مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الرياء” آفة من آفات القلوب المهلكة… أسبابه وبواعثه وطرق التخلص منه

     إن سلامة القلب وتطهيره من صدإ الذنوب وتصفيته من الأمراض الباطنية التي تحبِط الأعمالَ، وتُذهِب بركتَها كالحسد والعجب والرياء والكبر.. هو سبب الفلاح وتحقيق السعادة الباطنية والطمأنينة القلبية في الدنيا والآخرة:  يقول الله عز وجل “يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” [الشعراء: 88-89].

   وسلامة القلب تستوجب خلوه من الأمراض الباطنية المهلكة، ومجاهدة النفس حتى يتسنى لها تجنب المعاصي ما ظهر منها وما بطن وتستقر بذلك فيه محبة الله تعالى وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه والتضرع إليه، وتحي فيه محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة خلق الله أجميعن، يقول ابن القيم رحمه الله “ومفتاح حياة القلب: تدبر القرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب”[1].

   والآفة القلبية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا المقال هي آفة “الرياء” وهي كلمة مشتقة من الرؤية وهي أن يعمل المرء العمل ليراه الناس، ويحصل على إعجابهم ومدحهم، وهي من الآفات الباطنية التي تحدث عنها علماء التربية الصوفية وعدوها من بين الأمراض القلبية المهلكة التي تحجُب نور الإيمان عن القلوب، وتنفي عنها قيم الإخلاص، والذي يعد من الركائز الأساسية في طريق القوم وبه تقبل الأعمال الخالصة لوجه الله تعالى صافية فانية في محبته ومحبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الخطابي  -رحمه الله تعالى: “مَنْ عَمِلَ عملاً على غير إخلاصٍ، وإنما يُريد أنْ يراه الناسُ ويسمعوه؛ جُوزِيَ على ذلك بأنْ يُشهره الله ويَفضحه، ويُظهر ما كان يُبطنه”[2].

   وورد في ذم آفة “الرياء” آيات وأحاديث كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى تقدست أسماؤه في معرض وصف المرائين وذكر أحوالهم: “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ” [الماعون، 4-7]، وقوله تعالى: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا” [ النساء، 141]. وقوله تعالى: “وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ” [التوبة، 54]. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُومِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ” [البقرة: 264]. وقوله تعالى جلت قدرته: “لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” [آل عمران: 188].

    وورد في السنة النبوية الشريفة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية”[3]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به”[4].

     ويُحكى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا يُطأطئ رقبته فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب وإنما الخشوع في القلوب[5]، وقد قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: “احذر واحدة هي أهل للحذر قال وما هي: قال: إياك أن تخشى الله وقلبك فاجر”[6].

حقيقته ومفهومه

    عرف الإمام الحارث بن أسد المحاسبي حقيقة الرياء بأنه: ” حب الدنيا وحب المحمدة من الناس على الفعل الحسن… وعلامة المرائي فيه ثلاث خصال أن ينشط في الملأ ويكسل في الخلاء، ويحب أن يحمد على جميع أموره”[7]. ويقول الفضيل بن عياض في بيان ذلك: “ترك العمل لأجل الناس هو الرياء والعمل لأجل الناس هو الشرك”[8]. ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: “الرياء فهو الشرك الخفي، وهو أحد الشركين، وذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة وحب الجاه من الهوى المتبع، وفيه هلاك أكثر الناس فما أهلك الناس إلا الناس”[9]. وقال أبو الأشعث: “دخلنا على ابن سيرين فوجدناه يصلي فظن أنا أعجبنا بصلاته فلما انفتل منها التفت إلينا فقال الرياء أخاف”[10].

أسبابه وبواعثه

   ومن أعظم أسباب الرياء ودوافعه: حبُّ لذة الحمد والثناء، أو الفرار من الذم، أو الطمع في ما في أيدي الناس[11]. ويذكر الإمام المحاسبي أن من بين أسباب الرياء: “هو ما كان منها عن الرياء خاصة لا عن غيره فإنها تورث خللا منها المباهاة بالعلم والعمل والتفاخر بالدين والدنيا”[12].

في بيان الدواء الذي يطهر القلب من آفة الرياء

     يقول الإمام عماد الدين الأموي في بيان الطرق والوسائل التي تدفع عن القلب آفة الرياء: “واعلم أن دفع أسباب الرياء يكون بأمور منها: تذكر النفس بما أمر الله تعالى به من إصلاح القلب وإخلاص العمل وبما قد حرمه المرائي من التوفيق، ومنها خوف مقت الله تعالى إذا أطلع على قلبه وهو منطو على الرياء، ومنها ما يفوته من ثواب الإخلاص في الآخرة وما يلحقه من عقابها، ومنها تقبيح تحبيبه للناس”[13]، وقد جاء في كتاب مختصر منهج القاصدين لابن قدامة بأن الرياء محبط للأعمال، وأنه سبب لمقت الله تعالى، وأنه من المهلكات، وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته وفي معالجته مقامان:

أحدهما: “في قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه، والثاني في دفع ما يخطر منه في الحال”[14].

ويقول أبو عبد الله بن سالم البصري: “سمعت أبا عبد الله بن سالم يقول يزول عن القلب ظلم الرياء بنور الإخلاص وظلم الكذب بنور الصدق”[15].

   والى جانب هذه الأمراض التي تحجب القلب عن معرفة الله تعالى وتمنع الإخلاص في الأعمال يذكر لنا الإمام أبو حامد الغزالي أن هناك أصنافاً من الخلق قد حجبوا بمحض الظلمة التي هي سبب في اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء، وقد صنفهم إلى صنفين:

الصنف الأول: وهم الملا حدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهم الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا.

   والصنف الثاني: هم الذين اشتغلوا بأنفسهم ولم يفرغوا لطلب السبب أيضا بل عاشوا عيش البهائم فكان حجابهم نفوسهم الكدرة وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشد من الهوى والنفس ولذلك قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاهُ” [سورة الجاثية، الآية: 23]،

     وقد قسم الإمام الغزالي هذا القسم إلى مجموعة من الفرق سنذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

     فرقة زعمت أن غاية الطلب في الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات، وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم وملبس فهؤلاء عبيد اللذة يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادات ويذكر الغزالي أن هذه الفرقة محجوبة بمحض الظلمة.

      أما الفرقة الثانية فهي ترى أن غاية السعادات في كثرة المال واتساع اليسار؛ لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها ويذكر أن هَمَّ هذا الصنف هو جمع المال واستكثار الضياع والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض وهم محجوبون كذلك[16].

        كما أن الشريعة الإسلامية أكدت في مجمل مصادرها التشريعية على أهمية طهارة القلوب من الآفات الباطنية المذمومة، لتحل محلها الصفات الحميدة، وجعلت ذلك من بين الأولويات الضرورية في سبيل صفاء القلوب ونورانيتها وجعلها في منزلة الإخلاص عكس آفة الرياء الذي تنفي عمل الإخلاص.

   ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان الاهتمام بطهارة القلوب بُغية الارتقاء بالسلوك الإنساني إلى أعلى مراتب الصفاء المنشود. ذلك أن الأصل في السلوك الصحيح والقويم هو صحة القلب وسلامته من كل الآفات والعلل، والكشف عن خباياه ودسائسه المهلكة.

عافانا الله وإياكم من الرياء ورزقنا الإخلاص في الأعمال

يتبع….

[1] زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيَّم  الجزء 4 تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر 1418ه/ 1998م.

[2] تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي هو كتاب في شرح الحديث، ألفه عبد الرحمن المباركفوري، كتاب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة الصفحة: 48، طبعة جديدة صحيحة ومنقحة ضبطها وصححها خالد عبد الغني محفوظ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1971.

[3] سنن ابن ماجة كتاب الزهد باب الرياء والسمعة ص: 682. ضبط أحاديثه أحمد شمس الدين الطبعة الأولى 1423/ 2002.

[4] سنن ابن ماجة كتاب الزهد باب الرياء والسمعة ص: 682.

[5] إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، (3/ 296). دار المنهاج للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1432هـ/2011م.

[6] العقد الفريد، للإمام أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، (3/ 168). تحقيق عبد القادر عطا الطبعة الأولى دار الكتب العلمية.

 [7] الوصايا للحارث بن أسد المحاسبي، ص: 262. الطبعة الأولى 1406هـ/1986م، دار الكتب العلمية.

 [8] مدخل إلى التصوف الإسلامي أبو الوفاء التفتزاني، ص: 83، دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الثالثة: 1004هـ/ 1979م.

[9] بداية الهداية للإمام أبو حامد الغزالي، ص: 86. دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشت مكتبة القرآن القاهرة 1985م.

[10] العقد الفريد، للأمام أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ج: 3، ص: 168. تحقيق عبد القادر أحمد عطا الطبعة الأولى دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

[11] مختصر مناهج القاصدين، تأليف الإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي علق عليه سعيد الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط (ص: 274) مكتبة دار البيان دمشق مؤسسة علوم القرآن للطباعة والنشر.

[12] الرعاية لحقوق الله  للحارث بن أسد المحاسبي تحقيق عبد القادر أحمد عطا الطبعة الرابعة 1405هـ/1985م، ص: 223.

[13] حياة القلوب في كيفية الوصول للمحبوب لعماد الدين الأموي، ج: 2، ص: 61. على هامش كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي.

[14]  مختصر منهج القاصدين ص: 241.

[15] طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن بن الحسين السلمي ص: 313. تحقيق مصطفى عبد القادر أحمد عطا الطبعة الأولى 1419 / 1998 م دار الكتب العلمية.

[16] مشكاة الأنوار للإمام أبي حامد الغزالي، ص: 85-86. تحقيق أبو العلا عفيفي، طبعة القاهرة 1383ه/1964م، دار القومية للطباعة والنشر.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق