مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

السبب الموجب لتخصيص أئمة القراءة بالاقتداء بهم في اختيارهم دون غيرهم وشرائط الاختيار في القراءة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه.

وبعد:

فقد قال ابن مجاهد في كتابه في القراءات(1): «وحَملَة القرآن متفاضلون فِي حمله، ولنقلةِ الحروف منَازِل فِي نقل حُرُوفه وَأَنا ذَاكر مَنَازِلهم، ودالٌّ على الْأَئِمَّة مِنْهُم»، ثم ذكر أوصاف كل منزلة، فقال: «فَمِن حملَة القرآن المعرب الْعَالم بِوُجُوه الْإِعْرَاب والقراءات، الْعَارِف باللغات ومعاني الْكَلِمَات، الْبَصِير بِعَيْب الْقراءات، المنتقد للآثار، فَذَلِك الإمام الَّذِي يفزع إليه حفّاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين». فهذه الأوصاف التي يتحلى بها أهل هذه المنزلة، هي التي خوَّلت للأئمة السبعة أو العشرة، أن يُقتصر على اختيارهم دون غيرهم من أئمة القراءات، وقد ذكر الداني بعض أوصافهم في المنبهة، فقال:

والآن فلْنبدأْ بذكر السبعة                        أئمة القرآن أهل الرفعة

والفضل والنسك وأهل الصدق   والعلم والفهم وأهل الحذق(2)

ثم قال رحمه الله بعد ذكرهم، وذكر أوصاف كل واحد منهم:

فهؤلاء السبعة الأئمة             هم الذين نصحوا للأمة

ونقلوا إليهم الحروفا          ودوَّنوا الصحيح والمعروفا

وميزا الخطأ والتصحيفا    واطّرحوا الواهي والضعيفا

ونبذوا القياس والآراء                    وسلكوا المحجة البيضاء

في الاقتداء بالسادة الأخيار   والبحث والتفتيش للآثار(3)

وقد سئل أبو الفضل الرازي عن سبب اقتصار الناس على ما اختاره الأئمة الخمسة، يعني: نافعا المدني، وابن كثير المكي، وأبا عمرو البصري، وعاصما الكوفي، وابن عامر الشامي، فأجاب رحمه الله(4): «فلأنَّ هؤلاء كانوا أسدَّ طريقة في القراءة في الأمصار الخمسة، التي كانت أمهات مدائن الإسلام، ومَجمع الصحابة والعلماء من التابعين، بعد أن الصحابة انتشروا وانتقلوا إليها، إلى المغازي والرباط. فلما توجّه في كلِّ مصر منها واحدٌ من هؤلاء، وفاق مَن في مصره في القراءة وشرائط الاختيار، رَضِيَهُ أهلُ مصره وائتموا به. فأما أقرانهم فلم تكن حروفُهم نقاوةً كحروفهم؛ إما لغرابة، وإما للخروج عن رسم المصحف، وإما لشُذوذه، وإما لضَعف الأثر، في غير ذلك من الإعلال التي التي لحقت اختيارَ مَنْ عداهم من أقرانهم في أمصارهم، وذلك على حسب التوفيق والحرمان. فلذلك أُخّر كثير من حروف الأسلاف، واتُّخذ في مثل ذلك بحروف الأخلاف».

وقد ذكر رحمه الله قبل هذا الكلام شرائط الاختيار، فقال(5): «فإن قيل: فبأي شرط يجوز للراوي أن يختارَ ما شاء من الحروف، ويجرِّدَ من مأثوراته فيؤتمَّ به؟

فالجواب: أنه إذا كان عدلاً في دينه، ثقةً في روايته، ذا حفظٍ للقرآن في وقت أخذه ونشره، وقد قيَّد ما نقله من الرواية بخطه، لم ينسَ شيئا منه بعدما عرف وجهه، ولم يتصحَّف عليه ما أخذه، بعدما كان عارفا بخط المصاحف على اختلافها، لم يخرج عن مرسومها فيما اختاره بحال، ولا اتَّبع الشواذ والغرائبَ من خطها، ومع ذلك يكون ممن يَعرف الصحيح من السقيم، والتواترَ من الآحاد، مع كلام العرب، ووجوه التفسير والمعاني والإعراب؛ فإذا اختار كان شعاره أولا تصحيح الأثر، ثم مرسومَ المصحف، ثم المشهورَ منه، فإذا جاز هذه الشرائط؛ فهو الذي يُقتدى به في اختياره. والله أعلم».

وقال ابن القرّاب(6): «قال قائل: فما بال هؤلاء الأئمة خصوا بالاقتداء بهم في اختيارهم القراءات دون من سواهم من أئمة القرآن؟

قيل: إنما خُصَّ هؤلاء بالإمامة والاقتداء بهم؛ لشدّةِ عنايتهم بطلب القراءات، وأخذهم القراءة عن الأئمة الثقات المشهورين لفظا، وتلقينا، عدلا عن عدل، إلى أن اتصلت بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع تمسكهم بالسنة، واجتهادهم في طلب القراءات عن أهلها، وعنايتهم بها، ورضى أئمةِ العلم في وقتهم بإمامتهم، وتسليمهم فقهاء الدين لهم ذلك، وقراءتهم عليهم، والشهادة لهم بالقيام بها حقّ القيام، واقتداء الناس بهم، وسكون أنفسهم إلى ما أخذوا عنهم، ومبالغتهم في سلوك طريق الورع، والتمسك به، وزهدهم في الدنيا، وإعراضهم عنها، وثقتهم، وأمانتهم وصدقهم فيما أخذوا وأدوا، وتقدّمهم في علم اللغة، والنحو، والمعاني؛ فلهذه المعاني خّصُّوا بالاقتداء بهم دون غيرهم».

وقال مكي بن أبي طالب(7): «فإن سأل سائل فقال: ما العلة التي من أجلها اشتهر هؤلاء السبعة بالقراءة دون من هو فوقهم، فنسبت إليهم السبعة الأحرف مجازا، وصاروا في وقتنا أشهرَ من غيرهم، ممن هو أعلى درجة منهم، وأجلّ قدرا؟.

فالجواب:

أن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرا في الاختلاف، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات، التي توافق المصحف، على ما يسهل حفظه، وتنضبط القرّاء به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة وحسن الدين، وكمال العلم، قد طال عمره، واشتهر أمره، وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرأ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وَجّه إليه عثمان مصحفا، إماما هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر؛ فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة. كلهم ممن اشتهرت إمامته، وطال عمره في الإقراء، وارتحال الناس إليه من البلدان».

  1.  السبعة ص45.
  2. المنبهة، البيتان: 205 و206.
  3. نفسه، الأبيات: من 256 إلى 260.
  4. معاني الأحرف السبعة ص436.
  5. نفسه: ص428.
  6. الشافي في علل القراءات ص172.
  7. الإبانة ص86-87.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق