مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء -16- برهان الدين إبراهيم بن لاجين الأغَرّي الرشيدي الشافعي

الحمد لله رب الناس، مذهب البأس، والصلاة والسلام على محمد خير الناس، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة، التي قد يفقد فيها المرء أحدا من عائلته أو جيرانه أو أصدقائه، يبقى الصبر مؤنسا للمسلم في مصيبته، قال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ ١٥٤ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ ١٥٥ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَ»، ومما يؤنسه أيضا ما جاء في فضل من مات بالطاعون، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»، وورد فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وقد استشهد جماعة من أخيار القراء على مر التاريخ بالطاعون، وسأحاول في هذه السلسلة جمعَهم، والتعريفَ بهم من خلال هذه المقالات، وسميتها:

«السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء»

-16- برهان الدين إبراهيم بن لاجين الأغَرّي الرشيدي الشافعي(1)

إبراهيم بن لاجين بن عبد الله، الأغرّي، الرشيدي، المصري، الشافعي، النحوي، العلّامة برهان الدين.

مولده سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

إمام، علامة، مقرئ، نحوي، بارع في العلوم، تصدّر بجامع أمير حسين مدة، وانتفع به الناس.

قرأ بالروايات على محمد بن أحمد الصايغ، وسبط زيادة، وقرأ عليه كشتغدي بن عبد الله، وروى عنه، ومات قبله بثماني سنين، ومحمد بن كشتغدي الزردكاش. قال ابن الملقن: «قرأت عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره برواية أبى عمرو بن العلاء من طريقيه وختمه أخرى برواية ابن كثير إلى سورة يس».

 سمع وحدّث ودرّس وأفتى، واشتغل بالعلم، وولي تدريس التفسير بالقبة المنصورية بعد موت الشيخ أبي حيّان، وتصدّر مدة، وعيّن لقضاء المدينة المشرفة فلم يفعل.

سمع الحديث من الأبرقوهي، والحافظ الدمياطي، وعلي بن الصواف، وغيرهم. وتفقّه على العلم العراقي، وأخذ النحو عن الشيخين بهاء الدّين بن النحّاس، وأبي حيّان، والعلم العراقي، والأصول عن الشيخ تاج الدّين البارنباري. والفرائض عن الشيخ شمس الدين الرواندي، والمنطق عن السيف البغدادي. وحفظ الحاوي، والجزولية، والشاطبية، وأقرأ الناس في أصول ابن الحاجب، وتصريفه، وفي التسهيل. وكان يعرف الطب والحساب وغير ذلك.

سمع على محمد بن أبي الذكر الصقلي، وعلى محمد بن هارون الثعلبي صحيح البخاري بقراءة محمد بن عبد الرحمن بن أبي شامة سنة ثمان وتسعين وستمائة بمشهد الحسين بالقاهرة. وعلى أبي المعالي أحمد بن إسحاق الابرقوهي معجمه تخريج الحافظ سعد الدين الحارثي.

انتفع به جماعة وتخرج به أئمة منهم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد العمادي. وممن أخذ عنه القاضي محبّ الدّين ناظر الجيش، والشيخان زين الدّين العراقي، وسراج الدين بن الملقّن.

قال الإسنوي: «كان فقيها، عالما بالنحو والتفسير والقراءات، طبيبا، خيرا، متوددا، كريما مع فاقة، متواضعا ماشيا على طريقة السلف في طرح التكلف».

قال الصفدي: «ولخطبته في النفوس تأثير، وللدموع لها على الخدود جري وتعثير، ترق له القلوب القاسية، وتتذكر النفوس الناسية. وعلى قراءته في المحراب مهابة وفصاحة، ولها إلى الجوانح جنوح وفي الجوارح جراحة. لم أرَ في عمري مثل اتضاعه على علو قدره، ولا رأيت ولا غيري مثل سلامة صدره. مطرح التكلف، راضٍ بالقعود عن الدنيا والتخلف، يحمل حاجته بنفسه، ولا يحتفل بمأكله ولبسه.

تخرج به جماعة وانتفعوا، ورد بمواعظة أهل الجرائم عن طريقهم واندفعوا.

وعرض عليه سنة خمس وأربعين وسبع مئة قضاءُ المدينة الشريفة وخطابتها فامتنع، وانخزل عن قبول ذلك وانجمع.

وله نظم إلا أنه ما أظهره، ولا كلف خاطره أن يؤلف جوهره، إما عدم رضى بما يأتيه منه، أو تورعاً عن قبوله ونفوراً عنه.

ولم يزل على حاله في أشغاله الطلبة، والإمامة والعمل على ما فيه خلاصه يوم القيامة، إلى أن سار إلى الآخرة، وصار بالساهرة ..

وقلت أرثيه:

ملتُ بعدَ البرهان للتقليد     في انسكاب الدموع فوق الخدود

ما أنا واثقاً بتسفاح دمعي       خان صبري الأمينُ بعد الرشيد

كيف لا تسفح الدموعُ على من      كان للطالبين خير مفيد

قال لما احتواه طاعونُ مصر        كم قتيل كما قتلت شهيد

فهو في قبره مع الحُور يلهو       ببياض الطلى وورد الخدود

ما تملت جفونه ببدور                    قبلها في براقع وعقود

يا عذولي على تعذر صبري       في مُصاب عدمتُه في الوجود

كان إن قام في الأنام خطيباً       علم الناس كيف نثر الفريد

ثم أجرى الدموع خوفاً ولو     أن قلوب العُصاةِ من جلمود

بكلام مثل السهام مصيبا        تٍ تشقّ القلوبَ قبل الجلود

حزنَ مستعمل الكلام اختياراً            وتجنبن ظلمة التعقيد

ما على زهده وفضل تقاة        علومس قد حازها من مزيد

أيها الذاهبُ الذي نحن فيه     في لظى وهو في جنان الخلود

لا ترع في المعاد حيث وجوه   الناس فيه ما بين بيض وسود

لك في موقف القيامة وجه      يخجل البدر في ليالي السعود

وثناءً كأنما ضُربَ العن                 بر فيه بماء وردٍ وعود

قنتعت أنفسُ البرية إذ غبت بع          يش مُعجل التنكيد

فسقى الله تربة أنت فيها       كل يوم مضي سحائب جُود»

توفي بالقاهرة شهيدا بالطّاعون في شوال أو في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

  •  مصادر الترجمة: طبقات القراء (الذيل) 3/1527، أعيان العصر 1/135-138، الوافي بالوفيات 6/105، طبقات الشافعية للسبكي 9/399، العقد المذهب ص429-430، ذيل التقييد 1/457، غاية النهاية 1/28، توضيح المشتبه 1/258، السلوك لمعرفة دول الملوك 4/93، المقفى الكبير 1/201، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 3/6-7،الدرر الكامنة 1/85-86، المنهل الصافي 1/184-185، حسن المحاضرة 1/508-509، بغية الوعاة 1/434، درة الحجال 1/195، شذرات الذهب 8/271.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق