي أنموذجا من حيث الفهم للدين، ومن حيث نمط التدين الذي عُرف به في التاريخ وفي الراهن.

يسوق بعض المراقبين مجموعة من الأسباب لتفسير تلك الصورة النمطية. منها مثلا ضعف تواصل العالم المغربي من الناحية الإعلامية مع الناس، عكس العالم المشرقي الذي يُطل عليهم عبر مجموعة من الوسائط الإعلامية. ما رأيك؟

هذه الصورة، للأسف الشديد، جاءت من كون التجربة الإعلامية المغربية على القنوات، وعلى أمواج الإذاعة، لم تكن بالانتشار الذي كانت به في المشرق. الآن يدخل المغرب بخطى حثيثة إلى مجال التواصل والاتصال السمعي البصري. وقد بدأ بفضل الله يظهر علماء في هذا البلد، من الشباب والكهول والمشايخ… على الساحة الإعلامية ببراعة وتمكّن حين فسح المجال أمامهم.

العالِم المغربي.. وأولويات التجديد

ما هي، في تصورك، أبرز المجالات التي تستدعي تجديدا مستعجلا؟

مناهج الفهم، ومناهج البحث، ومناهج التنزيل، ومناهج التقويم. هذه أربعة مستويات منهجية لابد أن تولى أهميتها. وأن تظهر آثارها في جامعاتنا ومحافلنا العلمية، وفي مراكز بحثنا، كيف يفهم الدين. وكيف يُفهم الوحي، وكيف ينبغي أن تُجدّد هذه المناهج. ثم مناهج البحث، وجب أن تُجدّد كذلك؛ لأنها أصبحت خاضعة لقوالب لا تستجيب للتحديات الراهنة. ثم مناهج التنزيل؛ أي كيف تُنَزّل ذلك على أرض الواقع. مع اعتبار المآلات والعواقب. ومراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد بالموازنات اللازمة. ثم مناهج التقويم لكل هذا. حتى يتم استدراك الهنات والأخطاء التي يكون الإنسان قد وقع فيها. فإذا تم تجديد هذه المستويات الأربعة من المنهج، فإن الأمر لاشك سوف يؤول إلى عاقبة أفضل وأحسن.

وكل مستوى من هذه المناهج الأربعة سوف يفرض أمورا عملية وهيكلية وإدارية ومؤسسية وتدبيرية. وهذا يبقى تقديره للمهتمين في كل مجال ذي مساس بأي مستوى من هذه المستويات الأربعة من المنهج.

هل هناك عوائق تحول دون الوصول إلى تحقيق قفزات نوعية على مستوى التجديد المذكور؟

اللهم إلا الحوائل النفسية، وكثير من الرقابة الذاتية غير المبررة. فالمجال مفتوح للتجديد. والرقابة الذاتية نتيجة آصار وأغلال التاريخ. وجب التخلص من كل ذلك؛ لأن هذا العهد المبارك الذي نعيش في ظلاله، عهدٌ يفسح المجال لاحبا أمام كل تغيير إيجابي.

أليس من حق العالِم، بالإضافة إلى اشتغالاته النظرية، المشاركة في مناقشة ما يطفو على السطح الإعلامي والفكري من أفكار وإشكالات وظواهر؟ أم أن الرقابة الذاتية، التي تحدثت عنها سابقا، تمنعه من تلك المشاركة؟

مناقشة هذه الأمور ليست فقط حقا للعالم، وإنما هي واجب عليه، ولكن تحت توجيه وتأطير قوله تعالى: “ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا” (الإسراء: 36)، وجب أن يكون تناول العالِم لهذه القضايا بحسب ما معه من الكفاءة والخبرة والعلم، وينبغي أن يجهد ويجتهد لكي يوسع هذه الخبرات، وينمي هذه الكفاءات، حتى يكون أقدر على مناقشة كل هذه الإشكالات باقتدار وبتمكن.

الرابطة المحمدية للعلماء.. الموقع والدور

ما موقع الرابطة المحمدية للعلماء من كل ما ورد من الواجبات الفكرية والعلمية التي تدخل في صلب التجديد الديني المطلوب بأولوياته المحددة؟

الرابطة تشتغل على هذه الأمور كلها، وحسب رزنامة محددة، الآن تشتغل على البعد الأول المنهجي، وهو بعد الفهم، وسوف نلاحظ أن جميع الأنشطة التي تندرج ضمن هذا الجزء الأول من الرزنامة بعد إعادة تأسيس الرابطة المحمدية للعلماء، كان يمس أساسا هذا الجانب من جوانب الفهم والتأهيل، ودخلنا كذلكم في الجانب الثاني الذي هو مناهج البحث؛ فأسّسنا مركزا للبحث العلمي، ونحن بصدد تأسيس think thank أي مستودع أفكار وستتم فيه مناقشة قضايا منهجية بالأساس؛ لأننا لا نريد أن نناقش قضايا عينية قبل أن نفرغ من القضايا المنهجية. فالمستودع الفكري له الشق التنظيري. ومركز البحث العلمي الذي تم تأسيسه بحمد الله، له الشق التنفيذي. وتبقى نيتنا معقودة، إن شاء الله، على أن نبلور كذلك مقاييس تقويمية لكي يسلمنا هذا التقويم إلى استدراك ما يجب استدراكه… كل هذا بتنسيق وتكامل مع كل الهيئات ذات الصبغة الدينية والعلمية في وطننا المبارك.

هل هناك مؤشرات لنجاح مثل هذه الورشات العلمية؟

كلّنا توكّل وأمل.

الوسوم

ذ. جواد الشقوري

• رئيس تحرير مجلة الإحياء.
• خريج دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط.
• رئيس تحرير مجلة مدارك، سابقا.
• مراسل سابق لعدد من المجلات والمواقع الفكرية.
• نشرت له العديد من الأبحاث والمقالات خاصة في قضايا الخطاب الإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق