مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الصفة الإلزامية لمهمة التخليق

د.  طارق العلمي 

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

    لقد ثبت أن مهمة التخليق[1] تقتضي كمالات خاصة، فلا العلم ينبغي أن يفارق العمل، ولا المعرفة بالأشياء ينبغي أن تفارق المعرفة بالله، ولا الاستزادة في العمل ينبغي أن تفارق الزيادة في المنفعة؛ كما أنها تستوجب أوصافا معينة تجتمع في التحقق والتخلق بالعينية والعبدية.

    ومتى تفطنا لقدر هذه الكمالات وخصوصية هذه الأوصاف، علمنا أن مهمة التخليق مهمة ثقيلة؛ ومن مظاهر ثقلها مظهران اثنان أساسيان: أولهما أن المقرب لا يخير في تحملها، وثانيهما أن غيره لا يقوم مقامه في تحملها؛ فلنسم هذين المظهرين على التوالي: (التكليف بالتخليق) و (اغتصاب التخليق)، ولنمض إلى تفصيل القول فيها.

يظهر التكليف بمهمة التخليق في الأمور التالية:

العقل المؤيد مناط التكليف التخليقي:

    إذا أخذنا بالقاعدة الأصولية التي مقتضاها أن العقل هو مناط التكليف، لزمنا أن نقول بأن مراتب التكليف تتعدد بتعدد مراتب العقل، ولما كانت هذه المراتب العقلية ثلاثا: (العقل المجرد) و (العقل المسدد) و (العقل المؤيد)، فإن لكل منها مرتبة تكليفية مخصوصة. فإذا كان العقل المجرد هو مناط التكليف القرباني، وكان العقل المسدد هو مناط التكليف القربي، فإن العقل المؤيد هو مناط التكليف التخليقي: فلكل من قام به التخلق على وجه يجلب له وصف النموذج، وجب عليه أن يخرج إلى الغير حتى يعلمهم طرق التقرب إلى الله، فيحبب إليهم أداء تكاليفهم التقريبية، إن قربانا أو قربا.

التخليق أمانة عند المقرب:

    فمن المسلم به أن المقرب غائب عن التماس مصالحه الخاصة واقتناء مآربه الشخصية، ومتوجه بالكلية إلى خدمة الله في كل أفعاله، حتى لا مصلحة له ولا مأرب إلا فيما وافق هذا التوجه الكلي، وليس أولى الأفعال مناسبة لهذه الخدمة بعد تحصيل درجة التخلق إلا النهوض إلى خدمة الغير، لكي يستقيم سلوكه على أصول التقرب وعلى شروط مواصلته، فيبادر المقرب إلى أداء هذه الخدمة على الوجه المطلوب، شعورا منه بأنها أولى الأمانات التي طوق بها، وأنه مطالب بحقوقها ومسؤول عن أدائها.

التخليق فعل اضطراري للمقرب:

    فالمقرب لا يدبر أمر هذه الخدمة الإصطلاحية كما يدبرها غيره، فيختار وقتها ومكانها وكيفياتها كما يختار ذلك المقارب، أو يقرر وجوه المعروف فيها كما يفعل القرباني، لأن الاختيار المجرد يستند إلى الشعور بالتصرف الجزئي، بينما المقرب مطالب بترك هذا الشعور تركا كليا لما فيه من منازعة للتبعية الأصلية، فلا مناص إذن للمقرب من أن يتحقق بمعنى الاضطرار في أداء التخليق ، حتى لا يقع في التدبير المقيد أو المجرد، ومتى تحقق بالاضطرار في التخليق، صار التخليق عنده وجها من وجوه الدعاء الذي يستحق به الإجابة من الفاعل المختار امتنانا لا امتثالا، كما يستحقها الذي تيقن من التجلي الأمري للفاعلية الإلهية.

التخليق مظهر محبة:

    نعلم أن القرب ثمرة محبة مزدوجة: (محبة المتقرب لله) اتي تورثه وصف العينية و (محبة الله المتقرب) التي تورثه وصف العبدية. ثم إن التخليق هو ذاته ممارسة محبة من جانبين اثنين: جانب (تحببي)، ذلك أن المقرب يتعهد مقامه في المحبة، هذا التعهد الذي يجلب إليه الرسوخ في العينية والتمكين في العبدية، وجانب (تحببي)، حيث إن المقرب يحبب الخلق إلى الله، ويحبب الله إلى الخلق، ولما كان التخليق أقوى الأفعال دلالة على المحبة، وكانت أشد الأحوال دلالة على القرب، تبين أن يكون المقرب محمولا على الوفاء بشروط التخليق وتقديمه على غيره من الأعمال الجالية لمزيد من التقرب.

    نخلص إلى القول بأن التخليق أمر تكليفي يحمل عليه المقرب حملا بمقتضى مرتبته في القرب كما يحمل (المكلف) على أداء الفرائض حملا بمقتضى اتصافهبالعقل. وما كان تكليفيا، كان مقرونا بالجزاء: فكما أن (المكلف) يناله الثواب عند نهوضه بالأعمال ويتعرض للعقاب عند قعوده عن أدائها، فكذلك المقرب ينال الترقي في مراتب القرب والتأييد إذا قام بواجب التخليق، ويتعرض للتدني والتراجع في هذه المراتب لو قدر أن يتركه عن استطاعة أو عن إرادة.

    ومتى علمنا أن التخليق مهمة تكليفية بمعنى أن المقرب يؤدي هذه الوظيفية بقهر الإيجاب، حتى إنه يسأل عنها سؤال المكلف عن الفرائض، أدركنا أن من ينهض إلى التخليق بغير إيجاب، وبمحض الاختيار التجريدي أو بمحض القرار التسديدي، فإنما يكون قد اغتصب هذه الوظيفة اغتصابا، وإلى الاشتغال بالمظهر الثاني من مظاهر ثقل مهمة التخليق.



[1] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، ص 207-209. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق