مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

العالم الصوفي: أبو عبد الله ابن زكري

يعد العلامة ابن زكري من أبرز أعلام الحياة الثقافية والصوفية إبان فترة حكم الدولة العلوية، خلال نهاية القرن الحادي عشر، وبداية  القرن الثاني عشر، إلا أن المصادر التي تناولت شخصية ابن زكري لم تأت على كل الجوانب المتعلقة بسيرة هذا العَلَم، وإنما كانت مقتصرة ومجيزة في رسم معالم واضحة للرجل، فكان لزاما جمع شتات هذه المعلومات المتناثرة في كتب التراجم، قصد تحديدِ أهم السمات المميزة لصاحب الترجمة، معتمدين بالتأكيد على أحد تلامذة الشيخ الملازمين له، ونقصد بذلك الشيخ امحمد المنالي الزبادي، الذي أفاد خلال ترجمته للشيخ، بالنشاط العلمي الذي كان يقوم به في مسقط رأسه فاس.

1- اسمه ونسبه وكنيته:

اسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد –فتحا- بن عبد الرحمان بن محمد بن زكري،لم تذكر المصادر التي أرخت لحياة ابن زكري شيئا عن مولده، وإنما كل ما هنالك أنَّهَا أجمعت على أنه تربى وترعرع بفاس، وكان حريا بابن زكري أن ينهج سبيل معاصريه في الترجمة لأنفسهم، وتَعداد شيوخهم، وذكر إجازاتهم، إلا أنه لم يلتزم بهذا العرف العلمي، وآثر العدول عنه [1]، وربما كان يدع آثاره العلمية، وتلاميذه الذين تخرجوا من مدرسته، يمثلان أصدق تعبير عن حياة الرجل، خصوصا وأن المسار العلمي والصوفي لصاحبنا كانا يُعدان جوهر شخصيته، وعنوان سياسته.

2- نشأته وطلبه للعلم:

كان رحمه الله في ابتداء أمره على ما ذكره الزبادي في «سلوك الطريقة الوارية» والكتاني في «سلوة الأنفاس» يحترف صناعة الدباغة مع والده، وكان هذا الأخير مصاحبا للشيخ، العالم الصوفي، سيدي محمد بن عبد القادر الفاسي، وملازما لمجلس تدريسه، وكان الوالدُ يَحرِص على اصطحاب ابنه، ونظرا لصغر سنه كان الولد يجلس في مؤخر الناس، وكان يبحث مع الشيخ كثيرا ويسأله، والشيخ يعجبه سؤاله ويستحسنه، من غير أن تكون له معرفة به، فأقامه الشيخ يوما من مؤخر الناس وقدمه وقربه، وقال له: مثلك لا يتأخر، وذلك لما ظهر له من فطنته وقابليته، ثم إن الشيخ لما رأى يوما في يدي صاحب الترجمة أثر الدبغ، سأل عنه، فقيل له: إنه ولد سيدي عبد الرحمان ابن زكري، وقال له والده، هو ولدي. فقال له الشيخ: إنه لا تناسبه الصنعة، وإنما تناسبه القراءة لنجابته وفطنته، فأخرجِه من الصنعة ولا تتركه فيها أصلا، واجعله في قراءة العلم، ولك أجره، وإن عجزت عن شيء من مؤونته، فأنا أعينك، فأخرجه عند ذلك والده وتركه لقراءة العلم، فكان يقرأ حتى فتح الله عليه.[2]  

وذكر صاحب التحفة أن الذي منعه من صناعة الدباغة، وأمره بالقراءة الشيخ سيدي الحاج الخياط الرقعي، يقول حمدون الطاهري عن شيخه ابن زكري: إنه لم يبلغ ما بلغ من العلم والجاه إلا ببركة سيدي الحاج الخياط،  وعلى يده فتح الله عليه في العلم، فإنه كان في صغره يخدم صنعة الدباغة، فلما عرف سيدي الحاج الخياط منعه من خدمة تلك الصنعة، وأمره بالقراءة، فكان منه ما كان.[3]

 ونظرا لهذا التعارض في الرواية  بين الزبادي وصاحب التحفة، ذكر الكتاني في «السلوة» عن بعضهم موقفا توفيقيا مضمونه: “ألا معارضة بينهما، لاحتمال اجتماع الشيخين معا على ذلك، قال إلا أن النسبة إلى الشيخ الرقعي أشهر وأصح، والله أعلم”[4]. ولعدم وجود قرائن قطعية ترجح أحد الروايتين، فمما ينبغي اعتباره، هو أن ابن زكري كان له نزوع نحو طلب العلم، وكانت فراسة الشيخين صادقة حينما أدركا بأن الغلام سيكون له شأن عظيم، ومنزلة سامية، وعلامة بارزة ضمن علماء عصره، وأن بركة الصالحين تُصاحب المُبَرَّكِ عليهم بالسداد والتأييد بإذن المولى عز وجل.  

ورغم أن ابن زكري قد اضطر في مرحلة لاحقة من حياته عقد العزم على الاشتغال بالتجارة، على حسب ما يذكر ذلك ابن عاشر في فهرسته بقوله: “وقد كان عازما على تعمير حانوت “[5]، لكن سرعان ما فترت همته لذلك، وكان العلم يجذبه إليه، مما يدل بأن محبته للعلم والتفرغ إليه كان له كبير وقع في قلبه، وهو ما عبَّر عنه ابن عاشر بقوله: “فلما طلع إليها، انقبضت نفسه أشد الانقباض، وانقلب ما كان محبة لذلك بغضا وكراهية، فنزل منه وذهب لبعض صلحاء فاس الأحياء، وهو السيد أحمد الحاج الخياط.. فقال له: أكرم الفقراء..وتكون عالما”.[6]

 يدل هذا الحدث بأن طريق العلم تكتنفه معوقات وحجب تَصُدُّ طالبه عن إتمام مساره العلمي، فيتوجب الاستعانة بأهل الخير والفضل لـتأمين الطريق نحو طلب العلم، وما كانت هذه العناية بالنسبة للشيخ الخياط لتتوجه إلى ابن زكري –الطالب- إلا لما عهده فيه من حرص على التعلم، وما توفرت فيه من علامات النجابة والنبوغ، حينها ظهرت فراسة الشيخ بأن التلميذ سيكون له نصيب من علماء الوقت، وهو ما كان فعلا.     

وإن كانت المصادر التي ترجمت لابن زكري لم تمدنا بالمعلومات الكافية عن العلوم التي تلقاها صاحبنا عن علماء عصره، لكن بالنظر إلى طبيعة المرحلة، فإن النظام التربوي التعليمي الذي كان سائدا لم يخرج عما هو معهود في ذلك العصر، بحفظ القرآن الكريم، ثم الإلمام بعلوم الآلة؛ من النحو والبلاغة والمنطق..، ثم علوم الرواية من الفقه والتفسير والحديث.. وعلوم الدراية كعلم الكلام وأصول الفقه.. وعلى كل فإن تلك الفترة كانت تعرف ثقافة موسوعية، دفعت بصاحب الترجمة إلى النهل من ثقافة العصر، وهو ما يظهر جليا في الآثار العلمية التي خلفها الشيخ، والتي عَبَّرت عن النظام التربوي، والمُكونات العلمية المُتداولة في تلك الفترة.

بالإضافة إلى كل هذه العوامل المتاحة في عصر المُؤَلِّف، فإن العنصر الأساس الذي كان له كبير الأثر في تكوين ابن زكري، ترعرعه على كبار علماء عصره، كالعلامة الدراكة، فريد عصره، محمد ابن عبد القادر الفاسي، وأحمد بن العربي بن الحاج، وغيرهم.. كما أن فاس كانت تُعَدُّ من أهم مراكز العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، ولا يمكن أن نتجاهل ما كانت تقوم به الزوايا من أدوار في نشر العلم وتأطير المجتمع تربويا، وهو ما كان له انعكاس على الحياة الثقافية والعلمية والأخلاقية على المجتمع، ولعل هذا ما يُفسِّر لنا عدم ارتحال ابن زكري إلى مناحي أخرى لطلب العلم، كما هو شأنُ كثيرٍ من علماء عصره، والسبب أن فاس كانت تعد من العواصم العلمية التي لها الريادة، لما كانت تزخر به من فحول أهل العلم.   

إن كل هذه العوامل الموضوعية دفعت بابن زكري إلى أن يكون اسما بارزا ضمن علماء فاس، استطاع بمقوماته الفكرية والأخلاقية أن ينتزع إعجاب شيوخ عصره ومَن أتى بَعدَهم، وهو ما عبرت عنه قرائح المترجمين في تحليته، بكونه: “الشيخ الإمام، العالم العلامة، الهمام المشارك، المحقق الحجة، الضابط الأرقى…ممن تقصر عن محاسنه الأقلام، وتَكِلُّ دون منتهاه ألسنة الأنام، أمره أشهر من نار على علم، فكأنه بدر تم طلع في ديجور الظلم، قد برع في سائر الفنون، وغاص في لججها، فاستخرج منها نفائس الدر المكنون، جامعا لأدوات الاجتهاد، مائلا إليه في الحكم والاعتقاد، قادرا على الاستنباط، عارفا ما بين العلة والمعلول من جوامع الارتباط، بالغا غاية الأرب في تحقيق علوم الدين؛ من النحو والصرف واللغة، والعروض والقوافي، والمعاني والبيان والبديع، وصناعة الشعر والترسيل، وأنساب العرب وأيامها، وتواريخ غيرها من الأمم السالفة، وتراجم الأعيان وسائر المحاضرات، لا يدرك شأوه”[7]، وخير ما يمكن الاستشهاد به في هذا المقام ما نظمه محمد بن عبد الله العلوي الشنكيطي، المعروف بابن رازكة، أحد تلامذة صاحب الترجمة، مادحا إياه بقوله:

وأنت ابن زكري نبـيه محقق     تفردت فـي الدنيا بغـير شبيه

إذا غصت فيبحر حصلت دره      وخليت عن سفسافـه ورديـه

يمــدك في إتقان علم تبثه       قياس أصـولي ونـص فقـيه

وقال الذي أبداك كالنجم يتقي      به الغي من يبغي الهدى ويعيه[8]

 ونجد الشيخ عبد المجيد الزبادي أحد تلامذة ابن زكري يحلي شيخه بأشعار تبين مكانته في نفسه، من شعره هذه الأبيات الجميلة:

أجلت في الناس فكري       في الصحو مني وسكري

فلم أجد طول عـمري      شيخا كشيخي ابن زكـري

يا أهل ودي وسـري       ومن تووا وسط صـدري

إن شئتم نيل ذخـري      عليكــم بــابن زكـري[9]

ورغم هذه الشهادات والأوصاف التي قدمها شيوخ ابن زكري وتلاميذه، فإن صاحب الترجمة قد تعرض لانتقادات لاذعة بخصوص ما نُسِب إليه من  آراء حول تفضيله للعجم على العرب، وما يبرز هذا الاختلاف، ما ذكره القادري في ترجمته، قوله: “وللناس فيه آراء، والذي عندنا أنه قوي محقق حسب ما عرفناه من تقاييده التي سمعناها من أشياخنا الذين أخذوها عنه”[10]، فمكانة الشيخ العلمية لم تشفع له فيما وقع له من تشنيع واعتراض من لدن عدد من الشيوخ، وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن الطيب القادري، ومما جاء عنه: “وسمعنا سماعا مستفيضا أنه ألف تأليفا في أفضلية العجم على العرب، ولم نر من شيوخ وقتنا من أهل الدين إلا من يعيب عليه ويشنع عليه غاية التشنيع، وهو جدير بذلك، لأن العرب لهم مزية على غيرهم من الخلق برسول الله صلى الله عليه وسلم”[11] وبعد استعراض الأدلة على أفضلية العرب على سائر الأمم، وصل القادري إلى نتيجة عبَّر عنها بقوله: “ثم إن صاحب الترجمة خالف هذا، وتمذهب بمذهب الشعوبية فيما حكي لنا عنه”[12].

 وفي سياق هذا التضارب حول ما نسب لصاحب الترجمة، نجد موقفا مضادا ينفي دعوى شعوبية ابن زكري، وممن قاد هذا الاتجاه “أبو العباس أحمد بن عبد السلام بن محمد بن أحمد بناني، الذي ألف كتابا سماه: «تحلية الآذان والمسامع بنصرة العلامة ابن زكري»[13]، رادا فيه على صاحب النشر، ولعل هذه النصرة التي قادها البناني أثمرت في المؤرخ أبو العباس الزياني، الذي بعد أن اجتمع بهذا الأخير، وتداولا الكلام حول ما قيل في الشيخ ابن زكري، اقتنع بأن ما نسب للشيخ ليس بصحيح، وهو ما حمله على تخصيص مبحث لذلك في كتابه: «الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا».

 وفيه يقول: “ما نسب للفقيه العلامة محمد بن عبد الرحمان بن زكري الفاسي من أنه ألف تأليفا على رأي الشعوبية، من تفضيل بني إسرائيل على العرب، وشاع ذكره في البلد، ثم نسي مدة مديدة ثم حيي ثم نسي، ثم ذكر في هذه الأزمنة بعد العشرين ومائتين أنه شفع بآخر أيده به أحد طلبة بني البناني، يسمى أحمد بن عبد السلام، وأيد بنصوص وحجج ودلائل..وأفاد أكثر مما استفاد.

 ولما رجعت من رحلتي سمعت بخبر هذا الثاني، وكنت لم أطالع الأول الذي نسب للعلامة ابن زكري، فشرعت في البحث عنهما، والطلب لهما من كل الوجوه إلى أن قدر الله الاجتماع بمؤلف الثاني؛ وهو الفقيه العدل السيد أحمد بن عبد السلام بناني…وجاريته في الكلام إلى أن أنس وانبسط، وسألته عن التأليف الأول الذي لابن زكري والثاني الذي له، فأنكرهما، وقال: والله ما كان مما سمعت إلا مجرد تشييع الحسدة من طلبة الوقت للعلامة ابن زكري، وحسدة شياطين الوقت لي، أما ما هو لي فآتيك به، وأما الذي هو للشيخ ابن زكري على هذا الوصف الشنيع فلم يكن، وآتيك بما هو الحق الذي ألفه، وتابعته وأنكرت على من شنع عليه ولمزه، وبعد أيام قلائل أتاني بهما، أما الذي له فليس من ذلك القبيل، وأما الذي لابن زكري فليس به أثر لهذا التفضيل للجنس الإسرائيلي على الجنس العربي إلا ما ذكره المفسرون في شرح الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) [سورة البقرة آية 46]. وتعرض مع علماء وقته في الإنكار على من يفرق بعضهم على بعض، يشير إلى ما كان عليه أهل فاس عربهم وبربرهم من حقارتهم، وحطهم لهؤلاء المسلمة الذين يسمونهم البلد، وعدم المبالاة بهم في كل شيء، وصار ذلك عندهم عادة لا تزول عنهم بحكم سلطان أو فتوى عالم، خلفا عن سلف”.[14]    

وباختصار فإن مكانة الشيخ وتآليفه لا تسعف الباحث على اعتقاد تمذهب الشيخ مذهب الشعوبية، وكل ما أثير في الموضوع يمكن أن يكون بخلفية سياسية واجتماعية، هدفه الظهور والوجاهة، وما يترتب عن ذلك من مكاسب مادية، على أن ما ذكره القادري لا يمكن أن يكون حجة فيما ذهب إليه في حق الرجل، والله أعلم.     

هوامـــش

[1] محمد ابن زكري حياته وآثاره: لفاطمة كروم، بحث لنيل دبلوم الدكتوراه في الآداب،  مرقون في كلية الآداب والعلوم الإنسانية –تطوان- السنة الجامعية 2006م-2007م.

[2] سلوك الطريقة الوارية  بالشيخ والمريد والزاوية: احمد المنالي الزبادي، دراسة وتحقيق وتقديم، ذة نعيمة بنونة، د. أحمد الشرقاوي بوكاري، المطبعة والوراقة الوطنية –مراكش- ط. الأولى 2012م، 2/ 47-48.

[3] تحفة الإخوان ببعض مناقب شرفاء وزان: حمدون الفاسي، دراسة وتحقيق، محمد العمراني، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس –فاس- ، ط. الأولى: 1432ﻫ/2011م، ص 256.

[4] سلوة الأنفاس: محمد الكتاني، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، وحمزة بن محمد الطيب الكتاني، ومحمد حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة –الدار البيضاء- ،ط. الأولى: 1425هـ/2004م، 171/1.

[5] فهرس ابن عاشر الحافي، ص 282.

[6] فهرس ابن عاشر الحافي، ص 282.

[7] سلوة الأنفاس: محمد الكتاني، 171/1-172.

[8] النبوغ المغربي في الأدب العربي: عبد الله كنون، دار الثقافة، ط. الثانية، 289/1.

[9] سلوك الطريقة الوارية: الزبادي، 56/2.

[10] نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني: محمد بن الطيب القادري، تحقيق: محمد حجي، وأحمد توفيق، ضمن موسوعة أعلام المغرب، دار الغرب الإسلامي، 2033/5.

[11] المصدر نفسه، 2033/5.

[12] نفسه، 2039/5.

[13] دليل مؤرخ المغرب الأقصى: ابن سودة، دار الفكر –بيروت- ط. 1418هـ/1997م، ص 53-54.

[14] الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا: أبو القاسم الزياني، حققه وعلق عليه: عبد الكريم الفيلالي، دار نشر المعرفة –الرباط-  ط. 1412هـ/1991م، ص 357-358.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق