مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الدور الدعوي لرجال التصوف

د. طارق العلمي

  عمل رجال التصوف على الاهتمام بنشر عقيدة الإسلام، وتصحيح معانيها في النفوس، وذلك عن طريق التشبع الذوقي بقضايا العقيدة، وهو ما يلاحظ في الأذكار التي يتم تلقينها في الزوايا والمجالس، عمادها الإكثار من ذكر “لا إله إلا الله”، وبالتالي فلم يتجه أغلبهم نحو الاشتغال بعلم الكلام، بل اتخذوا العمل التعبدي منهاجا لتحقيق سلامة قلبية واعتقاد صحيح لا يشوبه تشبيه أو تعطيل، منطلقين من أساس قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).[1]  

   كما انطلق أهل التصوف في نشر تعاليم الإسلام، من مبدإ يتمثل في كون الدعوة المحمدية هي رسالة رحمة للعالمين، لذلك فإنهم لا يألون جهدا في أن تصل أحكام الدين إلى أبعد مدى من رقع المعمور، كما يروي ذلك ابن الزيات في ترجمته لأعلام أهل المغرب، حيث ينقل عن أحدهم وهو محمد بن إسماعيل الهواري قوله: “سمعت أبا يحيى السائح يقول: وجدت في جزائر بحر المغرب أقواما لا يعرفون الإسلام. فعلّمت الرجال والنساء الإسلام والشرائع ولم أفارقهم حتى كانوا يُصلُّون صلاة التسبيح؛ ثم دخلت بلاد السودان. فرغب إليّ ملِكُهُم أن أقيم عنده ويُسلِّم لي أمره فأبيت”.[2]

   وهناك العديد من المواقف التي برز فيها أهل التربية كرواد للعمل الدعوي، وفق منهج يتسم بالحكمة، والدفع بالتي هي أحسن، وذلك أنهم في سفرهم وحضرهم تكون الدعوة ديدنهم، كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكريم المغيلي الذي “استقر ببلاد توات من الصحراء ونشر العلم هنالك، وبلغت دعوته إلى بلاد السودان فأسلم على يده سلطان تيمبكتو أو أهل عمله وحسُن إسلامهم، فهي على حالة حسنة إلى هذا العهد، والإسلام في بلادهم غض وشعائره مستجدة، وملكهم على الغاية في تعظيم العلم والعلماء، وإجلال أهل البيت وإكرام الغرباء… “.[3]

   في حين عُرِف عن عبد الله بن محمد الهبطي، أنه لم يُر أحد من الرجال والنساء بزاويته إلا أن يكون تاليا لكتاب الله، أو ذاكرا لأسمائه أو متعلِّما لمعرفته، “وكان أحرص الناس على تعليم عباد الله، ويأمر من يلقي بتعليم الأهل والأولاد والعبيد والخدام والإماء، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك من حُمْر النِّعم”[4]. وكان كثيرا ما يحض على فهم مدلول الشهادتين، بل اتخذ ذلك هِجِّيرا وديدنا، لما رأى من استيلاء الجهل على الخلق.

    وألّف في علم الهيللة أجزاء كثيرة أكبرها جرما وأكثرها فائدة كتاب الإشادة بمعرفة مدلول كلمة الشهادة. وكانت سيرته الذكر والذكرى، وبذل النصيحة لكافة الورى، وطريقته الخاصة مع خواص أصحابه، على المشاهدة والعلوم الدينية”.[5]     

   وكان يحيى الزواوي شديد الحرص على تغيير المنكرات المتفشية في واقع مجتمعه، فقد ذكر عنه التادلي، أنه في “اليوم الذي مات فيه وعظ الناس وصاح وضرب في صدره…، إلى أن بح صوته وانقطع”.[6]

   بل إن العمل الدعوي لدى صوفية المغرب امتد مجاله إلى بلاد المشرق، كما هو الشأن بالنسبة لعلي بن ميمون الشريف الحسني، الذي طبقت علومه الآفاق، حيث أنه لما قدم إلى بلاد المشرق، انتشرت علومه هناك، “ودعا الخلق إلى الحق، فهدى الله به من سبقت له العناية من عباده، وخلف الفحول من تلامذته، واندرست الطريق بطريقته، فالطريق الميمونية بالمشرق كالطريق الشاذلية بالمغرب. ألف كتبا كثيرة كلها نافعة، وأنكر على المشارقة جميع ما أحدثوه من البدع وأماتوه من السنن، وألف تأليفا في ذلك سماه بيان غربة الإسلام بواسطتي صنفين من المتفقهة والمتفقرة من أهل مصر والشام وما يليهما من بلاد الأعجام، انتصر فيه لإحياء السنة وإماتة البدعة، وكشف أحوال المبتدعين من المصنفين، وبيّن التربية النبوية…”.[7]

   ومن تجليات العمل الدعوي الصوفي المغربي في السودان، ما كانت تلعبه الرباطات في إشاعة الثقافة والدين الإسلامي، “بفضل ما توفره من شروط الاستراحة للقوافل وعابري السبيل. وما تقدمه لروادها من أنواع الضيافة والإكرام والمساعدة. هذا إلى جانب مهمتها الأساسية الدينية والعلمية. ولا شك أن رباط «ابن ياسين» يقربنا كثيرا من أهمية دور «الرباط» في تاريخ الغرب الإفريقي عامة وإفريقيا على وجه الخصوص”.[8]

   وهنا يذكر مشروع أبو محمد صالح الماجري وما قام به من مجهودات، في رفع الموانع التي جعلت الفقهاء يفتون بإسقاط فريضة الحج عن المغاربة، فأمنوا الطرقات ونظموا الرحلات وأنشأوا المحطات، “ولم تزل جملة من تلاميذه رحمه الله ببلاد مصر والشام، فمتى ورد من المغاربة أحد وأراد الإقامة بهما قبل أن يحج، فإن كان ذلك لعدم أعانوه وتسببوا له، وإن كان لغير ذلك هجروه وزجروه وقطعوه حتى يحج، ولم يزل ذلك دأب كل من قعد بعده للتربية، حتى شرع هذا الطريق ببلاد المغرب”.[9]    

   كما أن الدعوة في نشر تعاليم الإسلام قد بلغت عند الصوفية أوْجَهَا، امتزجت عندهم بالصدق في القول، والاستقامة في السلوك، والصفاء في الأحوال، فكانوا نماذج للاهتداء الأخلاقي، وما انتشار الإسلام في جنوب الصحراء وغيره من المناطق عبر الطرق الصوفية، إلا دليلا على نجاعة المنهج الصوفي في الأخذ بمجامع القلوب، والنفاذ إلى مكامن الشعور بطريق الحكمة والموعظة الحسنة وصدق الطوية، وهذا المعنى نجده في قصة أبي مدين حين رحلته إلى فاس، حيث كان لا يتبث على شيء من كلام فقهائها، إلى أن جلس في حلقة أبي الحسن بن حرزهم الذي تبث كلامه في قلبه، فحين أخبره بذلك، قال: “هؤلاء يتكلمون بأطراف ألسنتهم فلا يجاوز كلامهم الآذان. وقصدت الله بكلامي فيخرج من القلب ويدخل القلب”.[10] فهي ليست دعوة قولية فحسب، وإنما هي أقوال وأفعال وأحوال أيضا، على اعتبار أن الداعية لا ينبغي له مباشرة دعوته حتى يكون ذا أهلية ورسوخ في التعاليم التي ينوي الدعوة إليها، حتى لا يخالف قوله عمله.

   يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في إحدى مقدماته، بأن “للعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات…، وهي ثلاث:

  إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله…

  والثانية: أن يكون ممّن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وهكذا كان شأن السلف الصالح…، والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا في كل قرن. وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه، أعني بشدة الاتصاف، وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين كذلك كانوا، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى، فلما تُرك هذا الوصف رفعتِ البدع رؤوسها، لأن ترك الاقتداء، دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى”.[11]

   فظهر أن أهل التصوف قد بلغوا مبلغا كبيرا في ممارسة الدعوة بكل تجلياتها، مستثمرين جميع قدراتهم نحو استيعاب فئات المجتمع، غير مقتصرين على مسلك واحد، كما هو الشأن فيمن يتخذ الجانب الوعظي كأساس وحيد لتبليغ تعاليم الإسلام.

 

هوامش.

[1] البخاري: الصحيح، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم  52.

[2] التادلي: التشوف، ص: 411.

[3] محمد بن عسكر الحسني الشفشاوني (ت986ھ): دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق: محمد حجي، راجعه ورقّم فهارسه: عبد المجيد خيالي، منشورات مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، ط3، 1424ھ/2003م، ص: 118.

[4] البخاري: الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، رقم 2009. بلفظ [لأن يهدي الله بك رجلا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم].   

[5] الشفشاوني: دوحة الناشر، ص: 20.

[6] التادلي: التشوف، ص: 428.

[7] الشفشاوني: دوحة الناشر، ص ص: 33-34.

[8] أحمد بوكاري: الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب (1204-1330/1790-1912)، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المملكة المغربية، ط1، 1427ھ/2006م، 115/2.

[9] أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي محمد صالح بن ينصارن الماجري المغربي: المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح، تخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1428ھ/2007م، ص: 285.

[10] التادلي: التشوف، ص: 320.

[11] الشاطبي: الموافقات، 67/1.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق