مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الشيخ المقرئ أحمد المؤذن (الحميموني) رحمه الله (ت1440هـ)

الحمد لله القائل في كتابه: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَ۬لْكِتَٰبَ اَ۬لذِينَ اَ۪صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

وبعد:

ففي رمضان سنة 1423 هـ  شاء الله أن أزور مدينة مدينة بروكسل ضمن وفدٍ من القراء المغاربة، في إطار التنشيط الديني للجالية المغربية بتلك البلاد، وكان من حسن الأقدار أن التقيت بشيخ مغربي، متقن لعلم القراءات رواية ودراية، تخرج على يديه جماعة بالمغرب وبديار المهجر، وكان له استحضار عجيب للشواهد القرءانية؛ وللمتون العلمية في القراءات خصوصا طيبة النشر، فمما أذكره من ذلك أنه كان إذا تكلم مثلا على الهمزتين من كلمتين المتفقتين بالكسر، ذكر عددَها في القرآن، وبدأ يسردها واحدة تلو الأخرى إلى أن يأتي عليها كاملة، ومما حُكي لي كذلك عنه، مما يدل على قوة حفظه، أنه كان يقرأ أثناء كتابته اللوح لطلبته، يكتب مثلا من سورة النساء في اللوح، ويقرأ من سورة مغايرة في الوقت نفسه.

وكان رحمه الله يجد متعة أثناء الجلوس مع أهل القرآن، خصوصا إذا كانوا ممن له إلمام بعلم القراءات، وتجده كلَّ يوم يحمل كتابا من كتب القراءات أو كتب التوجيه، ويسرد منه فصلا أو فصولا يتدارسه مع طلبة القرآن.

هذا الشيخ هو: أحمد المؤذن (الحميموني) رحمه الله تعالى، بلغتني وفاته سنة 2018م، فأحببت أن أُعرِّف بهذا العَلَم عبر هذا المنبر، فاتصلتُ بأحد إخواننا الأكارم السيد كريم حفظه الله، فأسعفني بترجمة للشيخ رحمه الله، وهي من إعداد السيد عبد الحق خياط أحد طلبة الشيخ رحمه الله. فأنا أسوقها كما وصلتني:

قال حفظه الله: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أهلين، قيل: ومن هم يارسول الله؟ قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته»، الحديث.

فحريٌّ بنا معشر القراء الكرام أن نُعرِّف بأحد أساطين أهل القرآن، أهل الله وخاصته، ممن أفنوا أعمارَهم وجهودَهم في خدمة القرآن. وإني أُقدم هذه الترجمة لهذا الشيخ الجليل بصفتي أحد تلاميذه الذين درسوا عليه وجالسوه، وعرَفوا أحوالَه عن كَتَب.

فمَن هو الشيخ أحمد المؤذن؟ وأين حفظ القرآن؟ وعلى مَن؟ وكيف تَرقى في علم القراءات؟
ماهي مكانته العلمية، وآثاره القرآنية، داخلَ المغرب وخارجَه؟

على ضوء هذه الأسئلة نقدم ترجمةَ الشيخ سائلين الله تعالى السَّداد والصواب.

أخذت هذه الصورة بالمدرسة القرآنية التابعة لمسجد المحسنين ببروكسل سنة 2002م، وفيها من اليمين إلى الشمال: الشيخ المختار الأزرق، المقرئ العيون الكوشي، المقرئ محمد معروف، المقرئ سمير بلعشية، الشيخ المقرئ أحمد المؤذن رحمه الله، المقرئ محمد عمر الجعادي.

ميلاده ونسبه ووفاته:
هوالإمام المقرئ الجامعُ للقراءات العشر حفظا ومعرفة وأداء: السيد أحمد بن البشير بن موسى المؤذن المشهور بـ«الفقيه الحميموني». أصله من قبيلة آل سريف مدشر «حميمون» جماعة بوجديان، بضواحي مدينة القصر الكبير.

ولد بتاريخ 1947 أو 1948 ميلادية، وتوفي يوم 14 من شهر المحرم سنة 1440هجرية، الموافق لـ24/ 09/ 2018 ميلادية.
رحلته العلمية:

عُرف الشيخُ منذ صغره بهمته العاليةِ في طلب القرآن؛ فحفِظ القرآن في سن مبكرة. ثم سعى في جمعه للقراءات على شيوخ البلد المشهود لهم بذلك. وقد حكى لي رفيقُ دربه في حفظ القرآن وضبطه رسما وتجويدا: السيد أحمدُ بنُ أحمد بنِ عزي المؤذن، مسيرتَه في حفظ القرآن، والشيوخَ الذين تلقى عنهم القرآن والقراءات، وذكر أنه كان يتمتع بذكاء حاد، وذاكرة حافظة، وهمَّة عالية.

وهذا صحيح لا غبار عليه. وأنا بنفسي قد شاهدت ذلك حين كنت أتَلقّى عنه «النجوم الطوالع في مقرإ الامام نافع» لابن بري رحمه الله، و«الشاطبية» للإمام الشاطبي بشرح ابن القاصح في بيته أثناء عطلةِ الصيف في منزله بالقصر الكبير.

وذي خلاصةُ ما حكاه لي رفيقُه باختصار شديد:

بدأ، رحمه الله، حِفْظَ القرآن في مدشره «الحميمون» على يد الفقيه السيد عبد السلام الكرفطي، الذي ينادونه بسي عبسام (الهوتة) من مدشر الهوتة قبيلة بني كرفط. ثم على الفقيه السيد علي عمر المؤذن من المدشر نفسه. ثم جَمَعَ القرآن (السلكة) على الفقيه السيد محمد الهاشمي المؤذن. ثم شدَّ الرحالَ لتصفية القرآن إلى الفقيه السيد أحمد بن أحمد الصمدي الملقب بشُرْدال (بضم الشين وسكون الراء) بتسيملال.

ثم رحلَ إلى طنجة (الفحص)، ليواصل ضبطه لرسم القرآن، وحفظه للمنظومات المتعلقة بالرسم والضبط والتجويد والقراءات، على الفقيه سي عبد الرحمن بالعوامة.

بعد إتقانه القرآن رسما وضبطا، اتجه إلى قبيلة بني يسف، ليتلقى العلوم العربية والشرعية على الفقيه اليسفي المعروف بـ: سي عبد الرحمن بالقصبة.
ثم بعد ذلك تزوج واستقر إماما بمدشره الحميمون. وفي هذه الفترة كان يدعو الفقيهَ الضليع في رسم القرآن والقراءات المعروف بالسيد: «محمد بنعليلو» من مدشر «عين منصور» بقبيلة آل سريف، إلى مدشره في مسجده، ليقيم عنده شهرا أوشهرين أوأكثر؛ ليتزود من معينه الفياض في علم القراءات ورسم القرآن.

كان هذا الشيخُ رجلا ربانيا، ذاكرا، عابدا، متواضعا، محبوبا عند جميع الناس، مطلوبا من طرف وُجهاء البلد في المناسبات الكبرى كالمسيرة، وعيد العرش وغيرها من المناسبات، لما كان يحظى به من شرف المكانة والعلم.

تخرج على يديه العديد من الطلبة، منهم من حفظ القرآن، ومنهم من تعلم قراءة حمزة وقراءة البصري على يديه .. 

كان يحفظ العديد من المنظومات في مختلف الفنون. ومن شيوخه المشهورين: الفقيه الطرفي من مدشر الغراف، والفقيه البقالي صاحب القراءات والتفسير والعربية وغيرها.

فالشيخ المؤذن كان يعرف قدر الشيخ محمد بنعليلو، لذا كان حريصا على الاستفادة منه، وخصوصا في القراءات والرسم والضبط.

ولما خرج الشيخ المؤذن إلى أوروبا، واستقر به المقام ببلجيكا، كانت له اتصالات كثيرة بأهل القراءات، ومن جملتهم الشيخ منير المظفر التو نسي وغيره.. وبها ازداد علما ورسوخا في هذا العلم العظيم.

ولما كان يرجع إلى المغرب في فصل الصيف، كان يزور أو يستدعي الشيخ الفقيه الشهير السيد «محمد بوصخور»(1)، ويتبادل معه المعلومات في مجال القراءات والرسم والضبط.

فالشيخ المؤذن لم يكن له همٌّ غير القراءات. فما علم أحدا له اهتمام بالقرآن وبالقراءات إلا وزاره، وتناقش معه، مفيدا ومستفيدا

مكانته العلمية:

كان، رحمه الله، حافظا للكثير من متون علم القراءات والتجويد والرسم وغيرها، واعيا بمحتوياتها وتوجيهاتها ، فمنها: الشاطبية، وطيبة النشر، والدرر اللوامع، ومورد الظمئان، كما أنه كان يحفظ كثيرا من الأنصاص.

وممن شهد له بالفضل في هذالعلم، ورسوخه فيه، فضيلة الشيخ : عبد الحميد احساين، والشيخ التهامي الراجي، وغيرهم كثير..، وهما السبب في خروجه إلى أوروبا، تلبية لرغبته، بعدما عرفا قدره وجلاله.

عمله وآثاره:

مارس الإمامة بالمغرب في أماكنَ شتى من المملكة: في مدشره «الحميمون»، ثم في مدشر «العزيب» فتخرَّج على يديه في هذه الفترة كثير من حفظة القرآن من مختلف القبائل المجاورة. ومن جملتهم السيد أحمد الساهل ولد الفقيه الساهل المعروف بعدم اعتداده بأي طالب لا يصفي القرآن .. وغيره كثير. ثم رحل إلى الغرب مشارطا في مداشير مختلفة، مُخلِّفا وراءه الكثير من طلبة القرآن.

بعد ذلك، حطَّ رحاله بمدينة القصر الكبير، «مشفعا» بمسجد «الفتح»، ثم إماما بمسجد «السلام» في الثمانينات من القرن العشرين الماضي. وبه اشتهرت المدينة في مجال الاهتمام بالقرآن حفظا وتجويدا، حيث يُعتبر أول من أدخل علمَ التجويد إلى المدينة. وبها ذاع صيته، واشتهر ذكره في الآفاق.

وقد تخرج على يديه في هذه المدينةكثير من القراء؛ فمن جملتهم: السيد المقرئ محمد عمر الجعادي، أول مسجل للمسيرة القرآنية بالنسبة لمدينة القصر الكبير، والسيد عبد الله المريني مدرس بمؤسسة سيدي عبد الجليل القصري، والسيد عبد الحق الخياط مدرس بالمؤسسة نفسها، والسيد أحمد الغيلاني، كذلك، والسيد أحمد العزوزي البياري، والسيد عبد الله الدودي رحمه الله، والسيد عبد السلام الزميمري، وغيرهم كثير.

أما خارج المغرب وبالضبط بلجيكا بالعاصمة بروكسل، بدأ عمله بمسجد «الفتح» إماما ومدرسا، وبعده بمسجد «الخليل»، ثم مسجد «التوحيد»، ليتفرغ للتدريس فقط بمسجد «العزيز» ثم «المحسنين»، لينتهي به المطاف أخيرا بمسجد «العزيز» محفظا للقرآن الكريم سنة 2006.

وقد تخرج على يديه بهذا البلد (بلجيكا) أكثر من مائتي طالب وطالبة، بمعدل 10 حفاظ سنويا، الذين كانوا يحصلون على المراتب الأولى في المسابقات القرآنية التي كانت تقام على مستوى بلجيكا.

ومن أبرز تلاميذه ببلجيكا الشيخ السيد نبيل حموش، والسيد أحمد بولقديد، والسيد عبد الحكيم درقاوي، والسيد خطيب السحيمي، والسيد إبراهيم الهاشمي، والسيد رشيد بوطاهر، كلهم موظفون ببلجيكا، ما عدا السيد أحمد بولقديد فهو مدرس للتربية الإسلامية في المدارس البلجيكية، و مدرس للعلوم الشرعية. ومنهم: ولده سي البشير الذي يشتغل حاليا محفظا للقرآن ببلجيكا على خُطى أبيه رحمه الله، فاللهم اجعله خير خلف لخير سلف. ومنهم : مصطفى عبد الرحمن مازن الشاعر الذي ألقى قصيدة جميلة في حقه بمناسبة حفل أقيم تكريما له بتاريخ19 رمضان 1429هـ الموافق 22/10/2005م. كان قد أهداها إلي، وتلوتها عليه في بيته الشريف. رحمه الله.

فتلامذته كثيرون، ومن بلدان مختلفة، ومشارب متنوعة، فيهم رجال التعليم، والأطباء، والأئمة، والمهندسون، والتقنيون، وهلم جرا.

فالشيخ، رحمه الله، كان له تأثير كبير في الأوساط العلمية في مجال تخصصه. ومما اشتهر على لسان أهل العلم هناك ،كالشيخ التجكاني وغيره، كماذكر لي الشيخ عبد الله المريني، أنه لما صدر مصحف بقراءة «ابن كثير» لأول مرة في نسخته الأولى، قرأه الشيخ، فوجد به أخطاء علمية، فذكرها لأهل العلم ببلجيكا وطلبته، فراسلوا اللجنة العلمية الساهرة على إعداد هذالمصحف، وقدّموا لهم ملاحظات الشيخ، فأعادت اللجنة النظرَ في ملاحظاته، فوجدوها صحيحة، فأخذوا بها وتلافوا تلك الأخطاء في إصدار النسخة الثانية.

طرائفه:

للشيخ رحمه الله طرائف كثيرة، منها:

ماذكره لي أحد رفقاء دربه في القراءة السيد أحمد بن أحمد بن عزي المؤذن، أن سبب اهتمامه بعلوم القرآن، وخصوصا الرسم والتجويد والقراءات، أنه زارهم بمدشرهم السيد الفقيه أحمد الشنتوفي من «خربة الشناتفة»، وكان الشيخ أحمد المؤذن يقلد الشيخ عبد الرحمن بن موسى، والشيخ علي البرنوسي، فقال له السيد الشنتوفي أنت مجرد مقلد (يعني لا دراية له كاملة بقواعد التجويد وأحكامه)، فاشتاط غيظا من هذه الكلمة، ودخل معه في نقاش شديد حول الرسم والضبط والقواعد، فوجد نفسه ضعيفا أمامه.. فكان لهذه الواقعة أثر كبيرعلى نفسه، دفعه دفعا إلى الاهتمام أكثر بعلم التجويد والقراءات والرسم والضبط حتى علا كعبه فيها.

ومن غرائب أمره مع القرآن، ما حكاه لي بنفسه أنه تارة دخله ريب في كلمة من كلمات القرآن فأبى أن يرجع إلى المصحف لينظر فيه إلا بعد أن راجع القرآن كله تسع مرات، حتى عجز؛ ليذعن أخيرا إلى عظمة القرآن مسلما وضارعا.

شهادتي في حقه أيام التلقي عنه:

إني أشهد الله، بصفتي تلميذه وملازمه أيام التلقي، أني ما علمت عليه إلا حبّه للقرآن. وتلاوته له، وتعليمه وتعلُّمه. كلَّما أتيتُ بيته إلا وأجده إما تاليا للقرآن، لا يَملُّ من التلاوة، أو معلِّما له، أوباحثا أودارسا لكتاب معين في القراءات.

كان شغله الشاغل علم القراءات، ولا يتحدث معك ولا يناقشك إلا في القرآن والقراءات.
   وأسعدُ لحظة كنت أعيشها معه، يوم يزوره الشيخ محمد الصمدي، رحمه الله، الفقيه النحوي المقيم بالدار البيضاء، ومعه جمع من أهل العلم، فيتذاكرون معه في وجوه القراءات وعللها، كل من زاويته.

نسأل الله أن يَمُنَّ عليه بالعفو والعافية، وأن يمتعه بالنظر إلى وجهه الكريم. وأن يجعل القرآن شفيعا له، وآخذا بيده إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

آمين والحمد لله رب العالمين.

بقلم: عبد الحق الخياط.

(1) خرَّج هذا الفقيه (سي بوصخور) آلافا من الطلبة .وقد بارك الله له في عمره ،فقضى في المسجد الذي كان يحفظ فيه القرآن ، ويدرس القراءات أزيد من 75 سنة، كما ذكر لنا أحد أبنائه السيد الأمين. وكنت قد زرته أنا والسيد أحمد الغيلاني بمنزله، في أواخر حياته، فذكر لنا أنه ما زال يستطيع أن يقلع الخطأ (الخصارة) في اللوح من تحت الصنصال.. فقد حباه الله بقوة النظر رغم كبر سنه الناهز المائة سنة!!، فكان نظره أقوى من نظرنا نحن الصغار! وهذا من نور القرآن وكثرة الاشتغال به. رحمه الله رحمة واسعة.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق