مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

السيرة النبوية والحياة اليومية للمسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام

على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما.

 

                                                                            بقلم الباحث: عبد الفتاح مغفور*

أما بعد :

فإن أهمية دراسة السيرة النبوية وفقهها، ليس مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، أو سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث، وإنّما الغرض منها؛ أن يتصوَّر المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسّدة في هديه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن……الخ

والقارئ لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد فيها صورة  للمثل الأعلى في كلّ شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه، ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثله الأعلى في ناحية من نواحي الحياة، فإنه يجد كل ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أعظم وجه من الكمال. ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها إذ قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[1]

وكما أن القارئ لها يتجمّع لديه  أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصّحيحة، سواء ما كان منها متعلِّقا بالأمور الدينية من: عقيدة، وأحكام وأخلاق، ودعوة إلى الله، أوبالأمور الدنيوية: كالحياة الاجتماعية، والاقتصادية و غير ذلك.

وسأقتصر  على الحديث في هذا المقال على العنصرين الآتيين:

-أهمية دراسة السيرة النبوية في الحياة الاجتماعية

-أهمية دراسة السيرة النبوية في الحياة الاقتصادية

أولا: أهمية دراسة السيرة النبوية في الحياة الاجتماعية:

أ ـ  كيفية تعامله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم

قد سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريقة فريدة في كيفية تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، ستظل نبراسا لكل من أراد الاهتداء بهديه سالكا طريقة مليئة بالمواقف التي تَجَلَّى فيها حلمه عليه الصلاة والسلام وصبره على الأذى من أجل المحافظة على العلاقة الاجتماعية.

ومن ذلك لما نزل قوله عز وجل:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[2] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: “أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد”، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)[3]”[4].

 انظر موقف أبي لهب العجيب من النبي صلى الله عليه وسلم يصدقه أولا، ثم يكذبه ويسخر منه، بل إن مجيئه ابتداء وتلبيته لنداء النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تصديقه، لكنه لم يتمالك نفسه حتى نال من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

و الأعجب من ذلك هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أبي لهب، فلم يرد عليه ؛ لأنّه يعلم يقينا إِنْ ردّ عليه فسينقسم الناس إلى قسمين: قسم مؤيد لأبي لهب، مستنكرين رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم بحكم موقع أبي لهب النَّسَبي، فهو عَمُّه، وعمُّ الرجل صنو أبيه[5]، وقد يَعُدُّ بعضهم ذلك الرد تطاولا من النبي على عمِّه، وقسم مؤيد للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يفسد الهدف الذي من أجله كان الاجتماع، وهو دعوتهم إلى الله، وإقامة الحجة عليهم فآثر السكوت عليه الصلاة والسلام، مفوضا أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فحاشا ولا صخابا، فتولى الباري جل وعلا الرد على أبي لهب، فأنزل في شأنه:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)[6]

ومن الأمثلة على ذلك أيضا : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة من الهجرة لفتح خيبر، وكانت معقل اليهود بعد إجلاء بني النضير إليها، فلما وصلها صلى الله عليه وسلم، حاولت اليهود قتله صلى الله عليه وسلم بطريقة حقيرة تنم عن خبثهم ومكرهم، فعن أنس رضي الله عنه: “أن امرأة[7]  يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: “ما كان الله ليسلطك على ذاك”، قال: أو قال: “عليّ” قال: قالوا ألا نقتلها؟ قال: “لا”[8]

فانظر إلى سماحته  لم يأمر صلى الله عليه وسلم بقتلها مع أنها اعترفت بجريمتها وتم الظفر بها، ومع ذلك عفا عنها؛ لأنّ الإسلام دين السماحة والعفو.

والغاية من ذكر هذه الأمثلة هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يحاول جاهدا تجنب المصادمة والمواجهة مع القبائل القرشية في المرحلة المكية، وحرص على تألفهم بعد الهجرة مرورا بقصة الحديبية عندما قال لهم: “يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة …”[9].

وهكذا تتجلى سماحة الرسول في تألُّف الناس والتودد إليهم، والصفح عن مسيئهم؛ لتقوية آصرة الروابط الاجتماعية في الإسلام.

ب ـ  كيفية تعليمه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة وتربيته لهم

إذا كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حريصا على تألف الناس للدخول في الإسلام، فإنّه كان أشد حرصا على تعليم من أسلم منهم بالرفق واللين في حالة حدوث تصرفات من بعضهم بسبب جهلهم بتعاليم الإسلام، أو لقربهم من العهد الجاهلي وعاداته السيئة، من ذلك: قصة الأعرابي[10] الذي قدم من البادية ممتطيًا بعيره حابسًا بوله حتى قدم المدينة، بل وحتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه؛ إذ بهذا الأعرابي ينيخ بعيره، ويتوجَّه إلى ناحية من نواحي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام أعين الناس يرفع ثوبه ويجلس ليتخلص من بوله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه منظر يثير الدهشة، سلك طريقا طويلة لم يجد مكانا يتبول فيه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لذلك أثار فعله هذا حفيظة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا ليمنعوه وينهروه، ولكن الرجل استمر في بوله غير عابئ بتلك الصرخات التي تعالت عليه من جوانب المسجد تستنكر هذا الفعل، إلا أن النبي الكريم والمربي الحكيم أنقذ الموقف بقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة: “دعوه”.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يتبوَّل في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزرموه[11]  دعوه”  ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: “إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القَذَر، إنّما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن” أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه[12][13]  .

فانظر إلى هذا الفعل الغريب الذي صدر من الأعرابي، وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه، ليعلم الصحابة ومن بعدهم إلى يوم الدين الرفق واللين منه عليه الصلاة والسلام.

ج ـ كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشكلات الاجتماعية

إنّ التلاحم والترابط الاجتماعي في ظل العقيدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية يولِّد شعورا كبيرا في نفس المسلم، تجعله يعيش في حياة سعيدة طوال حياته؛ لأنّه فَقِه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”[14]  .

ومعلوم أن الروابط التي تجمع الناس تختلف من مجتمع لآخر، فهناك روابط مشتركة بين أمة وأخرى بسبب المصالح الدنيوية، فإذا فقدت تلك المصالح انتهت تلك الروابط، وقد تجتمع الروابط بسبب آصرة القربى النَّسبي أو العِرْقي، ولكن رابطة العقيدة تبقى بين المسلمين حتى تنتهي حياة الإنسان.

ولذلك حصر الله الأخوة والموالاة في المؤمنين فحسب، فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة)[15].

والنبي صلى الله عليه وسلم واجهته مشكلة كبيرة بعد هجرته إلى المدينة تتمثل في عدم وجود مأوى مناسب للمهاجرين، بسبب عدم تمكنهم وقدرتهم على شراء بيوت يسكنونها؛ لأنهم رضوان الله عليهم قد تركوا ثرواتهم في مكة، ولم يتمكنوا من أخذها بسبب مضايقة قريش لهم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أَنْ شرع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار اثنين اثنين. وكان من ضمن بنود المؤاخاة أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه ، بالإضافة إلى المواساة في كل أوجه الخير والمحبة.

وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في الامتثال لأوامره صلى الله عليه وسلم، وتجلى ذلك في حبهم وتفانيهم في مواساة إخوانهم المهاجرين، من ذلك قصة سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، عندما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين، وكان سعد بن الربيع من أكثر الأنصار مالا، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك…”[16]  ، وفي رواية أنه قال: “بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على السوق…”[17]

ثانيا: أهمية دراسة السيرة النبوية في الحياة الاقتصادية

أ ـ حث الإسلام على العمل والكسب الحلال

حث الإسلام على العمل والكسب، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه)[18] وقال سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[19] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اليد العليا خير من اليد السفلى…”[20]  .

وبما أن الإنسان مأمور بالعمل فلا بد أن يكون كسبه حلالا حتى يبارك الله له فيه، وذلك بالإخلاص في العمل والابتعاد عن الشوائب المحرمة كالربا مثلا، فإنّه ممحق البركة (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[21] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا…”[22].

 والاسلام يحث على العمل المدر في كل وقت وحين، ومما يؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة[23] ، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”[24]  ، وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”[25].

فهذه توجيهات نبوية وحث كريم للعمل على إعمار الأرض بالزرع حتى يأكل منه الإنسان والطير والحيوان، وإذا كان الإنسان قد أمر بالعمل ابتغاء للرزق، فإنّه قد أمر بالاقتصاد وعدم الإسراف فيه تحقيقا لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[26].

وأمر أيضا بعدم التقتير على حد قوله سبحانه وتعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)[27]

ومما يجب التنبيه عليه أن الإسلام الذي يأمر بإحياء الأرض ينهى أيضا عن الغلو في ذلك والإسراف فيه، فمن صرف جميع همّه ووقته وجهده في البحث عن المال فحسب يصبح عمله غلوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعينة[28]  ، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزع حتى ترجعوا إلى دينكم”[29].

ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الحديث يحث على العمل، وفي الوقت نفسه يحذر من الإسراف فيه.

ب ـ اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمجال الاقتصادي

أدت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق أهل المدينة[30]  .

لكن النبي صلى الله عليه وسلم عالج ذلك بنظام المؤاخاة والتكافل الذي شرعه بين المهاجرين والأنصار حيث كان من بنوده أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، وتقبل الأنصار رضي الله عنهم ذلك تقبّلا حسنا، واستمر الحال حتى نسخ التوارث بعد معركة بدر بنزول الآية الكريمة: (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)[31]

وعندما نقض بنو النضير العهد وأجلاهم  النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، كانت أموالهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط للأنصار شيئاً إلا سماك بن خرشةـ أبا دجانةـ وسهل بن حُنيف؛ لأنّهما كانا من أشدّ الأنصار فقراً[32] ، وكان إعطاء تلك الأموال للمهاجرين عن طيب خاطر الأنصار، وبذلك تحسنت الظروف الاقتصادية للمسلمين المهاجرين في المدينة، وتقاربت مستويات المعيشة بينهم وبين الأنصار.

وبما أن زراعة الأرض كانت من أهم الموارد في العصر النبوي ـ أو على الأقل في بداية العصر النبوي ـ  فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على استغلالها جيدا حتى يكثر الإنتاج ليسد حاجة الناس، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستان نخل للأنصار، فوجدهم يؤبرونه، فقال:”ماذا لو تركوه؟ ” فترك القوم تأبير النخل، فلم تحمل ذلك العام، فراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “عليكم بما كنتم تصنعون، فإنما قلت لكم ولا أعلم”[33]  .

وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه التجربة فجعل إصلاح الأرض إلى أهلها، وبهذا يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها، ولا يحول دون الاستفادة من تجارب الغير شيء أبدا، ولذلك لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم خيبر أقرهم على إصلاح الأرض وزراعتها على أن يكون ثمرها بينه وبين أهلها بالتساوي[34]  .

وانتعش الاقتصاد في المدينة، وزاده انتعاشا إقامة الأسواق التجارية بها، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة سوق مجاور للبقيع[35]  ، ثم نقلها إلى غربي المسجد النبوي[36]  .

وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأسواق وما يجري فيها من بيع وشراء، ومراقبة ذلك مراقبة شديدة، حتى لا تجلب إليه البضاعة الرديئة إلا إذا عُرِّفت، وإذا عرف عن هذه الأسواق عدم التطفيف في الكيل، وعدم الغش والكذب والخداع أتاه الناس من كل صوب.

وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط كثيرة للبيع والشراء والسلع المستوردة، كل

ذلك مبثوث في كتب الفقه.

هذا، بالإضافة إلى ما كان يأتي المسلمين من غنائم وزكاة وخراج، حتى تحول المجتمع المدني خاصة في أواخر العهد النبوي إلى مجتمع يمكن أن يكون قد استغنى عن الآخرين بما عنده.

ومما يجدر ذكره أن المسلمين بالإضافة إلى بيعهم وشرائهم في أسواقهم الخاصة إلا أنهم كانوا يعرضون بضاعتهم في أسواق اليهود ، كما أن اليهود أيضا كانوا يشاركون المسلمين في أسواقهم بالبيع والشراء بالبضائع التي لا يجيدها غيرهم كأنواع الأسلحة وأنواع الحُلي، ولا سيما بنو قينقاع الذين اشتهروا بذلك.

والحاصل أن سيرة النبي صلى الله عليه تجلت تجليا واضحا، في جميع مجالات الحياة، فكانت نبراسا للأمة تستضيء بنورها، وترشف من معينها الذي لا ينضب، فلا يبحث عن شيء من مناحي الحياة إلا وله أصل في سيرته صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

***************************

جريدة المصادر والمراجع:

-القرآن الكريم

-أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين، محمد  بن محمد العواجي نشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

-الخراج، يحيى بن آدم القرشي، تصحيح وشرح: أحمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة،، ط2 بدون تاريخ.

-سنن أبي داود،تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.

-السيرة النبوية لابن هشام(ت: 213هـ)، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ط2، 1375هـ ـ 1955 م

-شرح صحيح مسلم للنووي، (ت:676هـ)، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ط2، 392

-صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل (ت:256هـ). الطبعة الهندية.

-صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، (ت:261هـ).تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت

-الطبقات الكبرى، لابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري، (ت:230هـ)، دار صادر، بيروت، 1388هـ

-فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت، 1379

القاموس المحيط، للفيروزابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، (ت:817هـ)،مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1407هـ  

-مسند أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة ـ القاهرة، الأحاديث مذيلة بأحكام شعيب الأرنؤوط عليها.

-النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (ت:606هـ)، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر الزواوي، المكتبة العلمية، بيروت.

-وفاء الوفاء، للسمهودي، علي بن عبد الله الحسيني، (ت:911هـ)، مطبعة الآداب والمؤيد، مصر، 1326هـ.

*************

هوامش المقال:

[1]الأحزاب من  الآية: 21

[2] الشعراء:213

[3]  المسد:1ـ2

[4]أخرجه البخاري في صحيحه (1 /2435) كتاب العلم، باب [وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك] رقم: (4770)،  ومسلم  في صحيحه (1 /192)كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى”وأنذر عشيرتك الأقربين” رقم: (204) واللفظ للبخاري.

[5] جزء من حديث، أخرجه مسلم في صحيحه (2 /676) ، باب في تقديم الزكاة ومنعها رقم: (983) وغيره.

[6] المسد الآيات:1ـ3 .

[7] اسمها: زينب بنت الحارث، أخي مرحب، وهي امرأة سلاَّم بن مِشْكم، ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (2/ 201) .

[8] صحيح مسلم(4 /1721)، كتاب السلام، باب السم رقم: (2190)

[9]سيرة النبوية ابن هشام (2 /308ـ309)

[10]اختلف في اسم هذا الأعرابي، فقيل: ذو الخويصرة، وقيل: عيينة بن حصن، وقيل: الأقرع بن حابس، انظر: الفتح (1 /323ـ324)

[11] لا تُزْرموه: بضم التاء وإسكان الزاي، وبعدها راء، أي: لا تقطعوا عليه بوله. النووي مع مسلم (3 /190) .

[12] فَشَنَّه عليه: أي صَبَّه. شرح النووي على مسلم (3 /193)

[13]أخرجه مسلم في صحيحه (1 /236)كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذ حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها رقم (285).

[14]أخرجه البخاري في صحيحه (1 /20)كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم الحديث: (13)

[15] الحجرات من الآية: 10

[16]أخرجه البخاري في صحيحه(1 /1836) كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، رقم: (3781)

[17]  البخاري، في صحيحه (1 /1836)كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصاررقم: (3780)

[18] الملك:15  .

[19] الجمعة:10

[20]أخرجه البخاري في صحيحه (1 /653)كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى رقم: (1427)

[21] البقرة: 275

[22] صحيح مسلم في صحيحه (2 /703)، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم: (1015)

[23] الفسيلة: النخلة الصغيرة، القاموس المحيط للفيروزآبادي (1 /1042) مادة: فسل.

[24] مسند أحمد (3 /191) رقم الحديث (13004) قال الأرناؤوط: وإسناده صحيح على شرط مسلم

[25] مسند أحمد (3 /243) رقم (13579) قال الأرناؤوط: وسنده صحيح.

[26]الأعراف من الآية:29

[27] الإسراء من الآية:29 .

[28] العِينَة: أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. النهاية (3 /333).

[29]أخرجه أبو داود في سننه(2 /296)،كتاب الإجارة، باب في النهي عن العينة رقم (3462)

[30] أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين للعواجي (ص: 28)

[31] الأنفال من:76

[32]انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (3 /471ـ472) .

[33] الخراج ليحيى بن آدم (ص: 114) .

[34]سيرة ابن هشام (2 /356ـ357)

[35] وفاء الوفاء للسمهودي (2 /747ـ748) .

[36] فتوح البلدان، للبلاذُري (1 /15) .

*راجعت المقال الباحثة خديجة أبوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق