وحدة الإحياءدراسات محكمة

السياق في تداوليات أبي إسحاق الشاطبي

السياق وجود سابق

في ترتيب الأوضاع بين الموجودات وأحيازها يحتل السياق بما هو إطار وحيز زماني ومكاني لتنـزل الأفعال والأقوال المحل المتقدم لأنه لا يستقيم في العقل قيام الموجودات بلا تحيز في السياق الذي يحتضنها ويضمها ويعطيها معنى. والمعنى هو شكلها الحي الذي يتكيف كل مرة مع السياق بحسب نوعه جامدا أو متحركا لازما أو متعديا منفتحا أو منغلقا.

والنصوص حين توجد أو بالأحرى حين تتعين في الوجود اللساني أو الكتابي بعد أن تنضج في وجودها الذهني الكموني تصير مقيدة بقيد السياقية لأنه شرطها الشكلي الذي به تصير ذات معنى تركيـبي لفظي أو خطي بعد استيفائها الشرط المضموني بتجوهر الفكرة في فِنَاء العقل. فالنصوص صامتة في دواخلنا حتى يخرجها بالنطق على شفاهنا سلطان البيان الشفوي ويؤبدها بالحروف والكتابة سلطان البيان الخطي.

ولئن كان للسياق هذا الدور التحديدي والمصيري للكائن المعنوي، فقد صار من اللازم الوجوبي في عمليات التفسير ضبطه وإدراكه كلاميا ومقاميا، وذلك بتحديد ملابساته وأطرافه ومفرداته من السوابق واللواحق التي تُكون في جملتها جسم المعنى وروحه. والتي من دونها تصير للكلمة المفردة محامل عديدة لا ترجح إحداها إلا بقرينة أو أثر دال.

 وبالنظر لأهمية السياق Context في دراسة وتحليل القول الطبيعي، نجد النظار قد أدركوا جيدا ما له من دور خطير في توجيه المعنى، فلا نكاد نجد مفسرا ولا أصوليا ولا لغويا إلا ويعتبر السياق في كل إجراءاته وتطبيقاته وعيا منه بما يكون لعناصر السياق من دور في إضاءة مجاهيل نصه، الذي هو مجمع أقوال طبيعية، لرفع غموضه[1]، ومن خالف في ذلك جانب وجه الصواب وهو حال العلماء النصوصيين أو الدلاليين الحرفيين في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية الذين مثّلوا البنيوية المغلقة ذات المرجع الظاهري. وقد عقد الزركشي في كتابه البحر المحيط في أصول الفقه مبحثا سماه “دلالة السياق”، وأورد كلاما جميلا فيه، وساق خلاف بعضهم في الأخذ بهذا الضرب من الدلالة، وقال “أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئا أنكره وقال بعضهم إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى”[2]، وذكر مثالا على ذلك خلاف الشافعي مع الإمام أحمد بن حنبل في قضية الراجع في هبته المعروفة فقهيا.

تداوليات الشاطبي

جعل الشاطبي، وهو أحد أبرز الأصوليين المجتهدين في القرن الثامن الهجري، يتحدث في كتابه الموافقات عن بعض ما يلزم أخذه في عملية التأويل من أدوات لتوقي الشرود في البحث عن الدلالة والمعنى، ومن جملة ما ذكره ونص عليه أن “علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطَبَيْن، وبحسب غير ذلك”[3]. وليس من شك في أن الشاطبي باعتباره مؤسس علم المقاصد، وهو علم يبحث في التداوليات الشرعية بخاصة، واع أشد ما يكون الوعي بقيمة المعطيات التداولية التي من جملتها أسباب النـزول في بناء تأويل مناسب وغير بعيد عن قصد المتكلم بالكلام. ودليل ذلك ما ذهب إليه حين تحدث عن القوة الإنجازية La force illocutoire التي يخرج إليها الاستفهام على سبيل المثال، فلفظه كما هو معروف واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها من المعاني التي تقتضيها السياقات. “ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال”[4]، أي المقتضيات السياقية.

وإذا تأملت “الأمور الخارجة” و”مقتضيات الأحوال” وجدتها تشكل وجودا موازيا أو سابقا لإطار الكلام المنجز أو الملفوظ، أو هي بعبارة أخرى كما يقول هالداي Halliday نص آخر، أو نص مصاحب للنص الظاهر، وهي بمثابة الجسر الذي يربط التمثيل اللغوي ببيئته الخارجية”[5].

يستعمل الشاطبي، هذا التداولي الكبير، لفظ “المساق” وهو يتحدث عن المنهجية الوسطية في التفسير، والتي يعتبرها المخرج الاستراتيجي لتجاوز إشكالات الإفراط والتفريط اللذين طبعا كثيرا من الإنتاج التراثي في مجال التأويل والتفسير. يقول منبها على ما يراه ضابطا: “المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف[6].

وإذا كانت تداوليات أبي إسحاق الشاطبي قد أولت عنايتها لأوجه التسييق contextualisation النصي برد النصوص بعضها على بعض، واعتبار القرآن كله نصا واحدا وقطعة واحدة، فإنها في المقابل أيضا اهتمت بوجه آخر من أوجه السياقية ألا وهو إلحاحها على المعاني التركيبية لا الإفرادية، وذلك لأن “الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية. فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود”[7]، ولهذا وجدنا عندهم أنه قد لا يعبأ بالمعنى الإفرادي إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه، بل ويعدون الاشتغال بالمعاني الإفرادية من باب التكلف المنهي عنه كما في حديث عمر، رضي الله عنه، عن معنى “الأَبّ” في صحيح البخاري من قوله تعالى:﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ (عبس: 31). أما إذا كان “فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبـي لم يكن تكلفا”، بل هو مضطر إليه كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَاخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ (النحل: 47)، فإنه سئل عنه في المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص ثم أنشده:

تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا *** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

فقال عمر: “أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم”[8]. والتمسك بالديوان ليس إلا تمسكا بالمرجع الوظيفي، وبقدرة الآلية الاستعمالية على تحديد المعنى، وهو ما نادت به مدرسة أكسفورد مع جلبرت رايل Gilbert Ryle، وتوملين S.E.Toumlin، واستراوسن P.F.Strawson، وجون أوستين John Austin، وفيزجنشتاين Wittgenstein الذي جاء في قولته الشهيرة “لا تسألني عن المعنى واسألني عن الاستعمال”[9]؛ إذ الاستعمال هو المحدد النوعي للمعاني التركيبية.

السياقية القرآنية وأزمة النصفية 

القرآن الكريم في المنهاج التأويلي التداولي للإمام أبي إسحاق الشاطبي كلام واحد، وبنية منسجمة متراصة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وهذه الواحدية أو الوحدة[10] البنيوية هي سر إعجازه من حيث تصهر ما ورد فيه من متعدد الأخبار والآثار والمعارف والحقائق والحكم والأحكام فلا تكاد تجد فيها تناقضا أو تضاربا إذا نظر إليها في سياق التكامل والتعارف والتآلف، “فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار”[11]. ومعنى ذلك عنده أن فهمه يتوقف بعضه على بعض بوجه من الوجوه، وذلك “أنه يبين بعضه بعضا، حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم. فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد”[12].

ومبدأ وحدة النص الجملية في مجال الدلالة، وتكامليته الملفوظية في مجال التداولية، يجعلنا نوقن بأن النسق المنهاجي لمشروع الشاطبي كان يتوخى بسط أفق عقائدي متناغم مع وحدة الكون في تعدده التركيـبي للدلالة على وحدة المصدر المُكَوِّن/الخالق. فيقع التوافق بين كتاب الله المنظور وكتاب الله المسطور في وحدة عجيبة، هذه الوحدة التي تتحقق بقيام المخلوقات جميعا لغاية واحدة وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[13]. ولهذا كان من لوازم التفسير لآيات القرآن والكون على حد سواء النظر إليها من منظار سياقي وشمولي مهيمن على ما تناثر من عناصر ومفردات وما توزع من مقاطع ووحدات.

وإذا علم هذا فليعلم أن النظرة النصفية أو الجزئية إلى الشيء – أي شيء كان لا تعكس حقيقة ذلك الشيء ككل، وذلك لأن النصف سيظل نصفاً، ومن هنا فهو ليس مخولا أن يحكم على الكل. يقول الشاطبي: “فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود. كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها”[14].

إن النظرة النصفية قد تجني أحيانا على الكل، وتحول الأمر إلى ضده، فاللوحة الزيتية الجميلة التي رسمتها يد فنان ماهر قد تتحول إلى منظر بشع عندما نغطي نصفها بالمنديل، والطبيب الذي لم يستوعب إلا نصف الطب قد يقع في أخطاء قاتلة تلقي بالذين يراجعونه بين أنياب الموت، ولذلك قيل: “أحيانا يكون الجهل المطلق خيراً من الفهم الناقص”، فعندما نجزئ كلمة “لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ” ونقتصر على المقطع الأول فإن شعار الإيمان هذا يتحول إلى كلمة كفر، وهكذا يكون نصف الشيء ضد ذاته في كثير من الأحيان. وماذا يحدث عندما نأخذ الجسم الحي ونحوله تحت ضربات المبضع إلى أجزاء متفرقة؟ ألا يعني ذلك تعطيله عن العمل؟

إن للسياق[15] أثرا كبيرا على مقصود دلالة المتكلم وأيضا على تحديد هوية العبارة[16]، ونقصد بـ”السياق” الجو العام الذي يحيط بالكلمة وما يكتنفها من قرائن وعلامات.

إن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة قد تحمل مدلولين متناقضين تماماً دون أن تختلف الكلمة في بنائها الداخلي، وإنما الذي تغير هو السياق والقرائن المحيطة. فقد يقول الأب لابنه: “افعل الأمر الفلاني” وهو يقصد المعنى الظاهري لهذه الكلمة، وقد يستخدم نفس الكلمة ويقصد بها التهديد الذي نستطيع اكتشافه من خلال القرائن الشبه لسانية paralinguistique[17]، وهنا ينقلب معنى “افعل” إلى معنى مناقض تماماً هو: “لا تفعل”.

وهذا هو، بالضبط، ما ينطبق على القرآن الكريم، فقد يستخدم القرآن صيغة الأمر ويقصد بها مدلولها الظاهر عندما يقول: ﴿اَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اليْلِ﴾ (الإسراء: 78)، وقد يقصد بها الإباحة عندما يقول: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ (المائدة: 3) عقيب الحظر في قوله: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ[18]، وقد يقصد التهديد عندما يقول: ﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ﴾ (الزمر: 14)، وقد يقصد التعجيز والتحدي عندما يقول: ﴿فَاتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه﴾ (البقرة: 22) أو عندما يقول على لسان نبي الله هود، عليه السلام، مخاطبا قومه الكافرين: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ (هود: 54)، وهلم جرا.

لقد استخدمت هذه الآيات جميعا في صيغة الأمر: “أَقِم”، “فَاصْطَادُوا”، “فَاعْبُدُوا”، “فَأتُوا”،”فَكِيدُونِي” فما الذي جعلها تعطي مدلولات مختلفة بل ومتناقضة أيضا؟ إنه السياق القرآني والقرائن الخارجية. وكما يقول بيار غيرو “والواقع أن الغموض الذي يلف العلامة المتعددة الدلالات يزول حين توضع في سياقها”[19].

وخلاصة هذا الكلام أن من لم يلحظ سياقية النص الحكيم وخروجها على مقتضى الظاهر في كثير من موارد القرآن الكريم لم يَأْمَنِ الغلط، بل كثيرا ما تجده منصرفا مع الوجه الظاهر تاركا لما يقتضيه السياق نافرا بفعله من المعنى المقصود محرفا الكلم عن مواضعه.

التأويل ومعرفة الأسباب السياقية

كل من يقرأ الشاطبي يجده لغويا تداوليا بما تعنيه العبارة من معنى، فهو ممن وقفوا دراستهم الأصولية والمقاصدية على تقعيد المعنى وضبطه، ورحل في كتابيه الموافقات والاعتصام رحلة طويلة يفتش عن مفاتيح الخطاب ويجربها، وإن كنا نعرف أن الكثيرين من حُفَّاظ الشاطبي يرفضون لفظ التجريب هذا لأنه لا يحيل عندهم إلا على الخبط والصدفة، ولا يرون فيه شجاعة المغامرة في بحث المقاصد التي هي ذات خلفية ميتافيزيقية وسيكولوجية أكثر منها أمبريقية، وكان ما انتهى إليه يوازي بكل جرأة، بل ويفوق في بعض الأحيان، ما انتهى إليه البحث التداولي الحديث في بعض جوانبه.

ومن بين شواهد وعي الشاطبي بقضية تدخل العناصر التداولية ووجوب استحضارها في سبيل تطويق المعنى والقبض عليه في نظريته المقاصدية ما نبه عليه من أن العادة جرت في نقل الكلام على نقل ألفاظه دون ملابسات تعاطيه وتداوله “وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط”[20]، فيفهم من ذلك أن المرويات تحمل في طيها معلومات تظل تنقصها مكملاتها مما يحمله السياق من قرائن تفيد في جلاء المعنى وصفاء الصورة، كما أن الجمل أو الملفوظات بلغة التداوليين تحتاج إلى التمام السياقي Contextual completeness؛ أي أن تكون الجملة أو الملفوظ غير كاملة في حد ذاتها، لكنها كاملة إذا أخذ سياقها بعين الاعتبار، والتمام السياقي عندهم في مقابل التمام النحوي Grammatical completeness.

ويقدم الشاطبي على ذلك أمثلة مما وقع بسبب التفريط في هذا الأمر والإخلال به في عملية التأويل، فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟[21] قال: يراهم شرار خلق الله، أنهم انطلقوا إلى آيات أنـزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. وهو أمر ناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نـزل فيه القرآن. أي جهل بأسباب الورود وحيثيات النـزول والشروط السياقية والمقامية لكلام المتكلم.

والحقيقة أن هذا الانحراف التأويلي لا يكون عن الجهل دائما بما تقتضيه استراتيجية التأويل من توجيه وحصر لاندفاع الدلالات، وتقييد لانجراف المعاني في الأنساق الرمزية، بل قد يَرِد على تجاهل المُؤَوِّل لهذه المعطيات التداولية الشرعية ذات الطبيعة الخارجية قصدا وعمدا لإخراج الكلام تأويليا إخراجا يخدم أغراضا خاصة بالمشتغل بعملية التأويل، من قبيل موافقة مذهبه أو معتقده أو الاحتجاج لرأيه وفكرانيته[22] بِلَيِّ أعناق النصوص وسائر الكلام ليسعف في هذا الضرب من الاستخدام[23].

ولتجنب الاستخدام بما هو تأويل فاسد يلح الشاطبي على أمرين:

الأول: أن معرفة أسباب التنـزيل لازمة لمن أراد علم القرآن.

الثاني: أن أسباب التنـزيل شرط ضروري للحد من غلواء التأويل ومعين على تعقب المعنى؛ لأن أسباب النـزول بمنـزلة المقدمة السياقية للتنـزيل القرآني، وهو عين ما قصد إليه ابن تيمية حين قال “ومعرفة أسباب النـزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب”[24]. وهذا التوريث المنشور بطريقة منطقية هو من قبيل تضافر القرائن المعينة على التخصيص في محاله، وقد ذكر الزركشي[25] فوائد لمعرفة أسباب النـزول جعل منها:

1. معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

2. تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.

3. الوقوف على المعنى.

فمعرفة سبب التنـزيل على ما ذهب إليه الشاطبي “رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معرفة مقتضى الحال”[26]. ونشير بهذا الصدد إلى أن مقتضى الحال في تداوليات الشاطبي قصد به نصا عناصر خارج لغوية extralinguistique مثل “حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع”[27]. وهي أمور من طبيعة سياقية ومقامية تمنع حصول الجهل الموقع في الشبه والإشكالات والمورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال مما يوقع الاختلاف ويوقع في النـزاع. هذا النـزاع الذي لا محل له إذا عرف السبب، أو لنقل إذا شئنا الدقة يضيق ولا يتسع ما دامت هناك أسباب موجبة للاختلاف التأويلي، لأنه إذا عرف السبب تعين المراد كما قال الشاطبي[28].

غير أن الذي نذكره في هذا المحل أن الأسباب السياقية لتنـزل القرآن لا ينبغي النظر إليها ببساطة مخلة تحمل على الاعتقاد بأن الإشكالات التأويلية للنص القرآني تنحل بمجرد الإحاطة بها، وذلك لأنها تطرح إشكالين شديدي التعقيد:

أولهما من طبيعة كيفية: إذ إن أسباب النـزول كانت وما تزال موضوع اختلاف وتباين في الروايات، لها عند كل فريق ما يكفي لتوجيه كل رواية أو تعضيدها، والأصل في هذا الإشكال قد ينحل نسبيا إذا ربطنا عملية التنـزل بموافقات أحوال الصحابة على تباين بينهم في الفضاءات المكانية والحالية التي ساوقت تنـزلات الوحي.

ثانيها من طبيعة كمية: حيث إن أسباب النـزول على ما بينها من اختلاف لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من النقول السياقات التي حفظت من العلم ولم تضع، ودليل ذلك ما بين أيدنا من كتب هذا الصنف من العلم فهي محدودة عددا وعدة. مما يجعل مقدار الاستثمار محدودا لهذا الركن السياقي في عمليات التأويل، فعن ابن سيرين قال: “سألت عبيدة عن شيء من القرآن، فقال اتق الله، وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنـزل القرآن”[29].

وحاصل الكلام في هذا الموطن أنه على قدر ارتفاع نسبة علم المستدل/المؤول بسياقية النـزول ترتفع نسبة شفافية النص القرآني دلاليا، وعلى قدر ضعف نسبة علم المستدل/المؤول بسياقية التنـزيل ترتفع كثافة النص القرآني وتضعف شفافيته. والشفافية transparence، والكثافة opacité، حكمان عارضان باعتبار الناظر في القرآن أي المستدل/المؤول، وليستا من الوصف الملازم للقول الإلهي[30].

من تطويق الدلالة إلى تضييق التأويل

يسلم الشاطبي في بحثه الجاد من أجل وضع استراتيجية لتطويق الدلالة أن التفسير بالرأي جاء فيه ما يذمه وما يقتضي إعماله، فقد نقل عن الصديق أنه سئل في شيء من القرآن، فقال كلمته الشهيرة متحرجا “أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟”. هذه الكلمة صارت بعده مركب كل هياب من النظر في القرآن طوال تاريخ ركودنا الثقافي ووهننا الحضاري.

وروي عن الصديق نفسه فيما نقله الشاطبي أنه سئل عن معنى “الكلالة” فقال: “لا أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. الكلالة كذا وكذا”. فهذان قولان نسبا إلى الصديق اقتضيا إعمال الرأي وتركه في التفسير، وهما من غير شك لا يجتمعان. لكن الشاطبي يحاول أن يجد توجيها لما بين يديه من الروايات بدل تكذيبها أو إسقاطها. فهو لا يميل بحكم طبيعته التربوية والنفسية إلى الرفض خاصة إذا تعلق الأمر بروايات تتعلق بصحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين هم محل إجلاله وتعظيمه.

للخروج من هذا الموقف يميز الشاطبي تمييزا علميا على المستوى المدلولي وأخلاقيا على المستوى الدالي بين ضربين من التفسير بالرأي:

– تفسير محمود: وهو الجاري على ما تعارفته العرب في كلامها، وما حقق مبدأ الانسجام الداخلي للنص القرآني بحيث لا يضاد حيثية قرآنية ولا ينقض قاعدة رسالية. فالمتلقي الذي يستلم رسالة القرآن يتوجب عليه حل رموزها بأن يعيد تركيب معناها انطلاقا من العلامات التي تحويها في سياقها الكلي الشامل، إنها عملية بناء تأويلي أشبه بالمثال الذي قدمه بيار غيرو حين تحدث عن لعبة البازل Puzzle، وهي لعبة ورق معقدة نسبيا يتطلب إعادة بناء المعنى الصورة فيها وضع القطع المتباينة الأحجام في مواقعها المناسبة بواسطة تعيينات تحدد الخطوط والألوان والأشكال التي تحتويها[31].

– تفسير مذموم: وهو غير الجاري على موافقة العربية أو الأدلة الشرعية والماضي في التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة، وجعلوا منه أيضا: حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة، والخوض فيما استأثر الله بعلمه، والقطع بأن مراد الله كذا من غير دليل، والسير مع الهوى والاستحسان، وما إلى ذلك من صنوف الميل في تحميل النصوص ما لا تحتمله من غير دليل ولا برهان. وحَدُّ هذا الضرب من التفسير مستنبط من قول الباري سبحانه: ﴿قُلْ اِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 31)، ففي الآية تشنيع صريح على من يقول ويتأول النص القرآني، كلام الله، بغير علم. وقد جعله من غير شك من المحرمات، ولهذا كان التحفظ والتوقي منهج السلف فيما نقل عن أكثرهم. وهذا الاحتياط منهم وإن فهم منه تضييق مسالك التأويل، فإنه عند الشاطبي لا يقوم دليلا على قطعه بالمرة وإن كان التحوط أولى وذلك لأربعة أسباب:

أولها؛ الحاجة للتفسير قائمة في كل وقت وحين ولابد للقول في القرآن ببيان معناه واستنباط أحكامه وتفسير ألفاظه وفهم مراده وإلا تعطلت الأحكام وهذا غير ممكن، فلابد من القول فيه بما يليق ويناسب.

ثانيها؛ أنه لو كان التفسير توقيفيا للزم أن يبينه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وينقل إلينا، والواقع أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يفعل ذلك، بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرا مما يدركه أهل الاجتهاد باجتهادهم.

ثالثها؛ أن منهج الصحابة أولى بالاحتياط المانع تمام المنع للتأويل، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ونقل إلينا من جهتهم تفسير معناه فلا يلزم التوقيف.

رابعها؛ أن النظر في القرآن من جهتين: من جهة الأمور الشرعية ومن جهة الأمور اللغوية أو ما سماه الشاطبي بالمآخذ اللغوية، فلئن كانت الأولى يُسَلَّم فيها التوقيف وترك التأويل والرأي جدلا فإنه لا يسلم في الثانية.

 إن هاجس تطويق الدلالة القرآنية عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي جعله في الحقيقة وإن ظهر عليه التحرر للحظة في استعراض الأقوال على تضاربها والمواقف التأويلية على تقابلها، فإن المتمعن في مدونته “الموافقات” ليكتشف مع صحبته إلى النهاية بلوغه حدود إغلاق باب التأويل وليس تضييقه، وقد يلتمس القارئ الموضوعي للشاطبي عذره إذا فهم سياق مشروعه في مواجهة الفكر التأويلي الباطني بشتى أنواعه؛ هذا الفكر الوهمي الذي سعى إلى إخراج النص القرآني عن ظاهره وسياقه، وادعى أن المقصود من النص هو ما وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام من غير اعتبار لأسباب تنـزل القرآن السياقية ولا لشروطه وضوابطه اللغوية[32].

 وإن المتفحص لمشروع الشاطبي ليعلم مقدار ما يحمله هذا الرجل، على ما أوتي من عبقرية خارقة، من إجلال لمنهج التأسي، فعنده أن العقل والنقل إذا تعاضدا “على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يَسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يُسرِّحه النقل”[33].

ومتى تبينت لنا آفاق وحدود السياق في تداوليات الإمام أبي إسحاق الشاطبي، وأبعاد إهمال هذا المكون الخطيرة على عملية الفهم والتأويل التاريخيتين، أدركنا كيف يتأسس المنهاج التأويلي على خطوات يخرج بها المستدل/المؤول من النص إلى مقتضياته ولوازمه وإطاره الخارجي ثم يعود إليه في حركة جدلية يكون النص فيها هو مركز الجذب والطرد في آن واحد.

الهوامش


1. قام الدكتور خضير محمد أحمد في كتابه الدلالة والتركيب بدراسة جيدة عن اهتمام كل من المفسرين والأصوليين والبلاغيين بالسياق، فليراجعها من رغب فيها: 139.

2. الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه: 6/52.

3. الموافقات في أصول الشريعة: تحقيق عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت لبنان: 3/347

4. الموافقات: مصدر سابق، نفسه.

5. يراجع: يوسف نور عوض، علم النص ونظرية الترجمة، دار الثقة للنشر والتوزيع بمكة المكرمة، ط1، ه1410هـ ـ ص29.

6. الموافقات: م، س، 3/413.

7. المصدر نفسه، 2/87.

8. الموافقات، م، س، 2/87-88.

9. Wisdom. Ludwig Wittgenstein. 1934-1937. Mind Vol.LX. N°242.1952.P25.

10. ممن عالج قضية وحدة النص القرآني ومسلمة الانسجام في الخطاب الأصولي معالجة دقيقة عالمة وربطها بالإنجاز النقدي والتداولي المعاصر الدكتور يحيى رمضان في كتابه: القراءة في الخطاب الأصولي، الإستراتيجية والإجراء -عالم الكتب الحديث الأردن: 2007.

11. الموافقات، م، س، 3/420.

12. المصدر نفسه، 3/420.

13. المصدر نفسه، 3/415.

14. المصدر نفسه، 3/415.

15. درس أستاذنا الدكتور إدريس سرحان في أطروحته مسألة السياقية -باعتبارها خاصية للألسنة الطبيعية- بتفصيل وميز بين كل من السياقين المقامي والمقالي بما لا يدعو للزيادة على قوله، فليرجع إليه من أراده. ينظر، طرق التضمين، 25-28.

16. يعتبر ميشال فوكو في حفريات المعرفة أن هوية عبارة ما تخضع لمجموعة من الشروط والحدود التداولية، التي تفرضها عليها مجموع العبارات الأخرى التي ترد ضمنها تلك العبارة، والميدان الذي تستخدم فيه والأدوار المنوطة بها، 96.

17. من قبيل النبر والتنغيم اللذين يساهمان في توجيه وتلوين وتكييف المعنى.

18. راجع الكتب الأصولية في مبحث “الأمر عقيب الحظر”.

19. بيار غيرو: السيمياء، ترجمة أنطوان أبي زيد، منشورات عويدات بيروت-باريس، ط1، 1984، 39.

20. الموافقات، م، س.

21. هم غلاة الخوارج في إثبات الوعد والوعيد والخوف على المؤمنين من التخليد في النار، بالرغم من وجود الإيمان وهم ضد المرجئة في النفي والإثبات والوعد والوعيد. ومما انفردوا به القول بأن مرتكب الكبيرة مشرك، بينما يذهب الخوارج بصفة عامة إلى أنه كافر وليس بمشرك. وسموا الحرورية نسبة لقرية حروراء التجأ إليها الخوارج عقب مغادرتهم معسكر الإمام علي بالكوفة، وكان عددهم اثني عشر ألفا. ينظر المقريزي: الخطط، 2/350.

22. هذه ترجمة للدكتور طه عبد الرحمن في مقابل (إيديولوجية).

23. يراجع في مفهوم الاستخدام Utilisation باعتباره تأويلا مغرضا وغرضيا عند الناقد الإيطالي امبيرطو أيكو كتابيه: القارئ في الحكاية، وكتاب حدود التـأويل.

24. ابن تيمية: مقدمة في التفسير(ضمن الفتاوى)، 13/339.

25. الزركشي: البرهان في علوم القرآن، 1/117. وفي أسباب النـزول تفاصيل كثيرة يرجع إليها في مظانها من حيث درجة روايتها، واعتبارها في التخصيص حيث العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكذا الخلاف في عبارات المفسرين حول الآية نـزلت في كذا يقصد سببها فعلا أم أنه مشمول لمفهومها، ومن حيث تعدد أسباب النـزول…ينظر، مقدمة في التفسير لابن تيمية: 13/338 وما بعدها.

26. الموافقات: 3/347.

27. المصدر نفسه.

28. المصدر نفسه، 3/348.

29.المصدر نفسه، 3/350.

31. Ahmed Moutaouakil. La Théorie de la signification dans la pensée linguistique arabe. Rabat; Faculte des lettres. P151.

31. بيار غيرو: السيمياء، م، س، 19.

32. الموافقات، م، س، 1/86

33. المصدر نفسه، 1/87.

Science

د. إدريس مقبول

المركز التربوي الجهوي بمكناس

متخصص في اللسانيات التداولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق