مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

«السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء» -4- محمد بن جابر القيسي أبو عبد الله الوادي آشي

الحمد لله رب الناس، مذهب البأس، والصلاة والسلام على محمد خير الناس، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة، التي قد يفقد فيها المرء أحدا من عائلته أو جيرانه أو أصدقائه، يبقى الصبر مؤنسا للمسلم في مصيبته، قال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ ١٥٤ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ ١٥٥ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَ»، ومما يؤنسه أيضا ما جاء في فضل من مات بالطاعون، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»، وورد فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وقد استشهد جماعة من أخيار القراء على مر التاريخ بالطاعون، وسأحاول في هذه السلسلة جمعَهم، والتعريفَ بهم من خلال هذه المقالات، وسميتها: 

«السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء»

-4- محمد بن جابر القيسي أبو عبد الله الوادي آشي(1)

شمس الدين محمد بنُ معينِ الدين جابرِ بنِ محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم بن حسّان، القيسيّ، أبو عبد الله، ابن أبي سلطان، الوادي آشي الأصل، التونسيّ المولد. ولد بها في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وستّمائة. 

الإمامُ، الفَقيهُ، المقرئُ، المحدِّثُ، الرَّحَّالُ، المالكيُّ. ثقةٌ مشهورٌ. شيخٌ ممتع، رحَّالٌ متقنٌ. من مشاهير القراء والمحدثين.

كان واسعَ الرواية مُكثرا، ضابطا لما رواه، ثقةً ثبتا، له عناية شديدة فى الأخذ عن الشيوخ والسّماع منهم، والتقييد عنهم، قيّد بخطّه أجزاء كثيرةً من تواليف المتأخرين وتقييداتِهم، لهُ معرفة بالنحو واللغة، والحديث ورجاله، وكان رحمه الله تعالى عَظيمَ الوَقار والأُبّهة، قويمَ السَّمت. وكان حسن الأخلاق، لَطيفَ الذَّات، وكان من العلماءِ العاملينَ.

أخذ القراءاتِ عن جماعة من الشيوخ، قال رحمه الله في برنامجه: « أما القرآن العزيزُ، وهو النُّور المبين، والذِّكر الحكيمُ، والفُرقان المنزَّلُ .. وقد أخذته عن جماعة من أشياخي، رحمهم الله تعالى، تلاوةً. 

ومن أجلِّهم الشيخُ، الإمام، الخطيب، أبو الفضل أبو القاسم بن أبي بكر الحضرمي اللَّبيدي، والشيخ المقرئ أبو العباس أحمد بن موسى الأنصاري البَطْرَنيُّ، والشيخ المقرئ جار الله تعالى أبو محمد عبد الله بن عبد الأحد الدِّلاصي.

أما الشيخ أبو الفضل اللبيدي، فقرأتُ عليه ختمتين من طريق الإمام أبي عبد الرحمن نافع بن أبي نعيم المدني؛ أولاهما برواية أبي سعيد عثمان بن سعيد بن عثمان المصري المعروف بورش، من طريق أبي يعقوب الأزرق عنه. والثانية برواية أبي موسى عيسى بن مينا الملقب بقالون، من طريق أبي نشيط محمد بن هرون عنه. وجمَعتُ عليه بروايتِهما من أول القرآن إلى قوله تعالى: «قَالَ أَلَمَ اَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِے صَبْراٗ» [الكهف: 74]، وانقطعتُ عن ملازمته للقراءة؛ للمرض القاطع بيني وبينه، رحمه الله تعالى، وجزاه خيرا..

إسنادُ قراءةِ شيخي الثاني، وهو أبو العباس البَطْرَنيّ، وقد تلوتُه عليه بالروايات السبع؛ روايةِ نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، إفرادا وجمعا، وجمعتُ ذلك كلَّه في ختمة واحدةٍ، ثم تلوته عليه برواية يعقوب الحضرميِّ، إفرادا وجمعا، في ثلاث ختمات..

إسنادُ قراءةِ شيخي الثالث؛ وهو أبو محمد الدلاصي فإني قرأت عليه بمكة شرفها الله تبارك ..»(2)، وأشار محقق الكتاب أن في المخطوط سقطا بمقدار ورقة على الأقل، لكن ذكر ابنُ الجزري أنه قرأ عليه لنافع، وابن كثير، ثم لأبي عمرو إلى أثناء الأنعام.

وورد أيضا في مصادر ترجمته أنه قرأ بالقراءاتِ السبعِ كاملا على أحمد بن الحسن بن الزيات.

كما أنه روى القراءات أيضا عن أبيه عن السخاوي. وحمل التيسير عاليا عن القاضي أبي العباس بن الغماز. وذكر في برنامجه أنه روى الحديث والقراءات عن إبراهيم الجعبري.

أقرأ بمصر والشام, قرأ عليه محمد بن أحمد بن اللبان، وإبراهيم بن أحمد الشامي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن إبراهيم بن شداد المعافري، والشريف محمد بن عيسى الحسني، وعلي بن أبي بكر بن سبع المكناسي، وحدث بالتيسير عنه خلق بالغرب والشرق.

قال الذهبي: «ودخل أقصى المغرب وعبر إلى الأندلس، وأقرأ القراءاتِ بتلك البلاد، واشتهر اسمُه، وكان من مشاهير القراء، قرأتُ عليه التيسيرَ، وأفادني أشياءَ نفيسةً، وكان تاجرا نبيلا متصوّنا، حجَّ وجاور غير مرة».

استكثرَ من الرواية، ونقَّب عن المشايخ، وقيَّد الكثير حتى أصبح جمّاعة المغرب، وراوِية الوقت.

سمِعَ الحديثَ بتونس من أبيه وغيره، وتفقّه على مذهب مالك، وصار يعدّ من الفقهاء المحدّثين. ورحل فسمع بمصر على جماعة، وكتب بخطّه كثيرا. وكان يقرأ قراءة صحيحةً فصيحةً، وخرّج وجمع، وقال الشعر.

قال الذهبيُّ: «قدِم علينا سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة، فسمِع من ابن الشيرازي، وابن الشحنة، وقرأتُ عليه كتاب التيسير، ثم رجع إلى تونس وجال في الأندلس، وانتهى إلى طنجة، ولقي الكبار، وتلا عليه طائفة».

سمع على عبدِ الله بن محمد بن هارون القرطبي الموطأ لمالك، رواية يحيى بن يحيى عنه، وعلى القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن الغماز «كتاب الاكتفا في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفا» بفَوت شمِلته الإجازة، والموطأ رواية يحيى بن يحيى، وكتاب التقصي لابن عبد البر، وحدَّث.

قال الخطيب ابن مرزوق: «وعاشرتُه كثيراً سفراً وحضراً، وسمعت بقراءتِه وسمعَ بقراءتي، وقرأت عليه الكثيرَ، وقيَّدت من فوائده، وأنشدني الكثير، فأول ما قرأت عليه بالقاهرة ..، وقرأت عليه بمدينة فاس، وبظاهر قسنطينة، وبمدينة بجاية، وبظاهر المهدية، وبمنزلي من تلمسان، وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي، وفيها الحديث المسلسل بالأولية ..، ثم قرأت عليه أكثر كتاب «الموطإ» رواية يحيى، وأعْجَلَه السّفر فأَتممتُه عليه في غير القاهرة، وحدثني به عن جماعة، ومعوَّله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي، وهو أحمد بن محمد بن حسن، والشيخ أبي محمد ابن هارون، وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب، بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني..

ثم قرأت عليه كتاب «الشفاء» لعياض، وحدثني به عن أبي القاسم عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح، عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي، عن أبي جعفر أحمد بن حكم، عن المؤلف، وحدثني به أيضاً عن قاضي الجماعة ابن أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم».

وقال الحافظ زين الدين العراقي: «حدث بمصر والشام والحجاز وبلاد الغرب، وكان قد انفرد بالديار المصرية بعلو الموطأ من طريق يحيى بن يحيى».

له تآليف حديثية منها: أربعون حديثاً أغرب فيها بما دل على سعة خطر، وانفساح رحلة، وله أسانيد كتب المالكية يرويها إلى مؤلفيها، والترجمة العياضية، وله تعاليق مفيدة.

ومن مؤلفاته أيضا: البرنامج المعروف، ذكر فيه شيوخَه، وما روى عنهم في شتى العلوم والفنونِ.

كتاب زاد المسافر وأُنس المسامر، ذكر فيه بلدانا دخلها وما فيها من أشياخ.

تقييد على القصيدة العروضية المسماة بالمقصد الجليل في علم الخليل للإمام أبي عمرو ابن الحاجب. وغيرها من المؤلفات الماتعة.

وكان شيخا فاضلا، أديبا، عفيفا، ظريفا، وأقبل على حال الأدب، وربما قرض الشعر. ومما نظمه بدار الحديث الأشرفية من دمشق، وقد رأى فيها تمثال نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبّله، وقال:

دار الحديث الأشرفية لى الشّفا           فيها رأت عيناى نعل المصطفى

ولثمته حتى قنعت وقلت يا       نفسى أنعمى أكفاك؟ قالت لى: كفى

لله أوقات وصلتُ بها المنى                من بعد طيبة ما أجلّ وأشرفا!

لك يا دمشق على البلاد فضيلة                  أيامك الأعياد لازمها الصفا 

ولكم بِجَيْرونَ جررت ولم أضف         ذيلا ولا برح هواى و ما اختفى

مات في ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالطاعون بتونس. قال ابن حجر: «قرأتُ بخطّ البدرِ النابلسيّ بلغَنا أنه قُتل شَهِيدا، كذا قال والدي. وقال غيرُه: إنّه مات مَطْعُونا، فكأنّه رأى من وصفه بالشّهادةِ فظنَّه قُتل».

  1.  مصادر الترجمة: برنامج الوادي آشي، معجم شيوخ الذهبي 2/180-181، معرفة القراء الكبار 3/1496-1497، الوافي بالوفيات 2/209، الديباج المذهب 2/299-301، ذيل التقييد 1/113، غاية النهاية 2/106، المقفى الكبير 5/258-259، تاريخ ابن قاضي شهبة، الدرر الكامنة 5/152-153، درة الحجال 1/102-103، نفح الطيب 5/200-202. 
  2.  برنامج الوادي آشي ص178-185.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق