مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

الخنساء بنت عمرو، رضي الله عنها، رمز للشجاعة، وتألق في الشعر.

 

 

 

 إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

اسمها: تُمَاضِرُ بنتُ عَمْرٍو، بن الحارث، بن الشَّرِيد.

كانت شاعرة شهيرة، تَفَجَّرَ الشِّعْرُ على لسانها بعد فجيعتها بأخيها صَخْرٍ في الجاهلية، فَرَثَتْهُ رثاء حزينا جعل منها أعظم شاعرة للرثاء، ومن أجمل قصائدها في صخر القصيدة التي مطلعها:

قَذىً بعينيك أم بالعين عُوَارُ  **  أم أَقْفَرَتْ إذ خَلَتْ مِن أهلها الدار

ومن جميل ما قالته أيضاً:

أَعَيْنَيَّ جُودَا ولا تَجْمُدَا  **  أَلَا تَبْكِيَانِ لصَخْرِ النَّدَى

ألاَ تَبْكِيَانِ الجَرِيءَ الجميلَ  **  أَلَا تَبْكِيَانِ الفَتَى السَّيِّدَا([1]).

قَدِمَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قومها من بني سُلَيْم، وأعلنت إسلامها وتبنيها لعقيدة التوحيد، وحَسُنَ إسلامها حتى أصبحت رمزاً متألقاً من رموز البَسَالة، وعزة النفس، وعنواناً مُشرفاً للأمومة المسلمة.

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستنشدها ويعجبه شعرها، وكانت تُنْشِدُه وهو يقول: «هِيه يا خُنَاس ويُومِئُ بيده»([2]).

ولما قدم عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحادثه فقال: يا رسول الله إن فينا أشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَمِّهِم».

فقال: أَمَّا أَشْعَرُ الناس، فامرؤ القيس بن حُجْرٍ، وَأَمَّا أَسْخَى الناس فحاتم بن سعد- يعني أباه- وَأَمَّا أَفْرَسُ الناس، فَعَمْرو بنُ مَعْدِ يكَرِبَ.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ليس كما قلت يا عَدِي، أَمَّا أَشْعَرُ الناس، فالخنساءُ بنتُ عَمْرٍو، وَأَمَّا أَسْخَى الناس، فمحمد يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا أَفْرَسُ الناس، فعلي بن أبي طالب»([3]).

وإلى جانب شعرها- الذي تميَّزت به حتى قيل فيها: لقد أجمع أهل العلم بالشِّعْرِ أنه لم تكن امرأةٌ قبلها ولا بعدها أَشْعَرَ منها([4])؛ فقد كان لها مواقف نضالية رائعة في سبيل الذَّوْدِ عن الدِّينِ وَنُصْرَةِ الحق، فخرجت في كثير من غزوات المسلمين، وَصَحِبَتْ جيوشهم الظَّافِرَة.

ولما تَوَجَّهَ المُثَنَّى بنُ حارثة الشَّيْبَاني إلى القادسية- زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- كانت الخنساء ومعها أولادها الأربعة في رفقة هذا الجيش.

وفي أرض المعركة، وليلة الْتِحَامِ الصَّناديد مع بعضهم البعض، جمعت الخنساء أولادها الأربعة لِتُوجِّهَهُمْ، وَتُحَرِّضَهُمْ على القتال، وعدم الفرار، وَتُحَبِّبَ إليهم الاستشهاد في سبيل الله، فلنستمع إلى تلك الوصية العظيمة، وهي تقول:

(يا بَنِيَّ إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هَجَّنْتُ حَسَبَكُم ولا غَيَّرْتُ نَسَبَكُم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)([5]).

فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فَاعْدُوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شَمَّرَتْ عن ساقها، وَاضْطَرَمَتْ لظىً على سِياقها، وجلَّلَتْ ناراً على أرواقها، فتيمَّمُوا وَطِيسَهَا، وجالِدُوا رئيسها عن احتدام حميسها تظفروا بالغُنْم والكرامة في الخلد والمُقَامَة…

واستمع أولادها إلى تلك الوصية، وخرجوا من عندها قابلين لنصحها عازمين على قولها. فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم واندفعوا إلى لقاء العدو وهم يرتجزون، فقال أولهم:

يا إِخْوَتِي إنَّ العجوزَ النَّاصِحَهْ  **  قد نَصَحَتْنَا إذ دَعَتْنَا البَارِحَهْ

مقالةً ذاتَ بيانٍ واضحَهْ  **  فَبَاكِرُوا الْحَرْبَ الضَّرُوسَ الكَالِحَهْ

وإنما تَلْقَوْنَ عندَ الصائحهْ  **  من آلِ سَاسانَ الكلابَ النَّابِحَهْ

قد أيقنُوا منكمْ بِوَقْعِ الجائحهْ  **  وأنتمُ بيْن حياةٍ صالحهْ

أَوْ مَيْتَةٍ تُورِثُ غُنْماً رابحهْ([6]).

ثم تقدم فقاتل حتى قُتل، فحمل الثاني وهو يردد:

إن العجوزَ ذاتَ حَزْمٍ وَجَلَدْ  **  والنظرِ الأَوْفَقِ والرَّأْيِ السَّدَدْ

قد أَمَرَتْنَا بِالسَّدَادِ والرَّشَدْ  **  نصيحةً مِنها وَبِرّاً بالولَدْ

فباكِرُوا الْحَرْبَ حُمَاةً في العَدَدْ  **  إِمَّا لِفَوْزٍ باردٍ علَى الكَبِد

أَوْ مَيْتَةٍ تُورِثُكُمْ عِزَّ الأَبَد  **  في جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ والعَيْشِ الرَّغدْ([7]).

ثم تقدم وقاتل حتى استشهد، فحمل الثالث وهو يقول:

والله لا نَعْصِي العَجُوزَ حَرْفاً  **  قَدْ أَمَرَتْنَا حَرَباً وَعَطْفا

نُصْحاً وَبِرّاً صادقاً وَلُطْفا  **  فبادِرُوا الحَرْبَ، الضَّرُوسَ زَحْفا

حَتَّى تَلَقَّوْا آلَ كِسْرَى لَفّا  **  أَوْ يَكْشِفُوكُمْ عن حِمَاكُمْ كَشْفا

إِنَّا نَرَى التَّقْصِيرَ مِنْكُمْ ضَعْفا  **  وَالقَتْلَ فِيكُمْ نَجْدَةً وَزُلْفَى([8]).

ثم تقدم فقاتل حتى اسْتُشْهِد، فَحَمَلَ الرابع وهو يرتجز أيضا:

لستُ لِخَنْسَاءَ ولا لِلْأَخْرَم  **  ولا لِعَمْرٍو ذِي السّناءِ الأَقْدَم

إِنْ لَمْ أَرِدْ في الجيشِ جيشِ الأعجم  **  ماضٍ عَلَى الهَوْلِ خِضَمٍّ خِضْرِمِي

إمَّا لِفَوْزٍ عَاجِلٍ وَمَغْنم  **  أَوْ لوفاةٍ في السَّبِيلِ الأَكْرَم([9]).

ثم تقدم فقاتل حتى قُتل.

ولما بلغ الخبر إلى الأم المؤمنة الصابرة، لم تَجْزَع، ولم تَنْدُبْ، بل قالت قولتها المشهورة التي بقي التاريخ يُرَدِّدُها وسَيُرَدِّدُها إلى ما شاء الله:

(الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).

وكان عمر بن الخطاب يعرف فضل الخنساء وأولادها فما زال يعطيها أرزاق أولادها الأربعة حتى قُبِض.

وتوفِّيت الخنساء بالبادية في أول خلافة عثمانَ بنِ عفَّان رضي الله عنه، سنة (24هـ)([10]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

1- الإسلام الحَقُّ يَصُوغُ المُسْلِمَ صياغةً ربَّانيةً؛ يُصَحِّحُ عقيدتَه، وَيُهَذِّبُ أخلاقَه، وَيُحَبِّبُ له النفع العام.  

2-  الشعر في ميزان الإسلام صنفان: صنف محرَّم خبيث، وصنف محبَّب حسن، وقد بيَّن القرآن الكريم شعراء كل من الصِّنفين، فقال: (وَالشُّعَرَاءُ يَتْبَعُهُمُ الغَاوُون أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِمَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون)([11]).                               

3-  الرسول، صلى الله عليه وسلم، يُصَوِّبُ المراد الحق بأشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس.

4-  الشاعرة الخنساء خير مثال للمرأة المسلمة الصالحة، المدافعة عن عقيدتها ودينها بقولها، وفعلها.

5-  تأثير المرأة (الأم) الصالحة في تربية الأجيال، وقيادتهم نحو النفع العام، ونحو الخير والفضيلة.

6-  في تاريخ الأمة الإسلامية صفحات مشرقة لنساء رائدات، خلَّدت ذِكْرَاهُنَّ الأجيالُ تِلْوَ الأجيال.

7-  أشعار الإخوة الأربعة تصُبُّ في سياق واحد، وتهدف لغرض واحد، وبميزان موسيقي واحد، دلالة على وحدة التوجيه، ووحدة القَصْد والهدف.

8-  قوة الإيمان تمنع حدوث الصَّدمة عند نزول الحوادث على اختلافها.

9-  الخنساء الجاهلية لم تَصْبِرْ على موت أخيها «صخر»؛ فَلَازَمَتْ بكاءهُ بالليل والنهار، قائلة:

يُذَكِّرني طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْراً  **  وَأَذْكُرُهُ لِكُلِّ غُرُوبِ شَمْس

 وَلَوْلَا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي  **  عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي([12]).

10- والخنساء المسلمة في ظِلِّ الإسلام صَبَرَت، بل وَفَرِحَتْ باستشهاد أبنائها الأربعة في سبيل نصرة الحق، قائلة: «الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُسْتَقَرِّ رحمته»([13]).

11- عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عَرَفَ فَضْلَ الخنساء وأولادها. والفضل يَعْرِفُهُ ذَوُوه.

والحمد لله رب العالمين

 


([1]) من البحر المتقارب.

([2]) الوافي بالوفيات؛ لصلاح الدين الصفدي: 10/ 240، الإصابة في تمييز الصحابة؛ لابن حجر 8/ 66.  

([3]) أخبار النساء في العِقْد «الفريد»؛ لابن عبد ربه الأندلسي، ص: 71، اتفاق المباني وافتراق المعاني؛ لتقي الدين الدقيقي، ص: 132، أعلام النساء في عالمي العَرَب والإسلام؛ لعمر رضا كحالة: 1/ 360.

([4]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ لابن عبد البر: 4/ 1827، أسد الغابة؛ لابن الأثير: 6/ 89، الإصابة لابن حجر: 13/ 335.  

([5]) سورة: آل عمران، آية: 200.  

([6]) من البحر الرجز.

([7]) من البحر الرجز.

([8]) من البحر الرجز.

([9]) من البحر الرجز.

([10]) القصة من كتاب: نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لمؤَلِّفَيْه: محمود مهدي الإستانبولي، ومصطفى أبو النصر الشلبي، ص: 256- 259.  

([11]) سورة: الشعراء، الآيات: 224- 227.  

([12]) ديوان الخنساء.  

([13]) الوافي بالوفيات؛ لصلاح الدين الصفدي: 10/ 244.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق