مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

السماع المحمود من خلال كتاب قواعد الأحكام في إصلاح الأنام للعز بن عبد السلام

      [فائدة] اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات حال يختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حالة الراجين، وسماعه سماع الراجين، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين، وسماعه سماع الخائفين، ومن حاله حال المحبة إذا ذكر حال المحبوب أو ذكر به كانت حاله حال المحبين، وسماعه سماع المحبين، ومن كانت حاله حال المعظمين الهائبين فذكر العظمة أو ذكر بها كانت حاله حال المعظمين، وسماعه سماع الهائبين المعظمين، ومن كانت حاله حال التوكل فذكر تفرد الرب بالضر والنفع، والخفض والرفع، والتقرب والإبعاد، والإشقاء والإسعاد، فذكر ذلك أو ذكر به في السماع كانت حاله حال المتوكلين المفوضين، وسماعه سماعهم، وقد ينتقل كثير من الناس في السماع بين هذه الأحوال فينتقل من حال إلى حال على حسب الإمكان بحسب اختلاف التذكير، وقد يغلب الحال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حال الأول عليه.
ومن أعمال القلوب: الخضوع والخشوع. وكلاهما ذل في القلوب والرضا والصبر والتوبة والزهد
فأما الرضا: فهو سكون النفس إلى سابق القضاء من غير نكير على القاضي بما قضى، وأما الصبر فهو حبس النفس عن الجزع، والرضا جزء منه لأنه

      سكون بما جرت به المقادير، ولا يشترط أن يرضى بالمقضي به إلا إذا كان المقضي به خيرا، فإن كان المقضى به معصية فليرض بالقضاء وليكره المقضي به، لأن القضاء حكم الله والمقضي هو المحكوم به. وهذا كالمريض إذا وصف الطبيب الدواء المر أو قطع اليد المتآكلة فإنه يرضى لوصف الطبيب وقضائه وإن كره المقضي به من مرارة الدواء وألم القطع. وأما التوبة فأقسام: أحدها: التوبة من ترك الواجبات وفعل المحرمات. القسم الثاني: التوبة من ارتكاب المكروهات. القسم الثالث: التوبة من الشبهات. القسم الرابع: التوبة من ملابسة المباحات إلا ما تدعو إليه الضرورات أو تمس إليه الحاجات. القسم الخامس: التوبة من رؤية التوبة ورؤية جميع ما يتقرب به إلى ذي الجلال ومعنى ذلك ترك الاعتماد والاستناد إلى شيء من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، إذ لا ينجي شيء من ذلك صاحبه؛ فإنه لا اعتماد في النجاة إلا على ذي الجلال، وقد قال عليه السلام: “لن ينجي أحدكم عمله” قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل”.

      وأما الزهد فأقسام: أحدها: الزهد في الحرام. القسم الثاني: الزهد في المكروهات. القسم الثالث: الزهد في الشبهات. القسم الرابع: الزهد في المباحات إلا ما تدعو إليه الضرورات أو تمس إليه الحاجات. القسم الخامس: الزهد في رؤية الزهد والاعتماد عليه. والفرق بين التوبة والزهد وإن كانا من أعمال القلوب: أن التوبة ذات أركان ثلاثة: أحدها: الندم على ما فات من الطاعات. والركن الثاني: العزم على أن لا يعود إلى تلك المعصية. الركن الثالث: الإقلاع عن المعصية المتوب عنها في الحال. ويتحقق الزهد بقطع تعلق القلب عما ذكرناه من المحرمات والمكروهات والمباحات، وليس الزهد عبارة عن خلو اليد من المال، وإنما الزهد خلو القلب عن التعلق به، فليس الغنى بمناف للزهد، فإن قيل أيما أفضل حال الأغنياء أم حال الفقراء؟ فالجواب أن الناس أقسام: أحدها: من يستقيم على الغنى وتفسد

      أحواله بالفقر، فلا خلاف أن غنى هذا خير له من فقره. القسم الثاني: من يستقيم على الفقر ويفسده الغنى ويحمله على الطغيان فلا خلاف أن هذا فقره خير من غناه. القسم الثالث: من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر كالرضا والصبر، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشكر الملك الديان، فقد اختلف في أي حالي هذا أفضل فذهب قوم: إلى أن الفقر لهذا أفضل. وقال آخرون: غناه أفضل وهو المختار، لاستعاذته صلى الله عليه وسلم، من الفقر، ولا يجوز حمله على فقر النفس لأنه خلاف للظاهر بغير دليل، وقد يستدل لهؤلاء لأن الرسول عليه السلام كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله عز وجل بحصون خيبر وفدك والعوالي وأموال بني النضير. والجواب عن ذلك أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يوم إلا كان أفضل من الذي قبله، فإن من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان أمسه خيرا من يومه فهو ملعون أي مطرود مغبون، وقد ختم آخر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بالغنى ولم يخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقلل حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه السلام يقول: “ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك” أراد بالفضل ما فضل عن الحاجة الماسة كما فعل صلى الله عليه وسلم، فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق فبذل الفضل كله مقتصرا على عيش مثل عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا امتراء بأن غنى هذا خير من فقره. ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: “أتى فقراء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب ذوو الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يعتقون ولا نجد ما نعتق، ويتصدقون ولا نجد ما نتصدق، وينفقون ولا نجد ما ننفق؟ فقال: “ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه أدركتم به من كان قبلكم وفتم به من بعدكم ؟” قالوا: بلى، قال: “تسبحون الله تعالى وتحمدونه وتكبرونه على إثر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة” فلما صنعوا

      ذلك سمع الأغنياء بذلك فقالوا مثل ما قالوا، فذهب الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد قالوا مثل ما قلنا؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام” وقوله عليه السلام: “اطلعت على الجنة فرأيت أكثرها الفقراء واطلعت على النار فرأيت أكثرها النساء” فإن ذلك محمول على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء، إذ لا يتصف من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله تعالى بما فضل من عيشه مقدما فضل البذل فأفضله، إلا الشذوذ النادرون الذين لا يكادون يوجدون، الصابرون على الفقر وقليل ما هم، والراضون أقل من ذلك القليل. ويحقق هذا أنه عليه السلام كان قبل الغنى قائما بوظائف الفقراء فلما أغناه الله قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنيا فقيرا صبورا شكورا راضيا بعيش الفقراء جوادا بأفضل جود الأغنياء.

      ومن أعمال القلوب احتقار ما حقره الله من الدنيا وأسبابها، وتعظيم ما عظمه الله من الفقر والذل والمسكنة والخضوع والخشوع والغربة وعدم الجاه والمال: لأن الغنى بالمعارف والأحوال أفضل وألذ من الغنى بالجاه والأموال، والبذل لله عز وجل، والفقر غنى، والغربة لأجله استيطان. لأن العبد إذا كان عند سيده فهو في أفضل الأوطان، وإن عظم ونأى بجانبه فأعظم به من خسران.

  • القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في اصلاح الأنام: عز الدين بن عبد السلام، دار ابن حزم، ط. الأولى 1424م/2004م، ص 492-495.
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق