مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

الديمقراطية كقيمة إنسانية

يثير الحديث عن الديمقراطية مجموعة تساؤلات وخاصة حينما يعمد الباحثون إلى تأصيل هذا المفهوم حيث يرى فيه البعض مفهوما وسلوكا حكرين على المجتمع الأثيني ومن ثمة المجتمع الغربي كوريث لثقافة  وقيم المجتمع الإغريقي القديم . ومهما كان الأمر واختلفت التسميات فإن الديمقراطية تبقى قيمة إنسانية كونية . فما هو مدلول هذه القيمة ؟ وما نصيب منظومة القيم الإسلامية منها ؟ وكيف أسس الإسلام لما يرتبط بهذه القيمة كسلوك ؟
الديمقراطية كما هو معلوم كلمة يونانية الأصل، مركبة من شقين: (ديموس) و معناه الشعب، و (كراتيس) و معناه السيادة، فيكون معنى اللفظين معا: سيادة الشعب أو حكم الشعب 1 ، أو هي كما يقول مونتسكيو 2 : “حكم الشعب أو من يمثلونه وفق قواعد نيابية خاصة ” 3.
لا شك أن هذا المفهوم الذي ارتبط في الأذهان بالعديد من القيم التي ناضلت من أجلها الشعوب، لم يكن من السهل بلورته في نظريات و قوانين يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
فتاريخ الحكومات الديمقراطية سواء اليونانية أو الرومانية التي كانت أول من نادت شعوبها بالديمقراطية، لم تشهد أي واحدة منها تطبيقا حقيقيا لهذا النظام.فقد كان يقصد بالحكم الديمقراطي ” غير حكم الفرد المطلق، و غير حكم الأشراف، و غير حكم الكهان، و غير حكم القادة العسكريين، و ما عدا ذلك من ضروب الحكم التي ليس للشعب فيها نصيب. فهو إذاً حكم فُهِمَ منه أنه حكم لا يستبد به فرد واحد، و لا طبقة واحدة ”  4.
فالديمقراطية في اليونان القديمة هي من ” قبيل الإجراءات أو التدبيرات السياسية التي تُتَّقى بها الفتنة، و يستفاد بها من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص. و لم تكن هذه الديمقراطية مذهبا قائما على الحقوق الإنسانية ” 5.
لم يكن أحسن حالا منه في روما التي قامت فيها ثورة الشعب أكثر من مرة ” فلم يتقرر في دساتير المجالس الرومانية أن تتساوى جميع الطبقات في حقوق الانتخاب وحقوق الحكم” 6.
مع استطراد الأحداث، سواء في المدن مع العمال أو في القرى مع الفلاحين، لم تقم الديمقراطية على الحق الإنساني، ولكنها كانت “إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية” 7.
وكان للتطور الاقتصادي تأثير هام على تطور مفهوم الديمقراطية، حيث بدأ طرح مفهوم المذهب النفعي، وتحقيق السعادة الفردية التي عبر عنها جون ستيورت ميل 8 بقوله إن: “صواب أي عمل من الأعمال، إنما يُحكم عليه بمقدار ما يسهم في زيادة السعادة الإنسانية، أو التقليل من شقاء الإنسان، بصرف النظر عن السداد الأخلاقي لقاعدة ما…” 9.
مع تشابك التيارات الفكرية، تبلورت ديمقراطية كان من أهم مبادئها أو قيمها: الحرية، والمساواة، والسعادة، والفردية، والسيادة للشعب.

1. الحرية:
 يبين جون ستيورت مفهومها فيقول: “وجوهر الحرية يقوم أساسا على الانطلاق الذي يحمل الأفراد على السعي وراء مصالحهم أيان يريدون، وكيفما يبتغون ما داموا لا يتعرضون بالأذى للغير، فالفرد سيد نفسه وبدنه وعقله، ولا تعاني الإنسانية من حرية ينطلق فيها الناس كما يحبون، كما تعاني من تكبيلهم بقيود يفرضها  الغير”10.
ولحماية هذه الحرية يرى مونتيسكيو أنه لكي “تثبت الحرية لابد من الاستعانة بالقوانين المدنية والجنائية التي تبين لكل فرد ما له وما عليه، كما يستعان بالدين والروح الديني في تهذيب الأخلاق وتمسك الأفراد بالفضيلة التي هي في إطاعة القوانين”11 .
إلا أن هذه الحرية لم تكن في نظر مونتسكيو تصلح لكل الشعوب، فهي تقتصر على قوم دون قوم “إن الحرية لتبدو في بعض الحيان غير متفقة مع حالة بعض الشعوب التي لا تستطيع تحملها، و التي لم تتعود على التمتع بها، فالهواء النقي إذاَ يضر أحيانا بمن كانوا يعيشون في أماكن تكسوها المستنقعات”12 . بل إنه يقر بنظام العبودية حيث يرى أن “استرقاق العبيد السود من إفريقيا ضرورة لا بد منها لإنجاز المشروعات الكبرى التي يتطلبها الإقتصاد الأوربي” 13، في حين أنه يتحامل على الرق في أوربا و لا يقره.

2.المساواة:
 تعني المساواة عدم التمييز بين الأفراد بسبب الأصل أو اللغة أو العقيدة. إلا أن النظام السياسي و الاقتصادي الذي قام على نظام الاسترقاق و الذي يعبر عن التفاوت الطبقي بين أفراد الشعب حيث تسود طبقات السادة و العبيد، و الشرفاء و الأغنياء و الفقراء، لم يكن ليسنح بوجود مساواة بين مختلف الطبقات في ظل الإمبراطوريات القديمة. و في إطار الإصلاحات السياسية، صيغت نظريات تسعى إلى تحسين أوضاع الطبقات الوسطى، فنادى بعض الإصلاحيين كأمثال جون لوك، و مونتيسكيو بالمساواة 14 للمواطنين أمام القانون. لكن هذه المساواة لم تكن تعني استقلال الإرادة، وإنما كانت مساواة في الخضوع لقانون يطبق على الفرد دون أن يكون قد شارك في صنعه. فهي إذن مساواة تابعين دون المس بالسادة الحاكمين.
ولم ترق هذه الإصلاحات مع الثورة الفرنسية إلى ما كان يتطلع إليه الشعب حيث كانت تستثني من المواطنة النساء والفقراء. وكان يجب انتظار الجمهورية الثانية للحصول على الاقتراع العام، وانتظار الجمهورية الثالثة للحصول على تنفيذ القرار فعليا 15.
وكمثال على هذا القرار إعلان نابليون بقوله في 1804: “يجب تذكير النساء بصراحة تامة بواجب الخضوع للرجل الذي يصبح الحاكم في مصائرهن” فعليها إطاعة الزوج، ويمكن إعادتها إلى منزل الزوجية بالقوة، “وهو وحده الذي يمارس السلطة الأسرية والحصول على إذنه شرط أساسي لقبول المرأة في أي مهنة. وهو من يدبر أموالها الخاصة. ولا يحاسب جزائيا إلا إذا سجن زوجته بالمنزل. وقد ألغي الطلاق نهائيا عام 1816. وكان يجب انتظار 1944 حتى يتم الاعتراف وللمرة الأولى للمرأة الفرنسية بحق التصويت والترشيح على قدم المساواة مع الرجل” 16.

3.السعادة:
 وهي خلاف التعاسة يقول كانط بصددها: إن للوجود هدفا آخر أهم بكثير خُلق العقل من أجله، وليس من أجل السعادة”17 .
أما هوبز فيرى أن “التنافس هو الذي يدفع الإنسان إلى تحصيل أكبر قدر من اللذة والسعادة للحفاظ على حياته. فغريزة الحفاظ على الحياة هي التي تجعل الإنسان يكافح من أجل تحقيقها حتى الموت متبعا في ذلك كل وسيلة يمكن أن تؤدي إلى هذا الهدف، سواء كانت هذه الوسيلة خُلقية أو غير خُلقية”18 .
ويرى بانتام19  أن: “المنفعة هي أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ومقياس السعادة في ما تحققه من لذة، ومقياس المضرة في ما تجلبه من ألم”20.

4.الفردية:
 من أهم رواد هذا المبدأ و المنظرين له هوبز و جون لوك و روسو. و قد كان لكل منهم نظريته التي مثلت مرحلة تاريخية أساسية في تطوير النظام الديمقراطي. هذه النظرية التي كان منطلقها العقد الاجتماعي.
فحسب هوبز: العقد الاجتماعي “هو اتفاق الأفراد فيما بينهم على التنازل على حقوقهم المطلقة لشخص يستطيع أن يتصرف بالإنابة عن كل فرد شارك في إقامة العقد. وهو تنازل أبدي لا رجعة فيه، ولا يعتبر الحاكم طرفا في العقد، لأنه بين رعايا ورعايا، وليس بين حاكم ورعايا. وتبعا لذلك لا يستطيع الحاكم أن يرتكب أي خرق للعقد لأنه لم يشارك في إقامته”21 . كما يرى هوبز أن هذا العقد “لابد له من قوة تلزم الجميع باحترام وتنفيذ بنوده… والشخص الذي تتوفر له هذه القوة هو الدولة وهي العملاق”22 .
أما جون لوك، فقد أكدت نظريته على “حق الملكية، وهو ما دعَّم تضخم رؤوس الأموال لدى الأفراد دون تركيزها في يد الدولة”23 . فكانت النتيجة أن هذه النظرية كرست النظام الرأسمالي الذي تطورإلى امبريالية حديثة.
وحاول روسو تطوير نظريته التي تدعو إلى عقد ميثاق يتنازل بموجبه الأفراد كل عن نفسه للجماعة حيث يقول:”يسهم كل منا بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة على كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل”24 .
فهذا التنازل هو الذي يؤدي حسب روسو إلى تعميم المساواة بين المواطنين، وبالتالي ضمان حريتهم، و بذلك سيكون الكل في وضع متساوي. فالتشريع إذا هو للمجتمع ككل، و التنفيذ يبقى للحكومة.

5.السيادة للشعب:
تعني فيما تعنيه لغة: من تقدم على غيره.
نشأت نظرية السيادة على يد جان بودان 25  سنة 1576 الذي عرَّف السيادة على أنها “سلطة عليا على المواطنين و الرعايا، فهي سلطة دائمة، ولا يمكن تفويضها أو التصرف فيها، كما لا تخضع للتقادم. وهي سلطة مطلقة لا تخضع للقانون، لأن صاحب هذه السلطة هو الذي يضع القانون ولا يمكن أن يقيد نفسه، كما لا يمكن أن يكون مسؤولا مسؤولية قانونية أمام أحد”26 .
وقد مر هذا المبدأ -السيادة- بعدة مراحل حسب مصدر سلطتها إلى:
– نظرية الحق الإلهي: التي تقول أن الحاكم يستمد سلطته في الحكم من الله مباشرة دون تدخل أي إرادة أخرى، ومن تم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر.
– نظرية الحق الإلهي غير المباشر: التي تتلخص في “أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة وأن السلطة وإن كان مصدرها الله، فإن اختيار الشخص الذي يمارسها يكون الشعب. فالله يرشد الأفراد إلى الطريق الذي يقوده إلى اختيار حاكم معين”27 .
ثم انتقلت السيادة إلى مفهوم الأمة مع الثورة الفرنسية. فهي كما قال روسو “الأمة ليست مجموعة الأفراد الذين يرتبطون بإقليم معين، والذين تجمعهم مثل أعلى مشترك… ولكن بالإضافة إلى كل ذلك هي شخص معنوي كبير له ضمير وإرادة متميزين عن ضمائر وإرادات الأفراد”28 .
وقد انتُقِد هذا المبدأ لأن سيادة الأمة تؤدي إلى السيادة المطلقة للدولة، كما تعطيها حق التشريع والحاكمية، بغض النظر عن هذا التشريع ومن ثم ظهر مبدأ سيادة الشعب حيث “تكون السيادة لكل فرد في الجماعة، وهي شركة بينهم، ومن ثم فهي تنقسم وتتجزأ”29 . إلا أن هذا المبدأ يكرس علاقة التبعية بين النائب والناخب كما أنه لن يحل المشكلة لأنه يجزأ السيادة ويقسمها بين أفراد الشعب.
بالوصول إلى هذه النتائج – انتقال السلطة إلى الشعب –  هل حققت النظريات الديمقراطية غايتها التي قامت عليها؟
إن الديمقراطية بكل ما جاءت به من نظريات، كان يفترض أن تعكس مُثلا وقيما أخلاقية، إلا أن الواقع بيَّن أنها تخلت عن هذه المثل والقيم على أرض الواقع لتصبح “أداة يتوصل بها إلى قرارات سياسية، يحرز الأفراد من خلالها على سلطة التقرير بواسطة التنافس والصراع من أجل الظفر بصوت الشعب”30 ، كما عبر عن ذلك جوزيف شمبتير31 . بل هي كما قال روجي جارودي “تقنية للحكم خاضعة لمعيار الفعالية وحده”32 .
والظاهر أن هذه النظريات لم تستطع أن تبلور المفهوم الحقيقي للعدالة الاجتماعي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني. فالديمقراطية التي قصد بها حكم الشعب لم تكن تعني إلا فئة ضئيلة من المواطنين يتمتعون بكل الحقوق في العهد اليوناني والروماني، ثم انضاف إليهم مجموعة من الأفراد يتميزون بنصيب من العلم أو المال، أو يؤدون حق الضرائب في عهد الثورة الفرنسية ثم شمل في القرن ما قبل الماضي العنصر الرجالي فقط، ثم اتسع ليشمل في القرن الماضي العنصر النسوي أخيرا. ويمكننا أن نلاحظ بهذا الصدد أن المرأة في أمريكا لم تحصل على حقها بالانتخابات إلا بعد أكثر من 125 سنة من وضع الدستور، وفي سويسرا نالت هذا الحق ي الستينات. كما أن سياسة الميز العنصري لم تكن تخلُ منها بعض الديمقراطيات حتى داخل مجتمعاتها ويظهر ذلك جليا في العلاقة بين البيض والسود في أمريكا وافريقيا الجنوبية.
كما أن سياسة الكيل بمكيالين في تعاملها مع القضايا الخارجية لا تخفى على أحد. بالإضافة إلى سيطرتها على بعض الشعوب وانتهاك القوانين الدولية.
فإذا ما قورن النظام الإسلامي بالنظام الديمقراطي، فيمكن أن نلاحظ على أن هذا النظام يمتاز بخصوصيته في المنهج والتشريع لأنه يقوم على مبادئ عامة تصلح لكل زمان ومكان دون إعطاء أساليب التنفيذ التي يمكن أن تتغير حسب الزمان والمكان وتتمثل هذه المبادئ والقيم في نقط أهمها:
– مصدر التشريع
– المسؤولية الفردية
– عموم الحقوق وتساويها بين الناس
– وجوب الشورى
– التضامن بين الرعية على اختلاف الطبقات
– وجوب بدل المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
– الطاعة لأولي الأمر

1. مصدر التشريع:
“هو الكتاب والسنة والإجماع، والقائم به الإمام ومن يستعين بهم من ذوي الرأي والمعرفة والخبرة. وهو سائر المفعول على كل فرد من أفراد الأمة” 33
قال تعالى: ” إن الحكم إلا لله” (الأنعام 58)
2. المسؤولية الفردية: اهتم الإسلام اهتماما بالغا بالأفراد التابعين له، وحرص على أن يتميزوا بصحة الجسد، وسلامة العقل، وطهارة الروح، كما سعى إلى تحقيق و نشر قيم تضمن للمجتمع تقدمه، وتساعده على رقيه.
فالفرد في المجتمع الإسلامي هو جزء منه له حقوق وعليه واجبات تضمنها له شريعة إلهية، تكفل له العيش الكريم، والإنفاق السليم والسلوك القويم بين أفراد يتنافسون على البر والتقوى لبناء مجتمع يسوده العدل والرحمة والمسؤولية.
قال صلى الله عليه وسلم:”كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته”34 .
هكذا نرى أنه لا يخل مكلف من المسؤولية، فهي تتوزع بين أفراد المجتمع كل حسب موقعه:
– فكل فرد مسؤول عن نفسه:
 قال تعالى: “كل نفس بما كسبت رهينة” (المدثر 38)، وقال: “إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها” (الإسراء 7) وقال: “ولتسألن عما كنتم تعملون” (النحل 93)، وقال: “اقرأ كتابك كفى لنفسك اليوم عليك حسيبا” (الإسراء 14).
– لا يحاسب إنسان بذنب إنسان:
 كل إنسان خلق مكلفا ومحاسبا على عمله، ولا يحمل تبعات غيره. قال تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” (الأنعام 164)، وقال: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى” (النجم39)

“والسعي في الإسلام هو تدرج في المصلحة تبدأ بالمصلحة الذاتية ثم تتدرج لتشمل مصلحة الأسرة ثم مصلحة المحيط الاجتماعي، ثم تنتهي إلى مصلحة المجتمعات المختلفة ليشمل الإنسانية عامة” في رباط عالمي يكفل بعضه بعضا.

 3.عموم الحقوق وتساويها بين الناس:
كان للإسلام السبق في إعطاء الحقوق وتقرير العدل الذي يضمن لكل ذي حق حقه، فلا فرق بين أبيض وأسود ولا عربي ولا أعجمي ولا غني ولا فقير إلا بالتقوى. قال تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات 13).
فالتقوى إذن هي أساس التمييز بين الأفراد.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى” (رواه أحمد والبيهقي). فمن حاد عن هذا ضل سواء السبيل. قال صلى الله عليه وسلم:”يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأَيُّم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها” (رواه البخاريومسلم).
ثم أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حيث قال: “يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مال لا أغني عنك من الله شيئا” (رواه البخاري ومسلم). فلا أحد يدفع عن الآخر شيئا دون الله، ولا يمنع عنه شيئا أراده الله، فعمل كل فرد هو مقياس قيمته.
قال صلى الله عليه وسلم: “من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه” (رواه مسلم).
فالناس كلهم سواسية أمام الحقوق والواجبات، ولأن الإسلام جاء لضمان هذه الحقوق فقد أقر لجميع الأفراد:
– حق الملكية الفردية:
 حيث قال تعالى: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” (النساء 29)، وشدد على من اعتدى على غيره وسرق ممتلكاته فقال تعالى: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسب نكالا من الله” (المائدة 38).
– حق الفقراء واليتامى: قال تعالى: “وآتوهم من مال الله الذي آتاكم” (النور 32)، وهذا الحق مكفول بالزكاة التي شرعها الله بضوابط معلومة حقا على الأغنياء. قال تعالى: “والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” (المعارج 24 – 25). وقال تعالى في حق اليتامى: “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا” (النساء 10).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.” (رواه البخاري ومسلم).
– حرية العقيدة: ضمن الإسلام للناس حرية التدين. قال تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (البقرة 255)، وقال سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس 99).
– حق النساء: يعتبر الإسلام المرأة كإنسان حر ومستقل لها ما عليها. قال تعالى: “ولهن مثل الذي عليهن وللرجال عليهن درجة” (البقرة 228). فالمرأة متساوية في الجزاء مع الرجل. قال تعالى: “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا” (النساء 123).
 وقد أباح الإسلام للمرأة حقها في الاستقلال الاقتصادي وذلك بما أقره الحق سبحانه وتعالى حيث قال: “للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن” (النساء 32)، فالمرأة لها الأهلية في التصرف في مالها للمتاجرة به دون إذن زوجها وهي حرة في إجراء مختلف العقود من بيع وشراء ورهن. ولا يجوز لزوجها أن يأخذ من مالها إلا إذا أذنت له.
فالنظام الإسلامي إذن قد رفع من شأن المرأة حيث:
* كرمها أمّا: وجعل حقها أعظم من حق الوالد. عن أبي هريرة رضي الله عنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله من أحق الناس بحسن مصاحبتي؟ قال: أمك … ثم أمك ثم أمك” (رواه البخاري ومسلم).
* وكرمها زوجة: قال تعالى: “وعاشروهن بالمعروف” (النساء 19)، وقال صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء خيرا” (رواه البخاري ومسلم). وقال أيضا:”خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي وابن ماجة).
* وكرمها بنتا: فأوصى على تربيتها والعناية بها، قال صلى الله عليه وسلم: ” من عَالَ جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه” (رواه مسلم).
* وكرمها أختاً وعمة وخالة: فأمر بالإحسان إليها وذلك بصلة الرحم. قال صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” (رواه ابن ماجة).

4.  وجوب الشورى:
 الشورى مبدأ إنساني يحث على “طلب الرأي ممن هو أهل له، أو هو استطلاع راي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور العامة35 . ولذلك أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:”وشاورهم في الأمر فأذا عزمت فتوكل على الله” (آل عمران 159).وقد أكدت الأحاديث النبوية هذا المبدأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما ندم من استشار، وما خاب من استخار” 36 .

وقيل في الآثار:”استعينوا على أموركم بالمشاورة”.
وذكر ابن عبد البر عن بعض السلف:” من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زلَّ”37  و قال صلى الله عليه وسلم:” ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم”38 .
بهذه الأقوال يتبين أن ” الشورى هي أصل من أصول النظام السياسي الإسلامي، بل امتدت لتشمل كل أمور المسلمين، تأسيسا على ذلك فإن الدولة الإسلامية تكون قد سبقت النظم الديمقراطية الحديثة في ضرورة موافقة الجماعة على اختيار من يقوم بولاية أمورها، ورعاية مصالحها، وتدبير شؤونها، مما يؤكد قيمة وفاعلية الإجماع عند المسلمين”39

5. التضامن بين الرعية على اختلاف الطبقات:
 قال تعالى: “إنما المؤمنون إخوة” (الحجرات 10)
إنها أخوة في الدين والحرمة، وهي أعظم درجة من أخوة النسب لأنها يمكن أن تنقطع بمخالفة الدين. ومما يترتب عن هذه الأخوة الحب والسلام والتعاون والوحدة.
قال صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” (رواه البخاري). بل هذه الأخوة تفرض على المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه حيث قال صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري).
ومن مقتضيات هذه الأخوة أيضا وليُصَان المجتمع من التفكك قال صلى الله عليه وسلم: “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” (متفق عليه).
فكل هذه الأقوال هي دعوات للوحدة والتكافل والتضامن والتعاون، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة فيعم الأمن والأمان كافة المجتمع.

  6 . بدل المناصحة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

 قال تعالى:” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” (آل عمران 104).
وفي بيان خيرية هذه الأمة المتراحمة قال تعالى:” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” (آل عمران 110).
أما في كيفية التعامل مع الجاهلين قال تعالى:” خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” (الأعراف199).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم:” إياكم و الجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”(متفق عليه).
ولأهمية هذه القيمة شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر فقال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” (رواه الترمذي).
ولتطهير المجتمع من الانحلال والفساد فقد شرع الحق سبحانه مبدأ النصيحة. قال صلى الله عليه وسلم:” الدين النصيحة” (رواه البخاري ومسلم). فالنصيحة هي منهج الأنبياء والرسل، تتنوع أساليبها، الغرض منها إرشاد الناس لما فيه صالحهم في معاشهم ومعادهم. وقد عاتب سبحانه على من ترك المناصحة فقال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه” (المائدة 80).
7. الطاعة لأولي الأمر:
  لأن القصد من الأوامر ز النواهي هو تحقيق الصالح العام، فقد كان لزاما أن يخضع المسلم لهذه الأوامر والنواهي التي هي أصلا ترتبط بالعبادة لله وحده لأنه هو المشرع، ولأن الطاعة هي فيما وافق عليه الشرع. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول” (النساء 58).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله في نفر من  أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله، وأن مِنْ طاعة الله طاعتي؟ قالوا بلى نشهد. قال: فإن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم” (متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” (رواه البخاري ومسلم).
فبالسمع والطاعة تنتظم مصالح الدين والدنيا ما لم يكن ذلك في معصية أو خروج عن حدود الله ورسوله، فيستثب الأمن ويعيش الناس وقد حفظت ضرورياتهم الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض.

خــاتــمــة:
يتبين من هذا الطرح المختصر لمفهوم الديمقراطية و قيمها، أنها نظام بشري، وبالتالي فهي نظام قاصر يمكن إخضاعه لهوى النفس. كما أنه نظام دنيوي لا يؤمن بالحساب الأخروي، وبذلك يمكن اختراقه و الالتفاف عليه وإن وضع له أجهزة مراقبة دقيقة وصارمة.
وفي المقابل نجد أن النظام الإسلامي ومنهجه هو نظام يقوم على شرع الله، وبالتالي فليس لهوى النفس فيه نصيب.
قال ابن تيمية رحمه الله “إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد و تقليلها” 40
وقال ابن القيم رحمه الله: “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة ومصالح كلها وحكمة”41 .
أما العز بن عبد السلام فقال: “إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح”42 .
فالنظام الإسلامي جاء لإقامة العدل وإحقاق الحقوق والتعاون على المصالح والنهي عن الشرور، وحماية المستضعفين ، ونبذ التمييز العنصري على أساس عرقي أو إثني أو غيره من العنصريات، و تحقيقالسلم محليا ودوليا.   

 المراجع:

1– معجم اللغة العربية المعاصر.
2– هو شارل لوي دي سيكوندا المعروف باسم مونتسكيو (1689-1755). فيلسوف فرنسي صاحب نظرية “فصل السلطات”.
3- روح القوانين لمونتسكيو. د. حسن سعفان. ص28. ط 1995.
4- الديمقراطية في الإسلام . عباس محمود العقاد. ص13.
5-  المرجع السايق. ص17.
6- المرجع السابق ص 20
7- المرجع السابق ص 21
8- جون ستيورت ميل فيلسوف إنجليزي (1806- 1873) أبرز مذهب اللذة والمنفعة.
9- معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية د. أحمد زكي بدري ط 1982
10- كتاب الحرية لجون ستيورت ميل. د. حسن فوزي ص 49
11- روح القوانين مونتيسكيو د.حسن سعفان ص 97
12- المرجع السابق ص38.
13- المرجع السابق ص44
14- الرسالة الثانية. جون لوك من كتابه رسالتان في الحكم. والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو. الكتاب الثاني الفصل 1.
15- يرجع إلى إعلان حقوق المرأة والمواطنة 1971. والقانون المدني لعام 1804 (قانون نابوليون)
16- انظر مقدمة الدستور 1946 الفقرة الثالثة
17- القانون والقيم الاجتماعية. نعيمة عطية ص 31
18- اللوفيثان. توماس هوبز 1654 (Leviathan)
19- بانتام فيلسوف إنجليزي (1782- 1832)
20- مذهب اللذة عند بانتام. كتاب مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع
21- اللوفيثان. الفصل 13 هوبز
22- نفس المرجع
23- نظرية العقد الاجتماعي عند جون لوك
24- العقد الاجتماعي. جون جاك روسو. د. حسن سعفان. ط 1995
25- جان بودان لوك فيلسوف فرنسي (1530-1596) اشتهر بنظرية “السيادة”.
26- الجمهورية. جان بودان. ط 1576.
27- الدولة والسيادة. د. فتحي عبد الكريم ص 75 بتصرف
28- السيادة والحرية. دوجي
29- العقد الاجتماعي جون جاك روسو. ترجمة عبد الكريم أحمد ص 95
30- أزمة الديمقراطية الغربية. الصديق محمد الشيباني.ص 36 بتصرف
31- هو جوزيف شمبتير (1883- 1950). اقتصادي وعالم اجتماع أمريكي
32- البديل. روجي جارودي ص 34
33- الديمقراطية في الإسلام. عباس محمود العقاد. ص107
34- رواه البخاري ومسلم
35-  نظام الدولة في الإسلام و علقتها بالدول الأخرى. جعفر عبد السلام. ص199
36-  أخرجه الطبراني في معجمه الكبير
37-  جامع بيان العلم وفضله ج1/142
38-  أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط
39-  تاريخ النظم و الحضارة الإسلامية. فتيحة النبراوي. ص24
40- منهاج السنة النبوية. ابن تيمية.  ج1/147
 41- إعلام الموقعين. ابن القيم ج3/1
 42- قواعد الأحكام. العز بن عبد السلام ج1/9

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق